أبحاث ودراسات

كيف نفهم تحول تركيا الإستراتيجي نحو شرق ليبيا؟


  • 15 أغسطس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: arabcenterdc.org

مدخل

تنكشف ملامح مرحلة جديدة بين العدوين اللدودين؛ قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، المسيطر على الشرق الليبي، ونظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تُطوَى فيها الخلافات التي وصلت إلى حد التدخل العسكري التركي، سواء أكان على نحو مباشر، أم من خلال وكلاء داخل الأراضي الليبية؛ ما يثير تساؤلات عن معالم هذه المرحلة ومكاسبها للجانبين، وخاصة الجانب التركي، الذي شهد تحولًا إستراتيجيًّا في توجهاته خلال السنوات القليلة الماضية.

ويمكن تفكيك تلك الإشكالية بالنظر إلى التغيرات الدراماتيكية التي يشهدها الإقليم، خاصةً بعد التقارب الواضح بين مصر وتركيا، وحل الخلافات التي استمرت بينهما أكثر من عقد، ما كان له انعكاس مباشر على الوضع في ليبيا، فضلًا عن المشهد الدولي، وصراع النفوذ المحتدم بين الولايات المتحدة وروسيا على فرض السيطرة في الداخل الليبي.

موقف تركيا من الأزمة الليبية

منذ الإطاحة بنظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي عام 2011، عمت البلاد فوضى سياسية عارمة عززتها المليشيات والتنظيمات الإرهابية، والصراعات الداخلية، والتدخلات الخارجية، وأصبحت ليبيا أمام حكومتين متنازعتين؛ إحداهما في الشرق تحت قيادة خليفة حفتر، والأخرى في الغرب باسم حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليًّا، وهو ما استغلته أنقرة، واضطلع النظام التركي بدور رئيس في تأجيج الصراع الليبي، خاصةً منذ عام 2019، من خلال دعم سلطات الغرب عسكريًّا، سواء على نحو مباشر من خلال صفقات بيع الأسلحة، أو من خلال إرسال فرق من المرتزقة لمحاربة قوات حفتر، ونجحت تركيا في الحصول على موطئ قدم، وحضور قوي سياسي وعسكري في البلاد، وبرر النظام التركي وجوده العسكري في الغرب الليبي باتفاقية أقرب إلى اتفاقيات الدفاع المشترك وُقِّعَت مع الحكومة المعترف بها دوليًّا آنذاك، وهو ما جعل فكرة سيطرة الجبهة الشرقية وحلفائها الخارجيين على العاصمة، ومن ثم مفاصل الدولة، أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا؛ لذا قاطعت قيادات الشرق الليبي الدولة التركية، لا سيما بعد توقيع أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني اتفاقًا يتعلق بترسيم الحدود البحرية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وأعقب ذلك إبرام السلطات التركية اتفاقات التعاون الأمني والاقتصادي مع حكومة طرابلس عام 2020، لكن الأمور بدأت بالتغيّر، وازداد الوجود التركي في شرق ليبيا خلال السنوات الأخيرة، وخفّت حدة الخلافات بين الجانبين تدريجيًّا، واتجهت تركيا إلى سياسة الموازنة بين الجانبين لتحقيق مصالح أكبر.

ملامح التحول الإستراتيجي في سياسة تركيا تجاه ليبيا

بدأت إرهاصات المرحلة الجديدة في علاقات تركيا بليبيا من خلال لقاءات استكشافية، بعضها لم يعلن، بين مسؤولين من الشرق الليبي ومسؤولين أتراك، مع تصريحات عن فتح السفارة التركية في بنغازي شرق ليبيا، المغلقة منذ عام 2014، وعن عودة مرتقبة للرحلات الجوية بين تركيا ومطارات المنطقة الشرقية، المتوقفة منذ سنوات، ثم أخذت العلاقات المنحنى الأهم مع تولي بلقاسم حفتر صندوق الإعمار، ليوقع مع أنقرة كثيرًا من الاتفاقيات، خلال الزيارة التي أجراها مؤخرًا بلقاسم لأنقرة، والتقى خلالها بوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي أكد أن بلاده تنسج علاقات وطيدة مع شرق ليبيا كمثيلتها مع الغرب الليبي.

وجاءت زيارة بلقاسم إلى تركيا في إطار تأكيد وزير خارجيتها تقدم العلاقات مع شرق ليبيا، ووجود تواصل مع المشير حفتر وأبنائه، وأعلن أن صندوق إعادة إعمار درنة والمدن والمناطق المتضررة الذي يترأسه بلقاسم، هو مفتاح التعاون بين الجانبين، فمنذ أبريل (نيسان) الماضي، وقع بلقاسم حفتر عقود عمل مع شركات تركية لتنفيذ مشروعات عدة في مدينة بنغازي في مجال المقاولات العامة، والتجهيزات، والبنية التحتية.

يكشف هذا عن محاولات أنقرة تقديم نموذج متوازن في الملفات الشائكة، وتعزيز موقفها بوصفها وسيطًا إقليميًّا، بعيدًا عن المواقف الحادة والسياسة المتشددة التي كانت تنتهجها تركيا من قبل، وخاصة بعد إدراك أنقرة أن عداء الشرق الليبي ليس في صالحها؛ إذ إنها في أمس الحاجة إلى التقارب مع الجبهة الشرقية لموافقة مجلس النواب الليبي على الاتفاقيات البحرية التي عقدتها الحكومة التركية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية.

