قدوته ومثله الأعلى هو وزير الخارجية الروسي، ومستشار الإمبراطورية في القرن التاسع عشر، ألكسندر غورتشاكوف، الذي تمكن في ظروف صعبه وتكاد تكون مستحيلة، من استعادة النفوذ الروسي في أوروبا. يسير على خطى وزير الخارجية السوفيتي العظيم أندريه جروميكو، الذي ظل في منصبه منذ عام 1957 حتى عام 1985، وتصدى لكل مؤمرات الغرب خلال الحرب الباردة. يوم الجمعة الماضي بلغ 75 عامًا، واستحق التكريم بأرفع الأوسمة من الرئيس فلاديمير بوتين بوسام القديس أندراوس. هو رابع وزير خارجية لروسيا منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي السابق، وكان له الفضل في إقناع الكثيرين من “شعوب الجنوب” بأن عالم القطب الواحد لا يمكن أن يكون صديقًا أو حليفًا للشعوب الإفريقية والآسيوية واللاتينية. على مدار أكثر من عقدين، ومنذ أن أصبح وزيرًا للخارجية عام 2004، خدم بلاده ودافع عن مصالحها في المحافل الدولية وفي أثناء الأزمات الكبرى التي مر بها العالم خلال العشرين عامًا الماضية، ويعود إليه الفضل في إفشال كل السياسات التي رسمها الغرب في “الغرف المظلمة” لعزل روسيا بعد فبراير (شباط) 2022.
يصفه البعض بأنه وزير الخارجية العابر للأزمنة والعهود؛ لأنه كان مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة في عهد الرئيس يلستين، وأصبح وزيرًا للخارجية الروسية عام 2004 في عهد الرئيس بوتين، وعندما تولى الرئيس ديمتري ميديفيدف الرئاسة استمر وزيرًا للخارجية الروسية تعبيرًا عن ثقة الدولة والشعب الروسي بقيادته للدبلوماسية الروسية. يراه البعض في واشنطن شبيهًا بالممثل الأمريكي الساحر أنتوني كوين؛ ولهذا وصفته كبرى الشبكات التليفزيونية الأمريكية في بداية القرن العشرين بأنه “رجل المهمات الصعبة”،
أتحدث عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي عمل على مدار عقود بكل مهنية واقتدار في الفعل والقول من أجل خدمة أهداف الشعب الروسي، فعلى مدار العقدين الماضيين كان يذهب إلى مكتبه في وزارة الخارجية، الواقع في إحدى ناطحات السحاب التي بناها الزعيم جوزيف ستالين، وهو ما يكشف عن التزام ومهنية كاملة من لافروف لا تقل عن التزام الجنود على جبهات القتال؛ لأن لافروف يؤمن بأن “الدبلوماسية” قوة لا تقل تأثيرًا وفاعلية عن قوة الأسلحة الروسية في ميدان الحرب، مثل الكالشينكوف، وصواريخ “أفانغارد” و”كينجال”، ومنذ أن كان يدرس في معهد الدراسات الدولية، وبداية عمله في وزارة الخارجية، أخذ على نفسه ضرورة أن تظل روسيا كما كانت دائمًا في صفوف العظماء. ومن يراجع كيف تصدى لافروف للدعاية السوداء الغربية ضد روسيا بعد عام 2014 يتأكد له أنه دبلوماسي من طراز خاص، يتمتع بكل صفات الحكنة السياسية التي تمتع بها “بطرس الأكبر”، وأنه ورث حكمة القياصرة بوريس جودونوف وألكسندر الأول ودهاءهم.
إجابته عن أسئلة الصحفيين، وخاصة الصحفيين الغربيين، تؤكد أنه بارع في صياغة الإجابات التي تجمع بين الحقائق والسخرية، ويعود ذلك لأن لديه قاموسًا غنيًّا من لغات كثيرة، منها السريلانكية والفرنسية، لكنه أيضًا يعشق كلمات وثراء اللغة الروسية التي اكتسب كلماتها من روائع فيودور دوستويفسكي، وليو تولستوي، وألكسندر بوشكين، وليرمونتوف، وبوريس باسترناك؛ لذلك تكتسي إجاباته بالمنطق والإقناع الذي تعكسه موسيقى وألحان أنطون روبنشتاين، وبيوتر تشايكوفسكي، ونيكولاي ريمسكي كورساكوف، وإيغور سترافينسكي.
كل من تعامل مع لافروف أدرك أن دفاعاته الدبلوماسية عن مصالح بلاده تتشابه في قوتها وأبعادها وصلابتها بالمنظومات الدفاعية الروسية العملاقة والشهيرة، مثل” بانتسير، و”إس 400″ و”إس 500″ ذات الطبقات والمديات الدفاعية البعيدة والمتعددة؛ ولهذا نجح في نقل مخاوف روسيا مما كان يحاك لها في الحديقة الخلفية الأوكرانية والجورجية. وبعد مرور أكثر من 3 سنوات على الحرب في أوكرانيا يثبت لافروف -من جديد- أن “الأمم لا تنسحب من التاريخ”، وأن كل ما كان يطرحه على نظرائه في الغرب اعترفت به الآن الولايات المتحدة، على لسان رئيسها دونالد ترمب، الذي أقر بأن سبب الحرب هو “الناتو”، وليس روسيا.
خلال 21 عامًا من العمل وزيرًا للخارجية، رسخ لافروف صورة روسيا التي كانت عامل استقرار في أوروبا خلال القرون الستة السابقة لانهيار الاتحاد السوفيتي، وأنها كما كانت في الماضي سوف تعود من جديد لاعبًا ماهرًا في صياغة ورسم عالم لا يمكن أن تتفاعل معادلاته بعيدًا عن الدببة الروسية.
كل الذين التقوا به وعرفوه قالوا عنه شيئًا واحدًا؛ أنه يرى”العالم هو روسيا”؛ لأن لافروف ذا الـ75 عامًا، المولود عام 1950، يرى في “الجغرافيا الروسية” التي تصل إلى نحو 17 مليون كم، والتي تمتد من الشمال إلى الجنوب بنحو 4000 كم ، ومن الشرق إلى الغرب بنحو 10000 كم، ولها حدود مشتركة مع 16 دولة، هي العالم كله، وهي محور “التفاعلات السياسية” في كل المعمورة، ليس فقط لأنها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولديها أكبر ترسانة نووية في العالم تتجاوز 6500 رأس نووي، وفق بيانات معهد السلام الدولي في ستوكهولم، بل أيضًا لأنها بلاد تتمتع بكثير من مفردات القوة الناعمة، مثل الموسيقى والفن والراويات الروسية التي يصعب مقاومة قراءتها.
يري لافروف أن بلاده مستهدفة دائمًا، ليس من اليوم؛ بل منذ زمن طويل؛ ولهذا فإن مشهد انهيار الاتحاد السوفيتي لا يفارق لافروف على الإطلاق، ويشعر أن هناك من يريد أن يسرق من بلاده كل شىء حتى “قيم التضحية” التي كان عنوانها نحو 28 مليون ضحية قدمتهم روسيا من أجل الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، في حين يحاول الآخرون جعل النصر حصريًّا لهم دون الروس في الوقت الحالي؛ ولهذا يحسب الروس للافروف أنه وقف ضد كل محاولات تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية بهدف حرمان روسيا من هذه التضحيات التي لم تعرفها البشرية من قبل.
أدرك لافروف منذ اليوم الأول للحرب في أوكرانيا أن خطة الغرب تقوم على عزل روسيا؛ ولهذا قامت رؤية لافروف على عدم ترك مكان شاغر للغرب ليلعب لعبته ضد الأمة الروسية. وبعد 3 سنوات من الزيارات والرحلات المكوكية لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كشف التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن أن روسيا لم ولن تكون دولة معزولة، وهذا من الأسباب الرئيسة وراء الاستدارة الأمريكية وإدارة الرئيس دونالد ترمب تجاه موسكو من جديد؛ فكثير من الدول الإفريقية والآسيوية، ودول أمريكا اللاتينية، بل حتى دول في قلب أوروبا ترفض “المقاربة” التي كانت تدعو إلى عزل روسيا، سواء عن العالم أو أوروبا، ولعل جولات لافروف الخارجية منذ الحرب الروسية الأوكرانية دليل متجدد على “الرؤية البانورامية” لسيرغي لافروف، التي تقوم على أهمية محورية الدور الروسي في صياغة التفاعلات السياسية والأمنية العالمية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.