في كل منعطف تمر به الحياة البشرية، وسواء أكان صراعًا، أم أزمة، أم اكتشافًا، بحيث يطرح التوقع الأولي أن العالم لن يصير بعد ذلك كما كان من قبل؛ فإن السؤال الذي يطرحه كل المهتمين بالمستقبل يكون: كيف سيكون النظام الدولي؟ النظام أولًا هو عبارة عن مجموعة من المتغيرات التي يتفاعل بعضها مع بعض تفاعلًا نمطيًّا متكررًا، بحيث يمكن مراقبته، وملاحظته، ومعرفة مدخلاته ومخرجاته. وعندما يكون “النظام” مرتبطًا بالدول فإنه غالبًا ما يتسم بالفوضوية، أي إنه نظام سياسي دون حكومة، ودون قواعد مستقرة، وقيم راسخة. وتحدث هذه الفوضى العالمية لأن كل الدول تتصرف حسب مصلحتها الذاتية، وليس من منطلقات أخلاقية. وباختصار، فإن الجزء الأهم في تعريف أي نظام هو توزيع القدرات العسكرية والاقتصادية بين الوحدات المشكلة له، وهو الأمر المحدد لعلاقات الدول بعضها مع بعض، خاصة تلك القوى الدولية التي يتعدى تأثيرها حدود دولتها إلى بقية دول العالم، وهذه تعرف بالأقطاب، ومنها يستمد شكل النظام الكلي، وعمّا إذا كان ذا قطب واحد مهيمن، أو ذا قطبين متنافسين، أو متعدد الأقطاب، بحيث يسود بينها تحالفات وتحالفات مضادة. وتكون النظرة إلى هذه الأشكال من “النظام الدولي” على أساس من الصراع والتعاون، ومدى الاعتماد المتبادل، ودور التكنولوجيا وعلاقتها بالوفرة والندرة، ومدى التأثير الذي تقوم به الفواعل من غير الدول في داخل النظام.
ويصبح السؤال عن مستقبل النظام ملحًا عندما يكون هناك منعطف كبير من ذلك النوع الذي يشير إلى فشل النظام القائم في القيام بمهمته في تحقيق الاستقرار أو التوازن اللازم للاستمرار، وهذه توافرت في عصرنا مع تراكم أزمات المناخ، وكورونا، والحرب الأوكرانية، وحرب غزة الخامسة المهددة بحرب إقليمية كبرى، مصاحبةً بالثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة. وعندما تكون الحال كذلك، فإن التغيير يبدأ من انطلاق فكرة “المراجعة” للنظام كله. و”المراجعة”، أو Revisionism، هي جزء أساسي من الفكر السياسي الدولي الذي ينظر في التغيرات المختلفة لتوازنات القوى التي يمكنها أن تأخذ نظامًا إلى آخر. القاعدة هنا هي أنه لا يوجد نظام دولي يدوم إلا بالقدر الذي مكنته “القوة” من ظروف تأتي من العصر، ومن توازناته، وما جاء فيه من تكنولوجيا، وقادة من بشر. وقبل أكثر من قرنين، واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر؛ هما: الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية والتكنولوجية، وكانت الثورة الأولى هي التي استهدفت- عمدًا ومباشرة- تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول الأوروبية بأفكارها عن “الحرية”، و”الإخاء”، و”المساواة، وهي أفكار حملها معه نابليون بونابرت حينما توسع شرقًا حتى وصل إلى موسكو. لكن الثورة الثانية كانت هي التي أصلت عملية تغيير أوروبا- ومن بعدها- العالم اقتصاديًّا واجتماعيًّا ثم سياسيًّا؛ من خلال الإصلاح، والحداثة، والتقدم بصفة عامة.
كلتا الثورتين كانت وراء تكوين العالم المعاصر، حتى بعد أن هُزِمَ نابليون عام ١٨١٥. وفي أعقاب الهزيمة، قامت أربعة من القوى المحافظة (روسيا، والنمسا، وبروسيا، وبريطانيا) بعملية لإدارة التغيير، والحفاظ على توازن القوى في القارة الأوروبية لقرابة ١٠٠ عام، حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤. وفيما بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفًا باسم “منظومة أوروبا” Concert of Europe لإدارة التغيير، ومواجهة نشوب ثورة أخرى. كلتا الثورتين كفلت مراجعة عميقة بالسلاح والسياسة والدبلوماسية للنظام الدولي السابق على القرن التاسع عشر، وكانت مؤسسة لمنظومة توازن القوى، وحارسة على عمليات إصلاح عميقة للنظم السياسية والاجتماعية، ودافعة إلى التقدم غير المسبوق تاريخيًّا بفعل الثورة الصناعية الأولى.
مع مطلع القرن العشرين ذهب العالم الذي كان يدور حول أوروبا بالقوة وعناصرها إلى العالم الجديد، حيث الولايات المتحدة الأمريكية؛ بفعل الوهن الذي حل الإمبراطوريات العثمانية، والنمساوية المجرية، والروسية، والضعف السياسي الفرنسي في جمهوريته الثالثة؛ ووهج الوحدة الألمانية الذي يبحث لألمانيا عن مكان تحت الشمس؛ ونشوب الثورة البلشفية في روسيا، مبشرة بعالم لم تعرفه البشرية من قبل. أصبح العالم هكذا مختلفًا، وعندما يختلف العالم لا بد أن يتغير النظام الدولي، وهو ما حاوله الجميع بعد الحرب العالمية الأولى؛ من خلال إنشاء “عصبة الأمم” لكي تقود نظامًا دوليًّا جديدًا قائمًا على القانون الدولي، وتسعى إلى عدم تكرار الحرب العالمية مرة أخرى. لكن الحالة الدولية التي سمحت بتعدد الأقطاب سرعان ما تبين عدم قدرتها على التوافق بعد انسحاب الولايات المتحدة إلى ما وراء المحيط؛ وضعف ذكائها في التعامل مع الدول المهزومة قادها إلى إشعال شعلة الفاشية والنازية في أوروبا، التي حاولت مراجعة النظام الدولي للمنتصرين، ولكن النتيجة كانت كسادًا عظيمًا أعقبته حرب عالمية ثانية حدث في أثنائها أكبر عملية لمراجعة النظام الدولي القائم على تعدد الأقطاب.
كان العالم هذه المرة أكثر ذكاء في مراجعاته عما حدث من قبل، وكان من الطبيعي أن يعكس النظام الدولي الجديد حالة المنتصرين في الحرب، فكان التسليم بالمكانة الخاصة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وقيام تنظيم دولي جديد متشعب الفروع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو نظام “الأمم المتحدة”، الذي ضم الدول المستعمَرة سابقًا. وفي العقود الأربعة التالية للحرب بدا أن النظام الدولي قابل للاستقرار القائم على “الوفاق” أحيانًا بين القطبين الرئيسين، و”الحرب الباردة” في معظم الأحيان. كان للنظام أزمته الحادة أحيانًا، ولكنه بات أكثر إدراكًا لأخطار الحرب النووية، فتوصل القطبان إلى اتفاقيات للحد من التسلح، وتوصل العالم كله إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية. ولأسباب كثيرة، دخل الاتحاد السوفيتي في حالة من الوهن السياسي، والاقتصادي، والتكنولوجي خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته؛ مما أدى إلى انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وحلف وارسو التابع له. على الجانب الآخر، كانت الولايات المتحدة قد تخلصت من نتائج حرب فيتنام، ودخلت إلى أعماق الثورة الصناعية الثالثة. عمليًّا، فإن النظام الدولي بات نظامًا للقطبية الأحادية ممثلة في الولايات المتحدة، ومن ورائها حلف الأطلنطي، والمعسكر الغربي في عمومه، وبات عليها أن تعيد تنظيم العالم وفق رؤاها الخاصة، وهو ما سُمي “العولمة”.
وعلى مدى العقود الثلاثة الثانية (١٩٩٠-٢٠٢٠) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددين الأساسيين للنظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكنَّ العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية، وقع في مقدمتها أن المعسكر الغربي في عمومه، والولايات المتحدة خاصةً، واجه قدرًا كبيرًا من الوهن، تجسد في هزيمة الولايات المتحدة وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط، فضلًا عن تقلبها السياسي الداخلي بين مذاهب سياسية متعددة أدت في النهاية إلى انقسام وتشرذم، وعجز عن التوافق المطلوب في مجتمع سياسي ليبرالي ديمقراطي. وثانيها أن مجيء “الجائحة”، وفشل الولايات المتحدة، ومعها المعسكر الغربي، في مواجهتها، فضلًا عن قيادة العالم في التعامل معها أخذ كثيرًا من سمعة القوة والتكنولوجيا الأمريكية. وثالثها أن الصين التي أخذت في الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة، صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمي في النظام الدولي؛ ومن ثم بدأت بدعوات إلى مراجعة النظام الدولي، بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكي. ورابعها أن روسيا التي عانت كثيرًا المهانة خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى تحت قيادة فلاديمير بوتين؛ لكي تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة. عمليًّا، أصبح هناك نظام جديد ثلاثي الأقطاب، يضم الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وما بقي هو: كيف تجري التفاعلات والعلاقات بينهم حتى نتحدث عن نظام دولي جديد؟
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.