مكاسب تركيا من التقارب مع شرق ليبيا

إن دلالات تقارب تركيا من الشرق الليبي يمكن تفسيرها من خلال فهم طبيعة السياسة الخارجية التركية، فهي سياسة مبنية على المصالح فقط، وهي مصالح ثابتة أكثر منها سياسات ثابتة؛ لذا فإن تركيا التي كانت ضد حفتر وداعميه، إذا تيقنت أن حفتر مستعد لإعطائها النفوذ والمصالح المنشودة، فلن تتردد في توثيق علاقاتها بالشرق الليبي، وهو ما يقوم بالأساس على مكاسب اقتصادية وجيوسياسية يجنيها أردوغان من هذا التقارب، يتمثل أبرزها فيما يلي:

1-   أداء دور الوسيط: تسعى تركيا إلى استخدام علاقاتها المتطورة مع الشرق الليبي لتعزيز التكامل بين الشرق والغرب، بجانب تكثيف جهودها الدبلوماسية من خلال التواصل مع القوى الإقليمية، كمصر، والإمارات، وقطر، إذ يمثل هذا النهج سياسة فعالة لتركيا للحفاظ على مكاسبها الحالية، وتحقيق فوائد أكبر في المستقبل.

2-  الحلم بغاز المتوسط: تركيا التي تمتلك علاقات تاريخية وثقافية واقتصادية عميقة مع كلتا المنطقتين في ليبيا، ستؤمن مصالحها ومكاسبها التجارية في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ من خلال نقل نفوذها الموجود في الغرب إلى الشرق، حيث تأمل أنقرة أن يتغير المناخ السياسي في الشرق، الذي كان معارضًا لاتفاقيات تركيا لعام 2020 بشأن ترسيم الحدود البحرية واتفاقية الهيدروكربونات لعام 2022.

ومع أن هذه الاتفاقيات تستند إلى أسس قانونية وشرعية دولية قوية، فإن الحصول على موافقة غير مباشرة من البرلمان، ومن جانب حفتر، يمكن أن يعزز علاقة التحالف بين تركيا وليبيا في جيوسياسية شرق البحر الأبيض المتوسط، فلكي يعمل الأتراك في هذه المنطقة فإنهم بحاجة إلى وجود علاقات جيدة بمن يحكم في الشرق الليبي.

 3-  الدور التركي في إعادة إعمار ليبيا: إذا نجح التطبيع بين تركيا وشرق ليبيا؛ فمن المحتمل أن تتنامى الاتفاقيات مع الشركات التركية من خلال صندوق التنمية وإعادة الإعمار الليبي التابع للبرلمان إلى حد كبير؛ إذ إن الفوائد التجارية التي يمكن أن تحققها تركيا من هذا الدور ذات أهمية حاسمة في تحسن الوضع الاقتصادي لأنقرة.

4-  دعم التقارب التركي المصري: تعد ليبيا إحدى أبرز ساحات المواجهة بين مصر وتركيا، فبينما كانت مصر تدعم الشرق الليبي وخليفة حفتر، كانت ليبيا تدعم بجميع الوسائل سلطات الغرب الليبي المتحصنة بمليشياتها المسلحة، لكن في ظل التقارب الحالي بين الجانبين المصري والتركي، وصولًا إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة طويلة، سيمثل توثيق علاقات أنقرة بشرق ليبيا وقاداته دلالة واضحة على حسن نية أنقرة تجاه القاهرة.

الخاتمة

لعل مستقبل الأزمة الليبية لا يرتبط بوجود تحول في الموقف التركي بشرق ليبيا بقدر ما يرتبط بقدرات تركيا وإمكاناتها، فهي قادرة على تجاوز الخط الفاصل بين الشرق والغرب في سرت، والجفرة، والوصول إلى الشرق عن طريق استقطاب قيادات، وفتح شركات، وتصدير منتجات غذائية، واستيراد مواد نفطية، في إطار المصالح الاقتصادية؛ ومن ثم فإن تركيا هي المستفيد الأكبر من تحسن العلاقة بين شرق ليبيا وغربها حاليًا، خاصةً أن وجود أنقرة ينفذ بعض الأهداف التي تريدها الولايات المتحدة داخل الأراضي الليبية، لا سيما الرقابة على النشاط الروسي في شرق ليبيا، وإدارة الأزمة بما يتوافق مع المصالح العليا الأمريكية.

هذا يعني أن أنقرة لن تكتفي بما ستتحصل عليه من عقود بناء وتشييد من صندوق الإعمار، فالأهم هو المصادقة على اتفاقية النفوذ الاقتصادي البحري، وبالرغم من وعود رئيس مجلس النواب الليبي بنظر المجلس في الاتفاقية، فإن إقرارها لا يعود إلى الحسم التشريعي الليبي فحسب؛ بل إن للقيادة العسكرية في بنغازي كلمتها، فضلًا عن الثقل المصري الذي يرتهن إلى تفاهمات مع دول شرق البحر المتوسط وشماله، بل هي مسألة تقع ضمن اهتمامات أطراف أكبر، مثل الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها تتعلق بثروة ضخمة من النفط والغاز قد تكون سببًا في تفجير صراع في شرق المتوسط وجنوبه.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع