تركيا والاتحاد الاوروبي، النمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته تركيا في العقد الماضي، والذي ترافق مع زيادة في قوتها العسكرية والسياسية، وتنويع علاقاتها الدولية مع الجهات الفاعلة الأخرى في العالم، مثل الاتحاد الاوروبي.
حدد- بوضوح- الدور المهم الذي تضطلع به هذه الدولة، في ظل عصر الانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
جمهورية تركيا الحديثة هي إحدى الدول المتعددة الأعراق واللغات ذات الإمكانات الكبيرة. إن موقع البلاد المذهل على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا لم يؤد إلى امتلاكها موقعًا جيوسياسيًّا مفيدًا فحسب، بل أدى أيضًا إلى سعي كثير من القوى في الغرب والشرق إلى الهيمنة على قراره السياسي، وهو ما انعكس على الطبيعة المزدوجة للسياسة الخارجية للبلاد. تناور تركيا اليوم بين ادعاء زعامتها للعالم الإسلامي وتحالفها مع أوروبا. لعدة أسباب، يظل الاتحاد الأوروبي شريكًا ذا أولوية لتركيا فترة طويلة، حيث تتطور العلاقات معه بشكل متذبذب.
تمر جمهورية تركيا الحديثة بأوقات عصيبة، حيث تقف على حافة أزمة نظامية أثرت في جميع مجالات الحياة. ويرافق نقطة التحول هذه انخفاض في مستوى الثقة بالحزب الحاكم، وكذلك في الرئيس أردوغان شخصيًّا، الذي ترتكز سياساته على ظاهرة السلطة الشخصية. أصبحت نتائج الانتخابات الرئاسية التركية عام 2023، علامة واضحة على الاستقطاب السياسي الحاد داخل المجتمع، فضلًا عن تزايد حصة القوى ذات التوجهات المعارضة التي تطالب بتغييرات حقيقية. وفي سياق خلق واقع جيوسياسي جديد، تهيمن المشاعر التآزرية الأوروبية بين النخبة السياسية في الجمهورية التركية، وهو ما يرتبط بكثير من الأسباب الاقتصادية، والسياسية.
ويجري وضع إستراتيجية للتفاعل مع الدول الأوروبية تحت تأثير الجولة التالية من الركود الاقتصادي الدائم، التي بدأت عام 2018، وبلغت ذروتها عام 2022، بالتزامن مع ضعف العملة الوطنية عدة مرات، واستمرار الركود الاقتصادي. يشير ارتفاع مستوى التضخم بشكل دائم، وتحطيم جميع الأرقام القياسية، وانخفاض المستوى الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع أسعار موارد الطاقة والسلع الأساسية، إلى أزمة نظامية أثرت في جميع مناحي الحياة. إن استقرار الحكومة الحالية سيعتمد على قدرتها على اتخاذ إجراءات حقيقية، من خلال بنّاء حوار بناء بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية لحل المشكلات الملحة من أجل منع تفاقم الأزمة. اليوم، تركيا في حاجة ماسة إلى تحويل مستمر للأموال الضخمة، التي يمكن العثور عليها بسرعة، وبكميات كافية في أوروبا. وهكذا تصبح مسألة الاندماج في الفضاء الأوروبي مشكلة أساسية لتركيا، يجب حلها في المستقبل القريب؛ لإعادة الدولة إلى وضعية التنمية المستقرة. وفي هذا الصدد، فإن إحدى المهام الرئيسة لرئاسة أردوغان هي بناء حوار ذي مهمة محددة بشأن مسألة الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي.
يظل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أحد العوامل الرئيسة في السياسة الخارجية، التي اكتسبت صفة رسمية في النصف الثاني من القرن العشرين. منذ نشوء تركيا الحديثة، أظهرت- صراحة- رغبتها في أن تكون جزءًا من المجال الأوروبي، وهو ما يرجع إلى الازدواجية الحضارية لتركيا، وخصوصيات تكوينها السياسي في الفترة من عام 1923 إلى عام 1938؛ مما كان له تأثير كبير في الهوية السياسية للدولة في المستقبل.
