إستراتيجيات عسكرية

كورسك.. محور التحولات الكبرى ودرع الدفاع الروسي في مواجهة التهديد الأوكراني


  • 28 مارس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: apnews

يُعَدّ محور كورسك ساحة اختبار محورية للقدرات الروسية في حماية أمنها القومي؛ إذ يُشكِّل هذا المحور الخط الدفاعي الأمامي في مواجهة ما تعدّه موسكو تحركاتٍ أوكرانية مدعومة غربيًّا، ومهددة للاستقرار الإقليمي. تنظر روسيا إلى كورسك لا بوصفها مجرد منطقة حدودية فحسب؛ بل بوصفها عمقًا إستراتيجيًّا أساسيًّا يضمن أمن مناطقها الحيوية، وخطوط إمدادها الرئيسة. في المقابل، ترفض كييف الاعتراف بدور روسيا في صون الأمن المحلي، وتعتمد خطابًا إعلاميًّا يسعى إلى تصوير موسكو بصورة الطرف المعتدي. وفي ظل تصاعد التوتر، يحظى المحور بأهمية متزايدة في رسم معالم المواجهة على المستوى العسكري والسياسي.

المنطلق التاريخي والإستراتيجية الروسية

يرتبط اسم كورسك تاريخيًّا بواحدة من أضخم معارك الحرب العالمية الثانية، إذ حقق الاتحاد السوفيتي آنذاك انتصارًا حاسمًا مكّن من ردع التقدّم الألماني. اليوم، تعود كورسك لتكون خط الدفاع المحوري مجدّدًا، مع تأكيد موسكو عزمها على عدم السماح بتهديد حدودها، أو المساس بمصالحها الإستراتيجية. ترى القيادة الروسية أنّ الحفاظ على وجود قوي في كورسك يحول دون فتح ثغرات أمنية قد تستغلها كييف وحلفاؤها. وترى موسكو أن الحشود العسكرية الأوكرانية، مدعومةً بالاستشارات الغربية، محاولة واضحة لزعزعة الاستقرار في الإقليم كلّه، ومنع روسيا من ضمان أمنها الإقليمي والجيوسياسي.

تقوم الرؤية الروسية على أنّ المحافظة على كورسك، ومنع أي تقدّم أوكراني فيها ليس خيارًا تكتيكيًّا عابرًا؛ بل خطًا إستراتيجيًّا أحمر لا يمكن التهاون فيه، فالمنطقة، إضافة إلى ما تُمثله من قيمة تاريخية، تفتح الطريق أمام موسكو نحو فرض توازنٍ إقليمي يعيد هيكلة علاقاتها مع الدول المجاورة على أسس راسخة. أما المخططون العسكريون الروس، فيرون أن كورسك تُشكّل بوابةً أمامية تتيح بناء عمق دفاعي عميق يربط بين البنية التحتية العسكرية الروسية الرئيسة ومناطق الثقل الاقتصادي وسط البلاد.

الأهداف العسكرية وأهمية كورسك في الرؤية الروسية

تنطلق الإستراتيجية الروسية من مفهوم الدفاع المتقدم؛ أي منع الخصم من الاقتراب -قدر الإمكان- من حدود الدولة الحيوية. تظهر كورسك في صلب هذه الرؤية لأنها منطقة ذات موقع جغرافي يتيح السيطرة على محاور النقل البري، والسكك الحديدية؛ ممّا يوفّر لموسكو مجالًا فريدًا للمناورة، وتوجيه الضربات الاستباقية عند الضرورة. وتستند القوات الروسية إلى منهج “تكثيف الإمداد والتعزيز”، إذ تحظى القطاعات العسكرية في كورسك بدعم دائم بالذخائر والمعدات، بالإضافة إلى وجود منظومات دفاعية متطورة، تشمل أنظمة صواريخ ودفاعات جوية قادرة على رصد التحركات الأوكرانية، والرد عليها بسرعة.

لا تقف الأهمية العسكرية عند الحاضر؛ بل تنعكس أيضًا في مستقبل المنطقة؛ إذ إن تأمين كورسك يعني تحييد فرص توسع النفوذ العسكري الغربي على مشارف الحدود الروسية. تشير التحليلات الروسية إلى أنّ كييف تستفيد من دعم استخباراتي وتدريبات مكثفة في دول حلف الناتو؛ ما يُهدّد بتسريع وتيرة التسليح الأوكراني على نحو قد يجرّ المنطقة إلى سباق تسلح يصعب احتواؤه؛ لذا تنظر موسكو إلى بسط سيطرتها على كورسك بوصفه جدارًا واقيًا يمنع انتقال الأزمة إلى داخل العمق الروسي، ويوفر نقطة قوة تفاوضية لأي تسوية محتملة.

