مقالات المركز

كوبا.. صمود أسطوري وفشل “للأقدام المبللة”


  • 29 يناير 2024

شارك الموضوع

إنه أطول حصار في التاريخ، هو أقسى وأشد عقاب جماعي يتعرض له شعب منذ عام 1958 حتى اليوم، تجد آثاره المدمرة على جدران كل بيت، وفي حديث كل شاب، وفي خطابات كل مسؤول، إنه انتقام جماعي من هذا الشعب الذي أراد أن يمارس حريته، ويختار طريقه، ويرفض ما يُملى عليه من الخارج.

75 عامًا من الضغوط السياسية، والاقتصادية، وأحيانًا العسكرية والأمنية؛ حتى يغير الشعب وقيادته قناعاتهم السياسية. منعوا عنهم كل شيء، هددوا كل شركة ومصنع يتعامل معهم. يتعاملون معهم طوال أكثر من 7 عقود بقانون واحد؛ هو “قانون التجارة مع العدو”، الذي يحظر على أي شركة أمريكية، أو أي شركة تتعامل مع الولايات المتحدة، أن تبيع أو تشتري من هذا الشعب الصامد.

أتحدث عن كوبا الجمهورية، والشعب، والقيادة، والصمود الأسطوري أمام الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية على الجزيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 11 مليون نسمة، ويسكنون في أرض لا تزيد مساحتها على 110 آلاف كم، لكن مشكلتهم أن جزيرتهم لا تبعد أكثر من 90 ميلًا عن ولاية فلوريدا، ومنزل الرئيس دونالد ترمب في “مار ألاغو”، في مدينة بالم بيتش.

كانت واشنطن تنتظر من قيادة كوبا وشعبها الدخول في “بيت الطاعة”، وأن تكون جزيرتهم جزيرة للمخططات الأمريكية لكل منطقة الكاريبي وأمريكا الجنوبية، وعندما انحاز الشعب إلى الثورة الكوبية التي نجحت في يناير 1969 لم تقبل الولايات المتحدة هزيمتها في أقرب بقعة جغرافية من حدودها البحرية الجنوبية، ومن وقتها فرضت أطول حصار سياسي واقتصادي عرفه التاريخ.

الولايات المتحدة التي تتحدث ليل نهار عن الإنسانية، واحترام خيارات الآخرين لم تثبت يومًا أنها تحترم خيارات الشعب الكوبي في اختيار النمط والنموذج السياسي والتنموي الذي يريده، وقررت واشنطن وحدها، وبعيدًا عن الأمم المتحدة وكل الأعراف الدولية، أن تفرض على الشعب الكوبي الحصار وصعوبات لا يمكن للكلمات- مهما كانت مبدعة- أن تصف جزءًا منها ومن المعاناة والآلام التي تركها الحصار الأمريكي على كوبا. جميع المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة، وصفت حصار واشنطن لأبناء هافانا وسانت كلارا وسانتياغو دي كوبا بأنه حصار ظالم وغير قانوني، ويكفي الإشارة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2014، الذي صوت له- أغلبية كاسحة- 188 دولة من أصل 193 لصالح رفض الحصار، واعتبار ما تقوم به الولايات المتحدة قرارًا ينتهك “المساواة بين الدول في السيادة، ويطالب واشنطن بعدم التدخل في شؤون كوبا الداخلية”.

ورغم الإعلان رسميًّا من جانب الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عن إلغاء سياسة “الأقدام المبللة” ضد كوبا عام 2015، فإن الولايات المتحدة لا تزال تشدد الخناق على الشعب الكوبي.

فخطة “الأقدام المبللة” التي أقرها البيت الأبيض عام 1966، كانت تقول إن أي مواطن كوبي يصل إلى الأراضي الأمريكية من أي مكان في العالم سوف يحصل على الوثائق وكل المزايا بعد عام واحد من وصوله إلى الولايات المتحدة، وعُدّلت هذه الخطة عام 1996 باسم “قدم مبللة وقدم جافة”، وتقول إن المواطن الكوبي الذي يصل إلى الأراضي الأمريكية (الأقدام الجافة) سوف يحصل على الوثائق ويصير مواطنًا أمريكيًّا، في حين أن الذي يأتي عبر المياه (الأقدام المبللة)، أي عبر مضيق فلوريدا الذي يفصل بين كوبا والولايات المتحدة، سوف يعاد مرة أخرى إلى كوبا، وهذه الإستراتيجية تهدف إلى تفريغ كوبا من أبنائها، وخلق “لوبي كوبي” معارض للحكومات الكوبية المتعاقبة منذ اندلاع الثورة الكوبية بزعامة فيدل كاسترو، وأخيه راؤول، والمناضل تشي جيفارا؛ لأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تدرك أن الأمريكيين من أصل كوبي باتوا ورقة أمريكا لاتهام كوبا بأنها تناهض النظام الأمريكي “القائم على القواعد” الموروثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لهذه السياسة، بات هناك نحو 1.5 مليون كوبي في الولايات المتحدة، خاصة في ولاية فلوريدا، وهو ما يشكل نحو 10 % من سكان كوبا.