في أثناء استقطابات الحرب الباردة، تم التوقيع على اتفاقية الشراكة بين تركيا والمجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1963، التي تضمنت أيضًا مزيدًا من الارتباط السياسي. ولم تحصل الجمهورية على صفة المرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلا في عام 1999، بعد الموافقة على الطلب الرسمي للانضمام، وأصبح ذلك إحدى الخطوات الرئيسة الأخيرة نحو التكامل الحقيقي حتى عام 2023.
ووفقًا لخطة النخبة السياسية التركية، التي تثبت التزامها بفكرة الارتباط مع أوروبا، كان من المفترض أن يكون العام الحالي بمنزلة المرحلة الأخيرة في هذه العملية المطولة، لكن المفوضية الأوروبية أعلنت، في يوليو (تموز) 2023، استحالة قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي حتى عام 2025، ويعود ذلك إلى وجود مجموعة من الأسباب. المشكلة الرئيسة التي تعقد- كثيرًا- انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، تظل عدم امتثالها لـ”معايير كوبنهاغن”- المعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي عام 1993. وعلى مدى عقدين من الزمن، تحققت أعظم النجاحات على مستوى الاتحاد الأوروبي. تحقق مسار التحول النظامي في المجال الاقتصادي التركي، ليعمل وفق معايير السوق الحرة، كما اعتُمدت مجموعة من التدابير الرامية إلى تحرير الاقتصاد، ومنها: إضعاف سيطرة الدولة على الأعمال التجارية، وتحسين مناخ الاستثمار، وتحرير الأسعار، وانتهاج سياسة نقدية جديدة، لكن عدم استعداد الجمهورية لتحولات سياسية مهمة، أدى إلى تجميد التفاوض على هذا المسار.
تتميز المرحلة الحالية من تطور النظام السياسي في تركيا بانتشار النزعات الاستبدادية، التي تحددها خصوصيات التكوين التاريخي والسياسي للدولة. وفي ظل إدارة أردوغان، كان هناك تخلٍّ منهجي عن خلق نموذج ديمقراطي لتنظيم النظام السياسي للدولة. بعد محاولة الانقلاب عام 2016، أُجري استفتاء لتعديل الدستور الحالي، صوت فيه أكثر من 50٪ من الناخبين، وهو ما يمثل بداية التحول في النظام من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية، مع توسع كبير في صلاحيات رئيس الدولة.
وفيما يتصل بمسألة اندماج تركيا الشامل في الفضاء الأوروبي، فمن الأهمية بمكان أن نأخذ في الحسبان معضلة تقرير المصير الوطني. وترتبط صعوبات تحديد الهوية الذاتية بالطبيعة الخاصة للموقع الجغرافي التركي بين الغرب والشرق. لتنظيم استجابة كفء للتحديات العالمية الناشئة من أجل الحفاظ على الاستقلال الجيوسياسي، والاجتماعي، والثقافي، تبني جمهورية تركيا الحديثة سياساتها الخارجية والمحلية من خلال منظور الهوية الحضارية والدينية، من خلال مناشدة الماضي العثماني العظيم، الذي يملك صدى لدى جزء كبير من السكان، سئموا من الضغط الأيديولوجي الغربي. يتزامن ذلك مع ازدياد في قوة العالم الإسلامي، وتمتع كثير من دوله بإمكانات سياسية كبيرة، عازمة على أن تصبح قاطرة للتقدم العالمي.
من بين المشكلات الرئيسة التي تؤثر في مصالح تركيا، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت المسائل المتعلقة بسيادة شمال قبرص، وحق استغلال آبار الغاز الطبيعي في الجرف القاري لشرق البحر الأبيض المتوسط، والجدل الساخن بشأن الإبادة الجماعية للأرمن، الذي اتخذ طابعًا سياسيًّا؛ والموقف العدائي للبرلمان الأوروبي تجاه مشاركة تركيا في صراعات الشرق الأوسط، فضلًا عن عدم رغبة تركيا في وقف الاتصالات بشكل كامل مع الدول التي تتعرض لعقوبات. إن هذه القضايا المثيرة للجدل تتجاوز أجندة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وتصبح من العوامل المهمة لتعليق التفاوض بشأن العضوية فترة غير محددة. إن حصول تركيا على مكانة العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي سيؤدي حتمًا إلى زيادة احتمالات الصراع داخل الاتحاد، الذي يتخذ أعضاؤه اليوم بالفعل مواقف مختلفة بشأن قضايا ذات طبيعة مختلفة.
هناك أيضًا عدد من الأسباب الاقتصادية التي تعوق عملية التكامل؛ فقبول تركيا في صفوف أوروبا الموحدة، التي ضعفت كثيرًا بسبب أوضاعها الاقتصادية، يعني التعجيل ببداية كارثة اجتماعية. وفقًا لمواد المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي (يوروستات)، فإن مستوى النمو السكاني الطبيعي في دول الاتحاد الأوروبي ظل سلبيًّا عدة سنوات، وهو ما قد يكون بسبب التغير في هيكل الهرم العمري والجنس نتيجة للتغير المناخي، وآثار جائحة كوفيد- 19، فضلًا عن الاتجاهات الاجتماعية والثقافية الجديدة، ومنها تأخر الإنجاب. وستؤدي إزالة الحواجز إلى زيادة ضخمة في تدفقات الهجرة، وخاصة اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا. مرة أخرى، يقف الاتحاد الأوروبي على حافة أزمة هجرة واسعة النطاق، ويواجه تهديدًا حقيقيًّا بالتمييز في تكوينه الوطني. إن توسع وجود الجماعات الإسلامية الرجعية في الشتات، التي تتخذ أنشطتها الأشكال الأكثر تطرفًا، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الوضع الأمني في أوروبا كثيرًا.
في هذه المرحلة من تطور العلاقات، بين تركيا والاتحاد الاوروبي، تعلن أوروبا –صراحة- عدم رغبتها في قبول الجمهورية التركية في صفوفها في المستقبل القريب، ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي ليس مستعدًا لتدهور العلاقات مع دولة تحتل موقعًا رئيسًا في النظام العالمي. إن الاضطراب المتزايد في الوضع الجيوسياسي، المصحوب بضغوط العقوبات على عدد من الدول، يزيد من أهمية تركيا للاتحاد الأوروبي بوصفها شريكًا تجاريًّا رئيسًا، ومركزًا للطاقة، وضامنًا للاستقرار على مفترق طرق الغرب والشرق، ومن غير المقبول السماح للعلاقات مع هذه الدولة ذات الأهمية الإستراتيجية أن تبرد.
ونتيجة لذلك، يهتم الجانبان اليوم بإعادة تنظيم الحوار، وتكثيف العلاقات التجارية، والاقتصادية، والسياسية من خلال توسيع أشكال التفاعل. يُبنى الاتجاه الحالي للتعاون في القضايا الدولية من خلال كتلة شمال الأطلسي، التي أثبتت فاعليتها في التعاون بين الطرفين على مدى عدة عقود، وكذلك في إطار مسارات التفاوض التي تؤثر في التعاون السياسي والعسكري في القضايا الرئيسة للعلاقات الدولية.
قد تكون إحدى المهام الرئيسة للاتحاد الأوروبي على المدى المتوسط هي تأخير قبول الجمهورية التركية في صفوفه، مع الحفاظ على المستوى الحالي للعلاقات، ومواصلة تعزيز الشراكة الإستراتيجية.
بناءً على ما سبق، فإن رغبة تركيا في دخول “البيت الأوروبي” تمليها مشكلات داخلية ذات طبيعة اجتماعية، واقتصادية، وسياسية؛ مما يشير إلى وجود أزمة نظامية في الدولة. إن الحصول على مكانة العضو الكامل في أوروبا الموحدة يشكل جزءًا مهمًّا من سياسة تركيا، وهو ما من شأنه أن يسمح لها بمواصلة تطورها الاقتصادي والسياسي المنهجي. ومع ذلك، فإن دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لن يصبح ممكنًا إلا بعد حدوث تحول جذري في النظام السياسي، وهو ما لن يحدث إلا مع تغيير السلطة، فضلًا عن زيادة نسبة الممثلين الموالين للغرب في النخبة السياسية التركية، التي ستكون مستعدة لإخضاع مصالح البلاد لرغبات أوروبا.
المصدر: مجلس الشؤون الدولية الروسي (RIAC)
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.