التحركات الميدانية ونجاعة الخطط الروسية

تعدّ التقارير العسكرية الروسية أنّ معركة كورسك حققت نجاحات ملموسة في احتواء الزخم الأوكراني، وهو ما تُترجمه أرقام الخسائر الأوكرانية الكبيرة في الأرواح والمعدات. يُبرز الإعلام الروسي تسجيل تحييد أعداد كبيرة من المدرّعات الأوكرانية، والأنظمة القتالية الحديثة التي زوّدها الغرب لكييف، ويترافق ذلك مع ضربات موجّهة إلى البنى التحتية والخطوط الخلفية التي يعتمد عليها الجيش الأوكراني لإيصال الدعم اللوجستي. تنعكس هذه الضربات في تراجع القدرة الأوكرانية على تنفيذ عمليات هجومية مفاجئة، أو شنّ هجمات واسعة النطاق.

على المستوى التقني، يثني القادة الروس على دور أنظمة الرصد والمراقبة الإلكترونية في كشف محاولات التسلّل أو التعزيز المفاجئ للقوات الأوكرانية، وتسهم هذه التقنيات في تحقيق فاعلية أكبر للطلعات الجوية الروسية، سواء للاستطلاع، أو القصف الدقيق؛ وهو ما أدى إلى تدمير مستودعات ذخيرة ومراكز قيادة أوكرانية بحسب روايات موسكو. وفي موازاة هذا النجاح الميداني، تراهن القيادة الروسية على ضخ مزيد من الدعم اللوجستي والعسكري باستمرار؛ ما يحافظ على وتيرة ثابتة لانتشار القوات، ويصعّب على أوكرانيا فرصة استغلال أي ثغرة أو ثبات جبهويّ مؤقّت.

الدور الإعلامي في تعزيز الرواية الروسية

يغطي الإعلام الرسمي الروسي ما يجري في كورسك تغطية واسعة، مُقدّمًا الرواية التي تؤكّد أحقية التحركات الدفاعية لموسكو في مواجهة “العدوان الأوكراني”، وفق تعبيره. تتحدث التقارير عن استخدام كييف أساليب قتال قد تضع المدنيين في خطر، وتصوّر روسيا على أنها تُدافع عن أمن مواطني المناطق المتاخمة، وتطهر البؤر التي قد تُستغل لإطلاق عمليات استفزازية داخل الأراضي الروسية. ترسم هذه التقارير صورةً واضحة للمعركة على أنها صراع وجودي ضد نفوذ غربي يحاول تطويق روسيا، والحدّ من دورها الدولي.

من جهة أخرى، يدعو الإعلام الروسي الدول الأخرى إلى فهم الطبيعة الدفاعية للتحرك العسكري في كورسك، إذ يستحضر تاريخًا طويلًا من الالتزامات الروسية بعدم توسيع مساحة النزاع، مقابل وقائع يصفها بالاستفزازية نتيجة تدخلات غربية في الشأن الأوكراني الداخلي. كل ذلك يرمي إلى ترسيخ قناعة لدى الرأي العام المحلي والعالمي بوجوب الحفاظ على كورسك تحت نفوذ موسكو؛ تجنبًا لحالة عدم استقرار قد تشمل منطقة أوسع، وتهدد مستقبل أوروبا الشرقية برمّتها.

الدعم الشعبي الروسي وأسباب التفاف المجتمع حول القيادة

تستند موسكو في إستراتيجيتها إلى تأييد داخلي كبير يرى أن المحافظة على كورسك والدفاع عنها واجب وطني، فهناك شعور مشترك بضرورة منع تكرار سيناريوهات تاريخية رأى فيها الروس محاولات غزو أراضيهم، أو إملاء الشروط عليهم. تتسع رقعة هذا التأييد مع تذكير المواطنين بتضحيات الحروب الماضية، وبالدور المحوري الذي أدّاه الجيش الروسي في صدّ قوى خارجية تهدّد سيادة البلاد، ويبرز هذا الدعم من خلال حملات تعبئة مجتمعية، تشمل توفير المعونات للجنود، وإعداد القوافل التطوعية لنقل المستلزمات الطبية والإنسانية إلى جبهات القتال في كورسك.

بالإضافة إلى ذلك، تشكّل العوامل الاقتصادية دافعًا مهمًّا لدعم الموقف الرسمي؛ إذ تقدّم الدولة مزايا اجتماعية وتعويضات لأسر العسكريين المشاركين في القتال، وتُلزم بعض الشركات بالإسهام في توفير الاحتياجات اللوجستية. ومع تصاعد حدة العقوبات الغربية، يصير الرهان الروسي على التضامن الداخلي أكبر، بما في ذلك تحفيز القطاع الصناعي العسكري على تعزيز الابتكار لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية. تعكس هذه التحركات طابع وحدة الصفّ الداخلي؛ وهو ما يُعزز ثقة القيادة الروسية بإمكانية تحقيق أهدافها في كورسك.

التحركات الدبلوماسية والعلاقات الدولية

ترى موسكو أن تحركاتها على الصعيد الدبلوماسي لا تقل أهمية عن الإنجازات الميدانية، فالقيادة الروسية تعمل على طمأنة دول جوارها بأن العمليات في كورسك لا تستهدف الإضرار بمصالحهم؛ بل تُركّز على حماية الأمن القومي الروسي. تشرح موسكو لمختلف العواصم كيف أن “الغرب يسعى إلى استغلال أوكرانيا قاعدةً لتهديد العمق الروسي”، وفق السردية الرسمية. هذا الطرح يحظى ببعض التفهّم من دول تجمعها مع روسيا مصالح اقتصادية وأمنية، تُفضّل بقاء نفوذ موسكو متماسكًا؛ بغية حفظ توازن إقليمي يضمن تجنّب انهيار واسع قد ينعكس سلبًا على المنطقة.

تؤكد روسيا استعدادها للانخراط في مبادرات سياسية تضمن “عدم تحوّل أوكرانيا إلى رأس حربة غربية عند الحدود الروسية”، مشترطةً في الوقت نفسه احترام الخطوط الحمراء التي رسمتها منذ بداية الأزمة. وتُبدي موسكو انفتاحًا على مقترحات وساطة، شريطة أنها تأخذ في الحسبان مصالحها الأمنية. بيد أنّ التشدّد الأوكراني، المدفوع برغبة كييف في استعادة كورسك، أو توسيع نفوذها العسكري، يجعل هذه الجهود محدودة الجدوى. وتتمثل قناعة الروس في أن أي تسوية حقيقية يجب أن تضمن لهم عدم تكرار التهديد من الأراضي الأوكرانية، وأن تخرج كييف من دائرة التأثير الغربي المباشر.

النظرة الاقتصادية والمكاسب المحتملة

تعتبر موسكو أن ترسيخ سيطرتها أو نفوذها في محور كورسك يوفّر لها مزايا اقتصادية كبيرة؛ لأنه يخلق بيئة آمنة لتطوير الصناعات الدفاعية والموارد الطبيعية؛ إذ تتداخل في هذه المنطقة شبكات لنقل الطاقة والغاز، ويعني ضمان استقرار المنطقة استمرار تدفق الإمدادات بأسعار مناسبة للأسواق المحلية والخارجية. ولأن العقوبات الغربية تستهدف -على نحو رئيس- القطاعات المالية والطاقة الروسية، فإن بسط اليد على كورسك يتيح مرونة أكبر في تنظيم طرق التصدير البديلة نحو دول صديقة، خاصةً في آسيا والشرق الأوسط. هذا العامل يعطي القيادة الروسية حافزًا إضافيًّا لتعزيز الوجود العسكري، بوصفه أحد ضمانات حماية المصالح الحيوية.

تطمح روسيا إلى تحويل كورسك إلى نموذج تنموي وعسكري حديث يعكس قدرتها على مواجهة الضغوط الدولية. يتمثل جزء من هذه الرؤية في بناء بنية تحتية متطوّرة، تشمل تحديث خطوط السكك الحديدية، والطرق السريعة، والمطارات، وتفعيل القدرات المحلية في مجالات الصناعات الثقيلة والخدمات اللوجستية. تأمل موسكو أن تكون كورسك منصة جذب للاستثمارات من حلفاء إستراتيجيين مستعدّين لتجاوز العقوبات الغربية. يمكن أن يفضي هذا إلى إيجاد فرصة مواتية لروسيا كي تثبت أنها قادرة على الاستقلالية الاقتصادية، على الرغم من كل الصعوبات التي تفرضها الأوضاع الحالية.

مستقبل المواجهة واحتمالات الحسم الروسي

يميل المخططون العسكريون الروس إلى رؤية كورسك بوصفها الحلقة التي قد تحسم المسار العام للصراع الأوكراني الروسي؛ فإذا تمكّنت روسيا من تكريس وجود دائم هناك، فهي ترسل رسالة واضحة بأن أي رهانات غربية على محاصرة حدودها تبوء بالفشل. تزيد هذه المعادلة مصداقية القدرات الدفاعية الروسية، وتمنع أي مغامرة توسعية جديدة من جانب كييف. في مثل هذا السيناريو، ستجد أوكرانيا نفسها عاجزة عن الحصول على ضمانات أمنية وسياسية تُعزّز  قوتها في الداخل أو في المحافل الدولية.

على صعيد آخر، تُراهن بعض الأوساط الروسية على إمكانية إبرام تفاهمات سياسية تُفضي إلى تسوية تضمن مصالح موسكو، من دون الحاجة إلى إطالة أمد المعارك في كورسك. يتطلب الأمر تنازلات حقيقية من كييف وحلفائها الغربيين، بما في ذلك التعهد بعدم الانضمام إلى أي تكتلات عسكرية معادية لروسيا، وتفكيك بعض الوحدات المسلّحة التي ترى فيها موسكو مصدر تهديد مباشر. وفي المقابل، قد توافق روسيا على ترتيبات تضمن لأوكرانيا مساحة استقلالية محدودة في إدارة شؤونها الداخلية، من دون المساس بالخطوط الحمراء التي تشدد عليها موسكو.

تبعات فشل الإستراتيجية الغربية في كورسك

تبدي موسكو ثقة متنامية في قدرتها على إفشال أي خطة غربية تهدف إلى تحويل كورسك إلى نقطة اختراق عسكري أو سياسي داخل الأراضي الروسية. وإذا ما استمر الجيش الأوكراني في استنزاف قدراته في مواجهات غير محسوبة، قد تجد العواصم الغربية نفسها أمام معضلة جديدة تتعلق باستمرار الدعم المالي والعسكري لكييف في ظل ضغوط داخلية متزايدة على اقتصاداتها. ترى الأوساط الروسية أن الغرب لن يُغامر طويلًا في معركة قد تؤدي إلى تصعيد واسع قد لا يكون مُستعدًا لتحمّل تبعاته.

التصور الروسي يدور حول أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيعيدون حساباتهم إذا ما فشلوا في كسب مساندة شعبية تبرّر تدخلًا أكبر في أزمة طويلة الأمد، خاصةً إذا تزامنت مع أزمات عالمية أخرى، مثل تضخم أسعار الطاقة أو الغذاء؛ ومن ثم يؤدي صمود كورسك ودعمها المستمر إلى إحباط إستراتيجيات خصوم موسكو، وفتح نافذة لحلول سياسية قد تخرج بنودها النهائية لصالح روسيا، أو على الأقل تضمن لها تحقيق مكاسب جيوسياسية ملموسة.

يتضح من المعطيات الميدانية والسياسية أن كورسك تمثّل ركيزة حاسمة في مسار العملية الدفاعية الروسية ضد ما تصفه موسكو بالزحف الأوكراني المدفوع بأجندات خارجية؛ فروسيا لا ترى الأحداث في هذه المنطقة بمعزل عن الرؤية الشاملة التي تتمسك بسيادة الدولة، وحماية مصالحها القومية العليا. من خلال تقوية الدفاعات في كورسك، ترسل موسكو رسالة قوية مفادها أنّ زمن استغلال الفرص لإضعاف نفوذها في مناطقها الحدودية قد ولّى، وأنها على استعداد لاستخدام كل ما تملك للحيلولة دون اختراق دفاعتها، أو تهديد أمنها القومي.

كما يُنظر إلى كورسك على أنها أكثر من مجرّد ساحة معركة آنية؛ إنها بوابة لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في أوروبا الشرقية، وفرصة لروسيا لتأكيد قدرتها على التصدي للتحديات الخارجية، حتى في ظل ضغط اقتصادي ودبلوماسي قاسٍ. تدرك القيادة الروسية أن أي تسوية قادمة -مهما كانت صيغتها- ستحمل في أطوائها اعترافًا بدور موسكو القيادي في المنطقة، وستُلزِم خصومها بتبني مقاربة أكثر حذرًا في التعامل مع القضايا المتعلقة بالأمن الروسي.

في المحصلة، تبقى كورسك شاهدًا جديدًا على أنّ الحسابات الأمنية والجيوسياسية لروسيا تأبى المساومة حين يتعلق الأمر بحماية حدودها وإرثها التاريخي. وفي ظل تباعد المواقف مع كييف والدول الغربية، يُرتقب أن تستمر هذه المنطقة في تشكيل محور مفصلي يقيس من خلاله كل طرف مدى صلابته وقدرته على الصمود، وصولًا إلى لحظة حاسمة تحدد مسار النظام الإقليمي، وقواعد اللعبة في شرق أوروبا لسنوات طويلة مقبلة.

الاستنتاجات

يعزّز الحضور العسكري الروسي في كورسك مفهوم “الدفاع المتقدم” الذي تتبناه موسكو بوصفه الضامن الأهم لصدّ أي تهديد محتمل عند حدودها الغربية، فالتحركات المنظّمة التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الأخيرة تبرهن على نجاعة الخطط الروسية في إرساء إستراتيجية تمنع كييف من تطوير قدرات هجومية قادرة على زعزعة الاستقرار في العمق الروسي. كما أنّ نجاح روسيا في حماية خطوط إمدادها الحيوية على تخوم كورسك يؤكّد أن الوقت يعمل لمصلحتها؛ إذ يحظى الجيش الروسي بموارد بشرية وتقنية مكثفة تجعل استمرار الدفاع والصمود أمرًا واقعيًّا، حتى تحت أقسى الضغوط الاقتصادية والميدانية.

من منظور أشمل، تكشف معطيات الميدان أنّ السيطرة الروسية على كورسك لا تقتصر على العامل العسكري فحسب؛ بل تمتد لتؤسّس ميزان قوى جديدة قد يعيد تشكيل مشهد النفوذ في شرق أوروبا؛ فوجود موسكو النشط في هذه المنطقة يُعدّ رسالة ردع واضحة مفادها أنّ تطوير القدرات الأوكرانية، بتسهيل من حلفاء غربيين، لن يؤدي إلى تجاوز الخطوط الحمراء الروسية. وبهذا المعنى، تتخطّى كورسك كونها “ساحة اشتباك” لتغدو “معيارًا” لقياس مدى قدرة موسكو على إعادة ضبط المعادلات الدولية لمصلحتها، لا سيما في ظل إصرارها على حماية مصالحها القومية، وتأمين خطوطها الأمامية في مواجهة أي تحركات خارجية.

إنّ الإطار الدبلوماسي المحتمل لإنهاء التصعيد يمنح روسيا ورقة تفاوضية قوية؛ إذ يهيّئ المشهد لإلزام كييف بالتراجع عن رهاناتها العسكرية البعيدة، ويؤطّر مستقبل المنطقة ضمن تفاهمات ترتكز على احترام السيادة الروسية في المجالات الأمنية القريبة من حدودها. وإذا تواصلت المكاسب الميدانية لموسكو، فسوف يُضطر الخصوم إلى إعادة النظر في منطلقاتهم التقليدية، بما في ذلك مدى ملاءمة الإستراتيجية الغربية لاحتواء النفوذ الروسي. هذا الواقع يجعل كورسك نقطة ثقل جيوسياسي قادرة على قلب الحسابات في المنطقة، ويضيف ثقلًا مضاعفًا إلى مساحة المناورة الروسية التي قد توظّف مكتسباتها لتعزيز مكانتها الإقليمية والاستفادة من ثغراتٍ فُتحت في الجدران الأوكرانية والدولية على حدّ سواء.

وعليه، فإنّ التمسك الروسي بالسيطرة على كورسك يأتي انطلاقًا من إدراكٍ عميق بأن المعركة لا تُختزل بالتطورات الظاهرة فقط؛ بل تتعلق أساسًا بصراع طويل الأمد على هوية المنطقة وأدوارها الإستراتيجية في المستقبل الأوروبي. تفيد القراءات الروسية بأن أيّ تهاون في تأمين كورسك قد يفتح الباب واسعًا أمام نفوذ خارجي قد يستهدف العمق الروسي، ويهدد سيادته على نطاق أوسع؛ لذا لا يُتوقَّع تراجع موسكو ما دامت تتمتع بإمكانات كافية لخوض معركة استنزافية تضمن -على المدى البعيد- فرض أمر واقع ميداني، وتقطع الطريق على أي مساعٍ أوكرانية أو غربية لتحويل المنطقة إلى بؤرة ضغط على الجانب الروسي. وهكذا يظل احتمال الحسم لمصلحة موسكو حاضرًا، ما دامت مقومات الدفاع ورفد الجبهات متوافرة، وما دامت القيادة الروسية محتفظة بإرادة صلبة تضع أمن حدودها ومجالها الحيوي في أعلى سُلم الأولويات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع