نشر الفرع الأوروبي لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي[1]، في أوائل شهر مايو (أيار) الماضي، تحليلًا عن تغير سياسة المملكة العربية السعودية، جاء فيه ما يلي:
في أعقاب التحولات العربية السعودية الجيوسياسية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وانسحاب الغرب من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، استخدمت السعودية طاقتها ورأس مالها المالي والسياسي لتظهر كقوة متوسطة تتمتع بنفوذ كبير في عالم متعدد الأقطاب.
بشكل عام، هذا التقييم صحيح. اللوبي الليبرالي فقط في الاتحاد الأوروبي ينظر إلى المملكة العربية السعودية من منطلق مصالحه الخاصة، ويسعى جاهدًا إلى التكيف بشكل انتهازي مع الوضع المتغير. وبناءً على ذلك، تنظر الدول الأخرى إلى السعودية من منظور مصالحها وقيمها الخاصة، لكن الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، أكثر قسوة في تعريفاتها. وهكذا حددت مجلة نيوزويك، السعودية على أنها “دولة متأرجحة، لم تقرر سياستها الخارجية بعد”. وربما يرجع ذلك إلى المسار الذي تنتهجه المملكة حاليًا. لكن هل هو متقلب حقًّا، أم أنه ما زال يتوازن في ظل الاضطراب العالمي الحالي؟
قد يتصور الشخص العادي أنه بسبب التقارب مع إيران والصين، ستتبنى الرياض الآن سياسة معادية تجاه الولايات المتحدة. في الواقع، تريد القيادة السعودية أن يكون لها وزن جدّي في العلاقات مع جميع الجهات الفاعلة الرئيسة، مثل روسيا، والصين، والولايات المتحدة.
وتتأكد هذه السياسة من خلال حقيقة أنه في عام 2023، أنفقت السعودية (87.112.626) دولارًا على جهات الضغط لأجل مصالحها في الولايات المتحدة[2]، وهو أعلى رقم في السنوات الثماني الماضية. وفي الوقت نفسه، سُجّلَ 16 كيانًا للضغط. وفي السابق، كانت المملكة تنفق من 10 إلى 30 مليون دولار سنويًّا لهذه الأغراض. ومن غير المرجح أن تشارك المملكة في هذه الاستثمارات في ظل موقف عدائي، مع أن هذا مبلغ صغير قياسًا إلى ميزانية البلاد.
ومن ناحية أخرى، من الواضح أن السعودية تواجه معضلات معينة في العلاقات الإقليمية، وهي ترتبط تحديدًا بالتوجه نحو الدول الغربية وتوابعها في المنطقة. بادئ ذي بدء، نحن نتحدث عن العلاقات مع إسرائيل، التي وجدت نفسها، بسبب سياسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، معزولة في جميع البلدان العربية والإسلامية تقريبًا، وجُمِّدَ اتفاق تطبيع العلاقات الثنائية. ومع تحسن العلاقات مع إيران، وهو ما أصبح ممكنًا من خلال وساطة العراق والصين، تغيرت الموازين.
ومع ذلك، فإن استمرار هذه المكايد يظهر أن الأولوية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، هي السياسة الإقليمية. ومما يؤكد ذلك إعلان السعودية مؤخرًا تعيين سفير جديد لدى سوريا، ليصبح أول سفير للمملكة في دمشق منذ انقطاع العلاقات مع اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، وقد استُقبِلَ هذا التعيين على نحو إيجابي في روسيا.
كما أن هناك أمرًا آخر يتعلق بزيارة السفير السعودي لدى بغداد، عبد العزيز الشمري، إلى مرقد الإمام الحسين في كربلاء، وهو المزار الشيعي الرئيس في العراق، وكان برفقة السفير محافظ كربلاء نصيف جاسم الخطابي، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين، وشخصيات دينية تحدثوا عن “التكامل الاقتصادي والسياسي في المجالات كافة”. وفي السابق، لم يَزُر أي دبلوماسي سعودي، أو أي مسؤول آخر، المزارات الشيعية. وتنسب مصادر عربية هذه المبادرة على نحو مباشر إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي ينتهج بثبات سياسة تحسين العلاقات مع جيرانه.
وفي نهاية أبريل (نيسان)، أُعلِنَ إطلاق رحلات جوية مباشرة بين مدينة الدمام شرقي المملكة العربية السعودية ومدينة النجف جنوب العراق، التي تضم مزارًا شيعيًّا آخر لا يقل أهمية عن كربلاء، حيث يقع قبر الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد وصهره.
تجدر الإشارة إلى أن السعودية لديها برنامج رؤية (2030)، الذي يتضمن أيضًا مبادرات دبلوماسية إقليمية. تقدم هذه الرؤية تنويعًا طموحًا يهدف إلى تشجيع الاستثمار من خلال التبادلات الاقتصادية والثقافية.
على الجانب الآخر، العراق نفسه مهم للسعودية؛ أولًا: لأن لدى البلدين حدودًا طويلة إلى حدًّ ما، وبالنظر إلى التجربة السلبية لظهور داعش، فإن الرياض ترغب في أن يكون لها جارة تتمتع بمستوى مناسب من الأمن. ثانيًا: بسبب تنفيذ طريق لوجستي عبر العراق وتركيا، يعرف بالقناة الجافة، أو طريق التنمية. وهذا مشروع اقتصادي حيوي للعراق، وسلطات البلاد “تدعو الجميع إلى المساهمة في إنجاح هذا المشروع الذي يمثل حلقة وصل بين الشرق والغرب”.
وبالعودة إلى عام 2023، أعربت السعودية عن استعدادها للاستثمار في جميع محافظات العراق، وقبل ذلك ببضع سنوات قدمت للعراق قرضًا بمبلغ مليار و500 مليون دولار. إن الحصول على حصة في مشروع القناة الجافة، مع توزيع الأرباح المقابلة في المستقبل، سيكون فرصة جيدة للمملكة؛ ومن ثم فإنها لن تفوت هذه الفرصة. كما أن تعزيز الثقة المتبادلة سوف يسهم في ذلك.
ترحب روسيا بهذه المبادرات التي من شأنها تحسين الوضع في الشرق الأوسط، خاصة في الأماكن المتأثرة والمتضررة من الصراعات، التي تشمل إلى جانب العراق (اليمن، وفلسطين، ولبنان، وسوريا). أما فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية، فهي تتطور في اتجاه الثقة. وأعربت موسكو عن تقديرها لمكانة المملكة في أوبك، خاصة في ظل محاولات واشنطن السابقة لتغيير سياسة تسعير النفط. في أغسطس (آب) 2003، أُرسلت شحنة في رحلة تجريبية لقطار على طول الممر الجنوبي من روسيا، وكانت الوجهة النهائية هي مدينة جدة السعودية.
على الرغم من كل هذه النجاحات في العلاقات الثنائية السعودية- الروسية، فإن هناك حاجة أيضًا إلى تفهم أنها ما زالت تمس مجالات السياسة العليا، والمشروعات الاقتصادية الكبرى. ومن أجل تغيير التفكير على المستوى الشعبي في الشارع، تحتاج السعودية إلى مشروعات مختلفة داخل روسيا حتى تظهر صورتها وقدراتها على مستوى مناسب يليق بمكانتها، والتطورات التي أحدثها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. إذا كانت قد موّلت في السابق دورات اللغة العربية، مع التركيز على دراسة القرآن الكريم، فمن المحتمل أنه سيكون من الممكن الآن إيجاد طرق أخرى لإظهار ثقافتها، وتقاليدها، وابتكاراتها، وستجد استجابة جيدة بين المواطنين الروس.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.