لماذا الحصار؟

السؤال الذي يطرحه الجميع هو: لماذا تصر الولايات المتحدة على هذا العقاب الجماعي لدولة في الجوار الأمريكي؟ ولماذا لم تحاول السياسات الأمريكية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1958 البحث عن صيغة للتعامل مع دولة صغيرة بخلاف الصيغة الحالية التي تصف كوبا بالعدو لأمريكا؟ والجواب يكمن في عدة أمور، منها:

أولًا: أراضٍ أمريكية

هناك في اليقين السياسي الأمريكي أن كوبا كان يجب أن تظل أراضي أمريكية، فبعد هزيمة إسبانيا في الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898 تنازلت إسبانيا عن كوبا، وغوام، وبوروتريكو، والفلبين للولايات المتحدة، لكن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت منح كوبا استقلالًا كاملًا في 20 مايو (أيار) 1902، واستأجرت واشنطن من هافانا خليج “غوانتانامو”، ويعتقد بعض الساسة الأمريكيين أن كوبا ما كان لها أن تستقل عن الولايات المتحدة، وكان يجب أن يكون وضعها مثل الوضع القانوني لجزيرة غوام في المحيط الهادئ، ويتهمون الرئيس تيودور روفلت بالتفريط في الأراضي الأمريكية، ويعتبرون ذلك سابقة غريبة في التاريخ الأمريكي، حيث دائمًا ما تشتري الولايات المتحدة الأراضي والولايات المختلفة، بداية من شراء ولاية ألاسكا من روسيا القيصرية عام 1867، وقبلها شراء ولاية لويزيانا من فرنسا عام 1803.

ثانيًا: مخلب قط

تنظر الولايات المتحدة إلى كوبا منذ نجاح الثورة الكوبية على أنها “مخلب قط”، وأنها يمكن أن تكون “قاعدة خلفية” لأعداء واشنطن بالقرب من الأراضي الأمريكية، ويعتمد هؤلاء على أن كوبا سعت إلى تقويض الهيمنة الأمريكية على العالم مرتين، وهما:

1- أزمة الصواريخ الكوبية وحرب خليج الخنازير

حاولت الولايات المتحدة إسقاط الحكم في كوبا أكثر من مرة، ومنها عملية “خليج الخنازير” التي بدأت في أبريل (نيسان) عام 1961، وفشلت فشلًا ذريعًا، وأحرجت الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، ومدير مخابراته ألان جونسون، ونتيجة لذلك بدأت كوبا بالبحث عن وسائل دفاعية جديدة، منها قبول نشر صواريخ نووية قصيرة ومتوسطة المدى من الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما كشفته طائرات لوكهيد الأمريكية في 14 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1962، وزادت الأزمة عندما كشفت الطائرات الأمريكية عشرات السفن السوفيتية التي تحمل مزيدًا من هذه الصواريخ إلى كوبا، وبعد 13 يومًا اتفقت واشنطن وموسكو على إنهاء الأمر عبر سحب الاتحاد السوفيتي صواريخه من كوبا، على أن تسحب الولايات المتحدة صواريخها النووية الموجهة إلى الاتحاد السوفيتي من تركيا، لكن هذه الحادثة جعلت السياسيين الأمريكيين ينظرون دائمًا إلى كوبا باعتبارها قاعدة متقدمة لأعداء الولايات المتحدة، مع أن هذا القرار الكوبي كان رد فعل فقط على المحاولات الكثيرة لإسقاط النظام الكوبي.

