في تصريحات المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، يوم 27 أغسطس (آب) 2025، برز بوضوح تكتيك موسكو السياسي الجديد في الإشادة بالدور الأمريكي في جهود التسوية الأوكرانية. فبعد قمة ألاسكا بين بوتين وترمب، وصف الكرملين الحوار مع واشنطن بأنه “مفيد وبناء”، ليؤكد بذلك موقفه بأن القناة الثنائية الروسية- الأمريكية هي الإطار الأنجع لمناقشة الضمانات الأمنية.
يعكس هذا التوجه -في رأيي- إدراكًا روسيًّا بأن واشنطن، لا بروكسل، هي الطرف الوحيد القادر على التأثير المباشر في كييف، سواء عن طريق الضغط السياسي، أو من خلال ضبط إمدادات السلاح.
ومن هنا، جاءت تصريحات بيسكوف التي شددت على أن الاتصالات مع المفاوضين الأوكرانيين مستمرة من خلال قنوات غير علنية، لكن تحديد موعد جولة جديدة يظل مرهونًا بمدى التقدم في صياغة “الضمانات الأمنية” عبر القنوات الأمريكية- الروسية.
في الوقت نفسه يتصاعد التحفظ الروسي على العلن والعلنية الأوروبية، فبيسكوف شدد على أن المناقشة العلنية للضمانات الأمنية تضر بالنتائج العامة، وهذا الموقف لا ينفصل عن تفضيل موسكو الحوار المغلق مع واشنطن، حيث يمكن الوصول إلى صيغ عملية، بعيدًا عن المزايدات الإعلامية.
في المقابل، تميل أوروبا إلى العلن والمبالغة في الطرح؛ فرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني عادت وصرحت مجددًا، 27 أغسطس (آب)، أن الضمانات الأمنية لأوكرانيا يجب أن تكون مستوحاة من المادة الخامسة لميثاق الناتو، أي الدفاع الجماعي، وهذا التصور يُظهر أن العواصم الأوروبية تريد إضفاء طابع أطلسي مباشر على أمن كييف، وهذا -بلا شك- موقف يزيد مخاوف موسكو، ويوسع الهوة مع الكرملين.
وفي هذا السياق، يعكس بيان وزارة الدفاع الروسية الصادر -الأربعاء- عن السيطرة على بلدة “بيرفومايسكويه” في دونيتسك، وتقدم القوات في مقاطعة دنيبروبتروفسك، استمرار العمليات بوتيرة تهدف إلى استنزاف منظم أكثر من كونه اندفاعًا واسعًا، وبالتوازي مع ذلك تواصل الدفاعات الجوية اعتراض عشرات المسيّرات الأوكرانية، بما يعزز فرضية أن الحرب ستدخل مرحلة طويلة المدى، وليس -كما يتصور- تشرف على قرب نهاية، أو حتى تجميد الصراع.
ومع ربط هذه البيانات العسكرية بتصريحات بيسكوف عن استمرار الاتصالات مع الأوكرانيين والأمريكان عبر قنوات غير علنية، فإن هذه الإشارات مقرونة برفض مطلق لأي وجود عسكري أوروبي مباشر في أوكرانيا، توضح أن موسكو تتحرك في اتجاهين متوازيين، نحو توسيع نطاق السيطرة الميدانية، وفي الوقت نفسه ضبط إيقاع التفاوض وفق شروطها الخاصة.
في الوقت نفسه، وفي موازاة ذلك، يأتي إعلان الجيش الروسي عن إسقاط 162 مسيرة أوكرانية، واعتراض ذخائر موجهة وصواريخ “هيمارس” و”نبتون”، وهو عدد مرتفع، ليبرز أن ساحة المعركة تحولت إلى اختبار مستمر لمنظومات مكافحة المسيرات، وأن التفوق الروسي في هذا المجال بات عنصرًا أساسيًّا في الحد من قدرة كييف على نقل الحرب إلى العمق الروسي.
هذه التطورات تعكس نمط العمليات الروسية، الذي يشير إلى تحقيق تقدم محدود جغرافيًّا، لكنه ثابت ومصحوب بقصف مراكز القيادة ومواقع المسيرات.
أما تأكيد بيسكوف أن الاتصالات مع واشنطن تُدار بعيدًا عن الإعلام، وأن الجولة التفاوضية المقبلة لا تُبحث قبل توافر ظروف مناسبة، فهو موقف يشير إلى أن موسكو لا ترى في المفاوضات غاية عاجلة؛ بل أداة يمكن استدعاؤها حين تكون موازين القوى أوضح.
في المقابل، يثير الطرح الأوروبي حساسية كبيرة لدى الكرملين، فرفض موسكو أي وجود عسكري مباشر يعكس خشيتها من تحول أوكرانيا إلى قاعدة أمامية للناتو، أو رأس جسر بالمصطلحات العسكرية على حدودها الغربية، وهو ما يعدّه بوتين خطًا أحمر لا يسمح بتجاوزه.
إذا نظرنا إلى كل هذه التطورات بعين تحليلية، فسنجد فيها إشارات على أن العجز الحقيقي للغرب ليس في الدعم العسكري المباشر؛ بل في غياب إستراتيجية موحدة تجاه روسيا.
وهذا الفراغ مرتبط بضعف الموقف الأمريكي في مجال المسيرات، وهو ما أشارت إليه صحيفة بوليتيكو في تقرير لها، حيث تظهر تجربة الحرب الأوكرانية أن واشنطن تراجعت خلف موسكو وكييف على حد سواء في هذا المتغير المهم في الحرب الحديثة.
هذه القراءة تكتسب أهمية لأنها توضح أن التوازن العسكري لا يتحدد فقط على جبهات دونيتسك وزابوروجيا؛ بل أيضًا في سباق الابتكار التكنولوجي الذي يحدد إيقاع الصراع؛ لذلك فإن أي حديث عن ضمانات أمنية أو مفاوضات مستقبلية لن يكون ذا معنى إذا لم يعالج الغرب هذا القصور؛ وبذلك يصبح المسار الدبلوماسي أقرب إلى محاولة إدارة أزمة ممتدة لا إلى حل جذري لها.
وبناء على ما تقدم، يمكننا أن نجمل القول بأن التطورات الأخيرة تجمع بين تقدم روسي متدرج في الميدان واتزان سياسي في إدارة الاتصالات، مع استثمار إعلامي روسي في إبراز الفجوة بين القدرات الغربية وواقع الميدان.
لا تتعجل موسكو في مسالة المفاوضات، ولا تسعى إلى حسم سريع، لكنها تثبت مواقعها، وتوسع تدريجيًّا دائرة الاستنزاف، بحيث تدخل أي مفاوضات مستقبلية من موقع أقوى، خصوصًا وهي تحقق تقدمًا إستراتيجيًّا على مدى أشهر.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.