يشكل ترحيب الرئيس البولندي أنديه دودا، ورئيس وزرائه دونالد توسك، في 22 أبريل (نيسان) 2024، بنشر قنابل نووية أمريكية وفرنسية في الأراضي البولندية، الحلقة الأحدث في مسلسل الخطوات الأمريكية نحو توسيع رقعة إنتاج القنابل النووية ونشرها وتطويرها، فبعد صفقة الغواصات النووية البريطانية والأمريكية مع أستراليا في 15 سبتمبر (أيلول) 2021، والاتفاق مع بريطانيا بداية العام الجاري على نشر 50 قنبلة نووية أمريكية جديدة في المملكة المتحدة، وقبل كل ذلك انسحاب واشنطن من معاهدة “حظر إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى” التي تحمل رؤوسًا نووية في أوروبا، في 2 أغسطس (آب) عام 2019، بالإضافة إلى نهاية العمل باتفاقية “حظر إجراء التجارب النووية” في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 عقب سحب روسيا تصديقها على المعاهدة بعد رفض الولايات المتحدة التصديق عليها، يتأكد للجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تأبه بالاتفاقيات الدولية الخاصة بالسلام النووي.
لكن من ينظر إلى تفاصيل الميزانية العسكرية الأمريكية لعام 2024، يرى فيها خطورة غير مسبوقة على الأمن والسلام العالمي من خلال تخصيص البنتاغون مليارات الدولارات، ليس فقط لتطوير الأسلحة النووية الأمريكية، التي تبلغ 5200 رأس نووي؛ بل لإنتاج نوعية جديدة من القنابل الذرية الشديدة الخطورة، يطلق عليها “بي 61- 13″، ذات سقوط حر، وسوف تكون هذه القنابل أشد قوة وقسوة من القنابل الذرية الأمريكية العاملة في الوقت الراهن، بداية من “بي 61- 7” حتى “بي 61- 12”.
لكن ما يدفع إلى الدهشة والاستغراب أنه وسط كل هذا الإصرار الأمريكي على توسيع رقعة إنتاج الأسلحة النووية ونشرها كمًا ونوعًا، نرى الولايات المتحدة تتهم روسيا والصين بإنتاج كميات ونوعيات جديدة من الأسلحة النووية، كان آخرها اتهام روسيا بإنتاج سلاح نووي مخصص للعمل في الفضاء، وهو ما نفته روسيا تمامًا، وهي الاتهامات نفسها التي يوجهها البيت الأبيض على مدار الساعة إلى الصين، وهو ما يطرح سلسلة من الأسئلة عن الأهداف الأمريكية من التوسع في نشر القنابل النووية في جميع أرجاء العالم، وخاصة في أوروبا ومنطقة الإندو- باسيفيك؟ وهل من وسيلة إلى تحجيم الاندفاع الأمريكي نحو “العسكرة النووية” للعالم؟
بهدف التغطية والتعمية على الخطط الأمريكية للتوسع في نشر أسلحتها النووية، سواء في أوروبا أو شرق آسيا، عملت واشنطن على إطلاق كثير من “قنابل الدخان”؛ حتى لا يلتفت أحد إلى ما تقوم به من خطوات تشكل خطرًا وجوديًّا على البشرية كلها؛ ولهذا عمدت الولايات المتحدة في هذا التوقيت إلى تكثيف الاتهامات لكل من روسيا والصين، واتهامهما بأنهما تعززان قدراتهما النووية، وأُطلقت حملة إعلامية وسياسية أمريكية خلال الأيام الماضية تتهم روسيا بالإعداد لنشر سلاح نووي في الفضاء يستطيع أن يستهدف الأقمار الصناعية، والأصول الفضائية الأخرى للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الفضاء، وحتى تزداد كثافة قنابل الدخان ذهبت الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك؛ إلى مجلس الأمن، وطرحت مشروع قرار لم يحظَ بالتوافق، وسقط بالفيتو الروسي؛ لأنه يدعو- فقط- إلى وقف نشر الأسلحة النووية في الفضاء، وهو ما ردت عليه روسيا بالقول إنه يجب عدم نشر أي أسلحة، سواء أكانت نووية أم تقليدية في الفضاء. ومع أن الكرملين رد صراحةً وقال إن موسكو ضد نشر الأسلحة النووية في الفضاء، ما زالت الولايات المتحدة تغمز، وتقول إن روسيا تجهز سلاحًا نوويًّا يمكن نشره في الفضاء.
ليس هذا فقط، فالمخابرات الأمريكية لا تفوت فرصة إلا وتتهم الصين بأن لديها خططًا طموحة لإنتاج أسلحة نووية جديدة، منها اتهامات مجلس الأمن القومي الأمريكي للصين بأنها تسعى إلى زيادة الرؤوس النووية من نحو 400 رأس في الوقت الحالي إلى نحو 3500 رأس عام 2035، بل ذهبت بعض الصحف الأمريكية إلى نشر صور مزعومة لصوامع صواريخ نووية قالت إن الصين تستعد لنشرها في شمال غرب البلاد. وبالتزامن مع ذلك كله، تعمل واشنطن على مسار جديد؛ وهو محاولة تحريض روسيا ضد البرنامج النووي الصيني؛ بادعاء واشنطن أن الأسلحة النووية الصينية أخطر على روسيا منها على الولايات المتحدة الأمريكية، وتنسى واشنطن أن نشرها القنابل الذرية في بولندا سوف يجعل هذه الأسلحة النووية هي الأقرب إلى الأراضي الروسية في منطقة كالينينغراد.
منذ وضع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إستراتيجيته للأمن القومي في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2017، بدأت الولايات المتحدة سلسلة من الخطوات للتوسع في إنتاج الأسلحة النووية وتطويرها ونشرها في أوروبا، وشرق آسيا وجنوب شرقها، ومنطقة الإندو- باسيفيك، وأخذت الخطوات الأمريكية أشكالًا كثيرة، منها:
أولًا: تخصيص الأموال
وبدأت هذه الطفرة منذ العام الأول لوجود دونالد ترمب في البيت الأبيض، حيث تضمنت الميزانية الأمريكية لعام 2017- 2018- وهي أول ميزانية في عهد دونالد ترمب- تخصيص نحو 100 مليار دولار سنويًّا لتطوير الأسلحة النووية، بحيث تتحول إلى أسلحة “تكتيكية” قابلة للعمل في المسرح الميداني والعملياتي ضد جيوش الأعداء؛ ولهذا أنفق دونالد ترمب أكثر من 400 مليار دولار على تطوير الأسلحة النووية الأمريكية وتحديثها. واليوم، مع الميزانية القياسية المخصصة لوزارة الدفاع الأمريكية، التي بلغت 866 مليار دولار، فإن مجموع ما يُخصَّص لإنتاج الأسلحة النووية وتحديثها وصيانتها يزيد على 130 مليار دولار سنويًّا، وهي أموال موزعة على شرائح وبرامج مختلفة، الهدف النهائي منها جعل الولايات المتحدة وحلفائها الذين ينتجون أو يستضيفون أسلحة نووية أمريكية أكثر جاهزية من المنافسين المحتملين في المجال النووي؛ وهم روسيا، والصين، وكوريا الشمالية.
ثانيًا: تطبيق إستراتيجية “لن نلتزم بما لا يلتزم به الآخرون”
وهي نظرية ابتدعها الرئيس السابق دونالد ترمب، ويسير عليها في الوقت الحالي الرئيس جو بايدن، وتقول إن الولايات المتحدة سوف تنسحب من أي اتفاقية أو معاهدة نووية ترفض الصين الانضمام إليها، وهي حجة الهدف منها الانسحاب من كل الاتفاقيات الدولية التي تقيد إنتاج السلاح النووي الأمريكي، أو تطويره، أو نشره؛ ولهذا عندما انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية “منع نشر وإنتاج الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا”، في أغسطس (آب) 2019، ذهبت ونشرت تلك الصواريخ في القواعد الأمريكية الآسيوية بالقرب من الصين، مع أن المبرر الذي أعلنته واشنطن آنذاك هو نشر روسيا صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا بأبعاد أكثر من الأبعاد المتفق عليه، وهي 500 كم للصواريخ القصيرة المدى، و1000 كم للصواريخ المتوسطة المدى، وينظر إلى القواعد العسكرية الأمريكية في أستراليا على أنها وجهات محتملة لنشر الصوريخ الأمريكية التي تحمل رؤوسًا نووية جديدة في المستقبل.
ثالثًا: تغيير العقيدة النووية للحلفاء
تعمل الولايات المتحدة على التوسع في نشر الأسلحة النووية لدى دول الحلفاء، وهناك سلسلة من الخطوات التي اتخذتها واشنطن خلال الفترة الماضية، منها:
1- إجراء مناورات بالأسلحة النووية جمعت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان في 2 أبريل (نيسان) من العام الجاري، عندما أرسلت البحرية الأمريكية حاملة طائرات” يوس إس إس ثيودور روزفلت” لهذه التدريبات التي استفزت كلًا من روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وكانت المرة الأولى التي تشارك اليابان في مناورة نووية؛ نظرًا إلى أنها هي الدولة الوحيدة التي استُهدِفَت مرتين بالقنابل النووية في الحرب العالمية الثانية.
2- اتفاق الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا على بناء 5 غواصات تعمل بدفع الطاقة النووية، وهو ما سوف يقود إلى “عسكرة نووية” لمنطقة غرب المحيط الهادئ، والإندو- باسيفيك، وبحر الصين الجنوبي.
3- نشر واشنطن نحو 460 قنبلة تكتيكية في أوروبا، منها 150 قنبلة كشف عنها موقع الجمعية البرلمانية لحلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، وقالت المجموعة البريطانية المناهضة للأسلحة النووية إن نحو 150 قنبلة من طراز “بي 61” نُشرت في 5 دول أوروبية؛ هي إيطاليا، وألمانيا، وهولندا، وتركيا، وبلجيكا، بالإضافة إلى نشر كل أضلاع “المثلث النووي”؛ وهي الطائرات الإستراتيجية التي تستطيع حمل رؤوس نووية، والصواريخ التي تحمل رؤوسًا نووية، بالإضافة إلى نشر غواصات وسفن تستطيع أن تطلق صواريخ من البحر تحمل رؤوسًا نووية.
4- نشر الولايات المتحدة نحو 50 قنبلة نووية في بريطانيا بعد نحو 15 عامًا بعد سحب الولايات المتحدة نحو 110 قنابل نووية من بريطانيا عام 2008.
5- تشجيع الولايات المتحدة قرار حليفتها الرئيسة بريطانيا في مارس (آذار) 2021 على زيادرة الرؤوس النووية التي تملكها المملكة المتحدة بنسبة 40 % ليرتفع عدد الرؤوس النووية البريطانية من 180 إلى 250 رأسًا نوويًّا.
6- العمل على زيادة عدد الرؤوس النووية في الجناج الشرقي لحلف الناتو، ومنها السعي إلى نشر الرؤوس النووية الأمريكية والفرنسية في بولندا، وهناك توقعات روسية بأن الولايات المتحدة يمكنها أن تقدم العرض نفسه لدول أخرى، مثل بلغاريا، أو رومانيا، في الفترة المقبلة.
المؤكد أن الولايات المتحدة تقود سباقًا و”عسكرةً نووية”، الهدف منها فرض الإرادة الأمريكية على الآخرين، وشل حركتهم على المبادرة والفعل، لكن هذا لن يقود إلا إلى التوسع ليس فقط في القدرات النووية؛ بل البحث عن الجديد في مجال “المثلث النووي”، وهو ما يؤكد الحاجة الشديدة إلى نشر الوعي بخطورة الخطوات الأمريكية على الأمن والسلم الدوليين.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.