2- قاعدة عسكرية صينية في كوبا

بعد نحو 65 عامًا من أزمة الصواريخ الكوبية، اتهمت المخابرات الأمريكية كوبا بأنها منحت الصين قاعدة تجسس على الأراضي الكوبية منذ عام 2019، وأن هذه القاعدة تقدم خدمات لا تقدر بثمن من خلال تمكين الصين من اعتراض المكالمات الأمريكية وكشفها، ونفت الحكومتان الكوبية والصينية هذا الاتهام، لكن الصين قالت إنها لو وقعت على هذه الاتفاقية في المستقبل بقبول من الحكومة الكوبية، فإن ذلك سوف يكون قانونيًّا تمامًا؛ اعتمادًا على أمرين: الأول هو تطويق الولايات المتحدة للصين بعشرات القواعد العسكرية في اليابان، وكوريا الجنوبية، والفلبين، وفيتنام، وأستراليا، والثاني أن الصين إذا فكرت في بناء هذه القاعدة في المستقبل فسوف يكون قرارها متفقًا تمامًا مع القانون الدولي، والمنافسة الحالية مع واشنطن.

برنسا لاتينا وتحصين الوعي

ربما يتساءل بعضنا: كيف لجزيرة صغيرة وشعب عظيم مثل الشعب الكوبي أن يواجه قوة مثل الولايات المتحدة التي يزيد الناتج القومي لها عام 2024 على 27 تريليون دولار، وتنشر القواعد العسكرية في أكثر من 80 دولة في العالم؟ هناك إجابات كثيرة عن هذا السؤال، لكن أكثر الأدوات التي ساعدت كوبا على التغلب على كل تبعات الحصار وارتداداته هي “تحصين الوعي”؛ بمعنى تقوية الوعي العام للمواطن الكوبي بعد أن تأكد للقيادة الكوبية أن الولايات المتحدة لن تتوقف عن دفع المواطنين الكوبيين إلى التظاهر ضد الحكومة الكوبية، وجرى ذلك مرات كثيرة، منها عملية “الربيع الأسود” عام 1991، التي حاولت فيها واشنطن تعبئة الشارع الكوبي ضد الحكومة؛ ولهذا تسعى كوبا- على الدوام- إلى دعم وعي المواطن الكوبي بعدة وسائل، منها تأسيس المناضل الكوبي تشي جيفارا مع فيدل وراؤول كاسترو وكالة أنباء “برنسا لاتينا”؛ لتكون صوت الكوبيين ضد طوفان الأكاذيب وأنصاف الحقائق التي كانت وسائل الإعلام الأمريكية تنشرها في ذلك الوقت المبكر، فعندما تأسست “برنسا لاتينا” قبل 65 عامًا لم تكن هناك وسائل إعلام دولية تهتم بأمريكا اللاتينية سوى وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية.

وشهد شهر يناير (كانون الثاني) هذا العام ذكرى مرور 65 عامًا على نجاح وكالة “برنسا لاتينا” في كشف الأكاذيب الأمريكية عن الثورة الكوبية، وهو ما يطلق عليها “عملية الحقيقة”، وهو ما يؤكد الإدراك الكوبي لقيمة الإعلام وتأثيره في توجيه السياسات في ذلك الوقت المبكر في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وقد أدرك جيفارا، الذي أشرف على تأسيس برنسا لاتينا، أن كثيرًا من المعلومات التي تروجها وسائل الإعلام الأمريكية والغربية هي معلومات كاذبة، وتوظف أنصاف الحقائق حتى تدغدغ المشاعر ضد الحكومة الكوبية، ولهذا أُسست وكالة برنسا لاتينا لتكون لسان الثورة، ومصدرًا للأخبار الموثوقة. وبشاهدة الجميع من أمريكا اللاتينية، فإن هذه الوكالة نجحت في تقديم قراءة ثانية” للأحداث، بعيدًا عن القراءة الغربية والأمريكية لها.

أخيرًا، قد يقول البعض إن جائحة كورونا، وتراجع الولايات المتحدة وأوروبا، مهدا لظهور عالم متعدد الأقطاب، لكن من يزور كوبا، ويرى صمود شعبها أمام حصار غير مسبوق، يتأكد له أن “بذرة التحدي الكوبية” للسياسات الأمريكية منذ نهايات الخمسينيات من القرن الماضي هي “العامل الأول والحقيقي” الذي بشر العالم بإمكانية تحدي “النظام القائم على القواعد” الذي بات اليوم مرفوضًا من غالبية سكان العالم، خاصة في جنوب الكرة الأرضية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع