في عام 1989، كنت طالبًا في الصف الثاني بالجامعة، حين عرفت موسوعة من جزأين تحمل عنوان “تاريخ الأدب الجغرافي العربي”.
كنت أنا ونفر من زملائي نكتفي من الكتاب بالفوز بمعرفة هجاء اسم المؤلف هجاءً صحيحًا، دون تلعثم أو تعثر، وندخل في مسابقات ضاحكة لمن ينطق اسمه دفعة واحدة: “إغناطيوس كراتشكوفسكي”.
ومع أننا كنا نردد اسم “كراتشكوفسكي” باختلاف درجة النجاح في الهجاء، فإن اسم مترجم الكتاب “صلاح الدين عثمان هاشم” وقع في ظلم مرتين:
– مرة لأنه لم يكن جغرافيًّا، ولم نقرأ له كتابًا آخر، ولا درسنا عنده، أو قرأنا له مرجعًا.
– ومرة لأنه كان أديبًا وباحثًا سودانيًّا، ولم يتردد اسمه لا في قاعات المحاضرات، عند أكابر العلماء المصريين، ولا في الأوساط الثقافية المصرية؛ ومن ثم لم يحصل على حقه في المديح والإطراء الذي يستحق لما قام به من دور عظيم في الترجمة الرائقة المنضبطة السلسة.
هذا الكتاب هو جزء من مجموعة أعمال المستشرق الروسي الكبير “كراتشكوفسكي”، الذي صدر عام 1957، في أوج مجد الاتحاد السوفيتي، ونشر في المدينتين العاصمتين: موسكو وليننغراد، وتمكنت الجامعة العربية من تكليف المترجم بنقله إلى العربية.
لم أنتبه آنذاك لتاريح صدور الطبعة العربية، لكني أذكر أن المترجم ذيّل اسمه في نهاية مقدمته بعبارة: “الخرطوم، في عام 1961”.
هذا أمر مدهش جدًّا. ينقل المترجم عصارة فكر مستشرق كبير بعد 3 سنوات فقط من صدور العمل الأصلي؟! انظر إلى التأخر الذي نحن فيه اليوم في 2024!
أود أن أعترف أن علاقتي بهذا الكتاب عاكستها في البداية استفهامات ثلاثة:
أما السؤال الأول فقد عرفت إجابته حينما تعلمت اللغة الروسية؛ ذلك لأن الكلمة التي جاءت في عنوان الكتاب هي تاريخ الـ”ليتراتورا”، التي نقلت إلى العربية “أدب”، والمقصود بها تاريخ “التراث المعرفي المنتج في فترات سابقة”.
ولم يكن ذلك خطأ من المترجم؛ بل كان اختيارًا موفقًا أيضًا، فإلى اليوم إذا سألت الباحثين في علوم طبيعية، مثل الجيولوجيا أو الفيزياء، سيقولون لك: لا يمكن أن نبدأ دراسة جديدة إلا بمراجعة “الأدب السابق previous literature”، ويقصدون بذلك معرفة “الدراسات السابقة “.
على هذا النحو قدم لنا كراتشكوفسكي الجغرافيا العربية بوصفها تراثًا إنسانيًّا عالميًّا وليس درسًا في الأدب، أو في جغرافية الأدب، أو أدب الجغرافيا.
أما السؤال الثاني: لماذا تمكن مستشرق روسي من الإلمام والإحاطة بكل هذه المصادر العربية وهو بعيد قرب القطب الشمالي، ولم يفعل ذلك جغرافي عربي؟ فإجابته تتكشف بمعرفة الجوار الجغرافي لروسيا في القرون الثلاثة السابقة على تأليف الكتاب.
لقد خاضت روسيا حروبًا توسعية لضم كل الإمارات الإسلامية المستقلة من ممالك، وسلطنات، ودول عدة في التركستان (دول آسيا الوسطى الخمس حاليًا) والقوقاز (ثلاث دول) حتى انتهت جميعًا في العهد السوفيتي لتصبح جزءًا من الإمبراطورية الشيوعية العظمى.
من هذه الأقاليم الإسلامية أتى أعظم علماء الجغرافيا الإسلامية العربية في العصور الوسطى، ولا سيما من بلاد ما وراء النهر. ومعرفة البيئة التي نشأ فيها علماء الإسلام الناطقون بالعربية، وتطور نظامهم السياسي والحضاري، كانت مهمة مزدوجة للعلماء، أمثال كراتشكوفسكي من أصحاب الحس “الوطني” الساعي إلى تدعيم “الاستخبارات” الجغرافية القائمة على فهم التراث، والتاريخ، والثقافة، واللغة، والدبلوماسية، والعلاقات السياسية.
لقد توافر لكراتشكوفيسكي سبيلان لا يتوفران لنظيره من أبناء العرب:
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.