إستراتيجيات عسكرية

كوريا الشمالية.. قوة غير متوقعة في السياسة الدولية


  • 13 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: nknews.org

تُعد كوريا الشمالية، أو جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، واحدة من أكثر الدول إثارة للجدل في النظام الدولي. رغم صغر حجمها الجغرافي، ومحدودية مواردها الاقتصادية، والعقوبات الدولية المفروضة عليها، استطاعت هذه الدولة أن تثبت وجودها كلاعب بارز في السياسة الدولية. يتجلى هذا الدور في قدرة زعيمها، كيم جونغ أون، على بناء علاقات إستراتيجية مع قادة مثل الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ مما يعكس قدرة كوريا الشمالية على التأثير في ديناميكيات القوى العظمى.

منذ تأسيسها عام 1948، تبنت كوريا الشمالية نهجًا يعتمد على العزلة الذاتية تحت شعار “جوتشي” (الاعتماد على الذات)، الذي أسسه الزعيم الأول كيم إيل سونغ. خلال الحرب الباردة، استفادت كوريا الشمالية من دعم الاتحاد السوفيتي والصين لتعزيز موقعها بوصفها حليفًا شيوعيًّا في مواجهة كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، لكن انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات ترك كوريا الشمالية في أزمة اقتصادية عميقة، تفاقمت بسبب العقوبات الدولية المفروضة بسبب برنامجها النووي.

رغم هذه التحديات، تمكنت كوريا الشمالية من تحويل نقاط ضعفها إلى أدوات قوة، فالبرنامج النووي، الذي بدأ في التسعينيات، أصبح أداة ردع رئيسة، مما منحها قدرة على التفاوض مع القوى العظمى. على سبيل المثال، نجاح اختبار صاروخ باليستي عابر للقارات عام 2017 أثار تحالفًا نادرًا بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، لكنه عزز أيضًا مكانة كوريا الشمالية كتهديد لا يمكن تجاهله. كذلك يؤدي السياق الجيوسياسي لشبه الجزيرة الكورية دورًا محوريًّا في صعود كوريا الشمالية. تقع الدولة في نقطة إستراتيجية تربط بين الصين، وروسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، مما يجعلها مركزًا للتوترات الإقليمية. هذا الموقع الجغرافي، إلى جانب إستراتيجية “الابتزاز النووي”، سمح لكوريا الشمالية بفرض نفسها لاعبًا رئيسًا، حتى في ظل العقوبات الاقتصادية.

كوريا الشمالية وسياسة القوة

من منظور الواقعية، التي تؤكد أن الدول تسعى إلى تعظيم قوتها وبقائها في نظام دولي فوضوي، يمكن تفسير صعود كوريا الشمالية كلاعب مهم في السياسة الدولية من خلال إستراتيجيتها في استخدام القوة العسكرية، وخاصة برنامجها النووي، كأداة ردع وتفاوض. يرى الواقعيون، مثل هانز مورغنتاو وكينيث والتز، أن الدول تعمل في بيئة دولية تتسم بانعدام الثقة، حيث يكون الهدف الأساسي هو ضمان الأمن القومي من خلال تراكم القوة النسبية. في حالة كوريا الشمالية، يُعد برنامجها النووي العمود الفقري لإستراتيجيتها للبقاء، وتعزيز نفوذها.

البرنامج النووي بوصفه أداة واقعية

بدأت كوريا الشمالية تطوير برنامجها النووي في التسعينيات، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان يوفر دعمًا اقتصاديًّا وعسكريًّا. هذا التحول جاء كرد فعل على التهديدات الوجودية التي واجهتها الدولة، خاصة مع استمرار العقوبات الدولية والتوترات مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، ليُعد البرنامج النووي استجابة منطقية لضمان بقاء النظام في مواجهة قوى عظمى تمتلك تفوقًا عسكريًّا واقتصاديًّا.

تحت قيادة كيم جونغ أون، شهد البرنامج النووي تقدمًا كبيرًا، حيث أجرى النظام سلسلة من التجارب النووية الناجحة، منها تجربة قنبلة هيدروجينية مزعومة عام 2017، وتطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات (ICBMs) قادرة على استهداف الولايات المتحدة. هذه القدرات منحت كوريا الشمالية ما يُعرف في الأدبيات الواقعية بـ”توازن الرعب” (Balance of Terror)، حيث أصبحت قادرة على ردع أي هجوم محتمل من خلال تهديد بتكاليف باهظة. على سبيل المثال، أشار تقرير لمعهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS)، عام 2024، إلى أن كوريا الشمالية تمتلك ما يصل إلى 50 رأسًا نوويًّا، مما يعزز مكانتها كتهديد إستراتيجي.

دبلوماسية الابتزاز.. القوة في الضعف

من السمات البارزة للسياسة الخارجية الكورية الشمالية استخدامها إستراتيجية “الابتزاز النووي”، التي تجمع بين إظهار القوة العسكرية والضعف الاقتصادي. تستغل كوريا الشمالية وضعها كدولة معزولة ومحاصرة لفرض نفسها على طاولة المفاوضات. على سبيل المثال، في التسعينيات، نجحت كوريا الشمالية في الحصول على مساعدات اقتصادية من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية مقابل تعليق أنشطتها النووية مؤقتًا بموجب “الاتفاقية الإطارية” (Agreed Framework) لعام 1994. رغم انهيار هذه الاتفاقية لاحقًا، فإنها أظهرت قدرة النظام على استخدام تهديده النووي كورقة تفاوض.

تحت قيادة كيم جونغ أون، تطورت هذه الإستراتيجية لتصبح أكثر جرأة. في عام 2018، أظهر كيم مرونة دبلوماسية من خلال قممه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، التي عززت شرعيته كزعيم عالمي. لم تكن هذه القمم تهدف إلى نزع السلاح النووي؛ بل إلى تعزيز مكانة كوريا الشمالية كدولة لا يمكن تجاهلها. فشل مفاوضات هانوي عام 2019 لم يضعف موقف كوريا الشمالية، بل عزز إصرارها على الاحتفاظ بقدراتها النووية كضمانة لبقائها.

علاقات كوريا الشمالية مع الصين وروسيا.. تحالفات واقعية

تُعد العلاقات مع الصين وروسيا ركيزة أساسية في إستراتيجية كوريا الشمالية الواقعية. تسعى الدول إلى بناء تحالفات لموازنة التهديدات الخارجية، وهو ما فعلته كوريا الشمالية بدقة. الصين وروسيا، بوصفهما قوتين معارضتين للهيمنة الأمريكية، وجدتا في كوريا الشمالية حليفًا إستراتيجيًّا يساعد على تعطيل النفوذ الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

الصين.. الداعم الإستراتيجي

الصين هي الحليف الأقدم والأكثر أهمية لكوريا الشمالية. منذ الحرب الكورية (1950- 1953)، قدمت الصين دعمًا عسكريًّا واقتصاديًّا لضمان استقرار النظام في بيونغ يانغ، معتبرة إياها منطقة عازلة ضد القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية واليابان. تستفيد الصين من وجود كوريا الشمالية كقوة مضادة للولايات المتحدة، مما يسمح لها بتشتيت انتباه واشنطن في المنطقة.

تحت قيادة شي جين بينغ، شهدت العلاقات بين البلدين تقلبات، لكن كيم جونغ أون نجح في تعزيز هذه العلاقة من خلال زيارات دبلوماسية متكررة إلى بكين، بدءًا من عام 2018. على سبيل المثال، زيارة كيم إلى الصين في يناير 2019، قبل قمته الثانية مع ترمب، كانت رسالة واقعية إلى الولايات المتحدة بأن كوريا الشمالية ليست معزولة تمامًا، وأن لديها داعمًا قويًّا. كما توفر الصين مساعدات اقتصادية غير معلنة، مثل النفط والمواد الغذائية، مما يساعد كوريا الشمالية على تحمل العقوبات الدولية.

روسيا.. شريك إستراتيجي ناشئ

في السنوات الأخيرة، عززت كوريا الشمالية علاقاتها مع روسيا، خاصة في ظل تصاعد التوترات بين روسيا والغرب. يرى فلاديمير بوتين في كوريا الشمالية شريكًا يمكنه تعزيز نفوذ روسيا في آسيا، وتحدي النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة. في عام 2019، التقى كيم وبوتين في فلاديفوستوك، حيث أكد الجانبان تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري.

تشير تقارير استخباراتية حديثة (2024) إلى أن روسيا زودت كوريا الشمالية بتكنولوجيا صاروخية متقدمة مقابل دعم عسكري في الحرب بأوكرانيا. هذا التبادل يعكس نهجًا واقعيًّا بحتًا، حيث تسعى كل دولة إلى تعظيم مصالحها الذاتية. فيما يتعلق بكوريا الشمالية، توفر روسيا دعمًا إضافيًّا لمواجهة العقوبات، في حين تستفيد روسيا من كوريا الشمالية كورقة ضغط ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

دور كيم جونغ أون.. الواقعية الإستبدادية

يُعد كيم جونغ أون العامل المحوري في صعود كوريا الشمالية كلاعب دولي. منذ توليه السلطة في عام 2011، أظهر كيم قدرة على الجمع بين الدبلوماسية والتهديد العسكري بطريقة تعكس فهمًا عميقًا لديناميكيات القوة الواقعية. على عكس والده، كيم جونغ إيل، الذي اعتمد على العزلة التامة، تبنى كيم جونغ أون نهجًا أكثر انفتاحًا دبلوماسيًّا، دون التخلي عن جوهر إستراتيجية البقاء. على سبيل المثال، استخدم كيم القمم الدبلوماسية، مثل لقاءاته مع ترمب وشي وبوتين، لتعزيز صورته كزعيم عالمي. هذه اللقاءات لم تؤدِ إلى تنازلات كبيرة من جانب كوريا الشمالية، لكنها عززت شرعيتها، وأظهرت أن النظام قادر على التفاوض مع القوى العظمى على قدم المساواة. هذه الخطوات تهدف إلى تعزيز الردع، ومنع أي محاولات خارجية لتغيير النظام.

يُعد بقاء النظام الهدف الأسمى لكوريا الشمالية، وهو ما دفعها إلى تطوير إستراتيجيات للالتفاف على العقوبات. على سبيل المثال، اعتمدت كوريا الشمالية على شبكات تهريب معقدة، خاصة عبر الحدود مع الصين، لاستيراد المواد الأساسية، مثل النفط، والمواد الغذائية. أشارت تقارير الأمم المتحدة (2024) إلى أن كوريا الشمالية تواصل الحصول على النفط عبر عمليات نقل السفن في البحر، مما يسمح لها بتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية.

بالإضافة إلى ذلك، طورت كوريا الشمالية اقتصادًا موازيًا يعتمد على أنشطة غير مشروعة، مثل الجرائم السيبرانية. وفقًا لتقرير صادر عن مجموعة خبراء الأمم المتحدة في 2023، أسهمت هجمات القرصنة السيبرانية التي نفذتها مجموعات مدعومة من كوريا الشمالية، مثل مجموعة لازاروس، في جمع مئات الملايين من الدولارات سنويًّا من خلال سرقة العملات الرقمية. هذه الأموال تُستخدم لتمويل البرنامج النووي ودعم النظام، مما يعكس نهجًا واقعيًّا يركز على استغلال نقاط ضعف النظام الدولي لضمان البقاء.

تستغل كوريا الشمالية العقوبات الدولية لتعزيز التماسك الداخلي وتبرير سياساتها العدوانية. يروج النظام لرواية مفادها أن العقوبات هي محاولة من القوى الغربية لتقويض سيادة كوريا الشمالية، مما يعزز شعبية كيم جونغ أون بين مواطنيه بوصفه زعيمًا يقاوم الهيمنة الأجنبية. هذه الرواية، التي تتجذر في أيديولوجية “جوتشي” (الاعتماد على الذات)، تحول العقوبات من نقطة ضعف إلى أداة لتعبئة الدعم الداخلي. من خلال تصوير العالم الخارجي على أنه عدو مشترك، يعزز النظام وحدته الداخلية، وهو أمر حاسم في نظام استبدادي يعتمد على السيطرة المطلقة.

خاتمة

تُبرز رحلة كوريا الشمالية من دولة معزولة إلى لاعب بارز في السياسة الدولية، من خلال منظور الواقعية، كيف يمكن لدولة صغيرة أن تتحدى القيود الهيكلية للنظام الدولي باستخدام القوة العسكرية والدبلوماسية الإستراتيجية. لقد نجح كيم جونغ أون في استغلال البرنامج النووي كأداة ردع وتفاوض، مما مكّن بلاده من فرض وجودها على الساحة العالمية رغم العقوبات والعزلة. علاقات كوريا الشمالية  الإستراتيجية مع الصين وروسيا، التي تتسم بالمصلحة المتبادلة، عززت قدرتها على مواجهة الضغوط الغربية، حيث استفادت من التنافس بين القوى العظمى لتعزيز موقعها. هذا النجاح يعكس فهمًا عميقًا لديناميكيات القوة في عالم فوضوي، حيث يظل بقاء النظام الهدف الأسمى، وتُستخدم كل الأدوات المتاحة لتحقيقه، سواء أكانت صواريخ باليستية أم تحالفات دبلوماسية.

في المستقبل، من المرجح أن تستمر كوريا الشمالية في نهجها الواقعي، مستفيدة من الانقسامات الجيوسياسية، وتعزيز قدراتها العسكرية لضمان بقائها. ومع أن العقوبات الدولية قد تحدّ نموها الاقتصادي، فإنها لم تنجح في كسر إرادة النظام، أو إجباره على التخلي عن طموحاته النووية. يُظهر هذا الواقع أن كوريا الشمالية ليست مجرد دولة هامشية؛ بل قوة إستراتيجية تستطيع التأثير في التوازن الدولي. خلال قيادة كيم جونغ أون، أثبتت كوريا الشمالية أن القوة في النظام الدولي لا تُقاس بحجم الأرض، أو عدد السكان؛ بل بالقدرة على استغلال الفرص والتحديات لتحقيق أهداف البقاء والنفوذ.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع