أدى اندلاع المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل في الثالث عشر من يونيو (حزيران) المنصرم، التي أشعلتها غارات جوية إسرائيلية شملت طائرات حربية، وطائرات مُسيّرة، وصواريخ كروز، وأعقبها رد إيراني باستخدام صواريخ باليستية وطائرات مُسيّرة، إلى تسليط الضوء مُجددًا على قدرات الدفاع الجوي التركية، حيث يُعد هذا الصراع تذكيرًا مباشرًا بالقدرة المُدمرة للأسلحة الباليستية، ما يطرح سؤالًا مُلحًا في الوقت الراهن، هو: هل منظومة الدفاع التركية مُستعدة لصد تهديد صاروخي مُماثل؟ فعلى مدى العقدين الماضيين، استثمرت تركيا بكثافة في بناء منظومة دفاع جوي محلية متعددة الطبقات، ومع ذلك، لا تزال البلاد تعتمد اعتمادًا كبيرًا على أنظمة حلف الناتو في اعتراض الصواريخ الباليستية. ورغم التقدم الملحوظ الذي أحرزته أنقرة، فإن دفاعاتها لا تزال غير مكتملة؛ مما يجعل تطلعاتها إلى الاستقلال الإستراتيجي والتحديات الجسيمة التي يفرضها تطوير درع صاروخية وطنية من الصفر محل اختبار.
يشهد النظام الإقليمي في الشرق الأوسط وشرق المتوسط تحولات إستراتيجية متسارعة، من أبرز ملامحها صعود تركيا بوصفها قوة دفاعية مستقلة نسبيًّا عن مراكز التصنيع الغربي، ففي أقل من عقدين، انتقلت أنقرة من موقع التبعية في التسليح إلى لاعب إقليمي يمتلك قاعدة صناعية دفاعية متقدمة، وقدرات عسكرية مرنة متعددة الأبعاد، ولد عن هذا التحول ردود فعل متباينة من جانب القوى الإقليمية المجاورة، لا سيما تلك التي تتقاطع مصالحها مع تركيا في ملفات الأمن والطاقة والنفوذ العسكري.
وفي ضوء ذلك، تشكل منظومة الدفاع التركية أحد أعمدة التحول الإستراتيجي للدولة التركية، ليس فقط على المستوى العسكري؛ بل أيضًا ضمن مسار استقلال القرار السياسي والأمني، حيث تستند هذه المنظومة إلى ثلاث ركائز رئيسة تتمثل في:
أولًا- التصنيع المحلي: ارتفعت نسبة الإنتاج المحلي في تسليح الجيش التركي من 20% في عام 2002 إلى أكثر من 70% بحلول 2025، بفضل شركات وطنية مثل ASELSAN وBaykar وROKETSAN، التي استطاعت إنتاج منصات دفاعية معقدة تشمل الطائرات المسيّرة، والصواريخ الموجهة، والمدرعات وأنظمة الحرب الإلكترونية.
ثانيًا- الاستقلال الإستراتيجي: تسعى أنقرة إلى تقليل اعتمادها على الحلفاء الغربيين، خاصةً بعد أزمات التسلح، مثل إخراجها من مشروعF-35 ، عقب شراء منظومة S-400 الروسية؛ ما دفعها نحو التوجه إلى تنويع الشراكات الدفاعية مع قوى إقليمية ودولية على غرار روسيا وأوكرانيا وباكستان وقطر.
ثالثًا- العقيدة الدفاعية الجديدة: تتبنى تركيا مقاربة هجومية وقائية، مستفيدة من قدراتها التقنية والتكتيكية في خوض صراعات بالوكالة، أو بالتدخل المباشر، كما حدث في شمال سوريا وليبيا، وناغورنو كاراباخ، هذه المقاربة تكرس مفهوم الدفاع النشط الذي يدمج بين الردع والتدخل الخارجي.
وفي مواجهة تلك الركائز تتأثر السياسة الدفاعية بعدة محددات داخلية وخارجية تُشكل معًا الإطار العام الذي تتحرك ضمنه إستراتيجيات التطوير والتسليح التركية، لعل أبرزها يتمثل في النظام السياسي، حيث يتيح النظام الرئاسي للرئيس التركي صلاحيات واسعة في رسم السياسات الدفاعية، مما يُسرع من اتخاذ القرار، لكنه قد يُقلل الرقابة المؤسسية. كما يؤدي الاقتصاد التركي دورًا في وضع ملامح السياسية الدفاعية للدولة؛ فرغم النمو في الصناعات الدفاعية، فإن الاقتصاد التركي يواجه تحديات تضخمية ونقدية تؤثر في الاستدامة التمويلية لمشروعات التسليح. كما أن العسكرة المجتمعية المرتبطة بتزايد النفوذ الرمزي للجيش في الخطاب السياسي، وربط الأمن القومي بالتوجهات الأيديولوجية للحزب الحاكم لها تأثير مباشر في السياسة الدفاعية التركية، في حين تتعلق المحددات الخارجية المحددة لملامح السياسة الدفاعية بعلاقة تركيا بحلف الناتو فرغم عضويتها المحورية في هذا التحالف الدفاعي، فإن التوترات مع الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما بشأنS-400 ، وتدخلاتها العسكرية في سوريا وليبيا، التي أثرت في انسجامها داخل الحلف، فضلاً عن توثيق علاقة أنقرة بموسكو في مجالات مثل الطاقة والدفاع الجوي، جعلت سياسة تركيا الدفاعية تتسم بالازدواجية بالجمع بين المعسكر الشرقي والغربي، ويأتي هذا في إطار الطموح الإقليمي المحفز لأنقرة لتكريس نفسها بوصفها قوة مستقلة في محيطها؛ مما يدفعها إلى توسيع نفوذها في شرق المتوسط، وإفريقيا، وآسيا الوسطى، والخليج، من خلال النموذج الدفاعي.
يعود اعتماد تركيا على الدعم الدفاعي الجوي الخارجي إلى الحرب الباردة، عندما نشرت منظومتي “نايكي هيركوليس”، و”هوك” الأمريكيتي الصنع، وخلال حرب الخليج عام ١٩٩١، نشر حلف شمال الأطلسي بطاريات صواريخ “باتريوت” في تركيا بعد أن أطلق العراق صواريخ “سكود” على قوات التحالف، وقد كشفت عمليات النشر هذه عن الحاجة المُلحة إلى اكتساب قدرة أكثر استقلالية، وكرر حلف الناتو عمليات نشر مماثلة خلال الحرب الأهلية السورية، مما كشف عن تنامي التهديد الصاروخي في المنطقة. وفي عام ٢٠١٣، حاولت تركيا الحصول على نظام دفاع جوي صيني، وهي خطوة باءت بالفشل بسبب اعتراضات شديدة من حلف الناتو، وتهديد بفرض عقوبات أمريكية. في أعقاب ذلك، عززت تركيا جهودها لتطوير نظامها محليًّا، واشترت نظام “إس-٤٠٠” الروسي الصنع عام ٢٠١٧، وهو ما أثار جدلًا واسعًا؛ إذ أدى هذا القرار إلى فرض عقوبات أمريكية، واستبعاد تركيا من برنامج مقاتلات “إف-٣٥”.
غير أن المستجدات الراهنة المرتبطة بعملية طوفان الأقصى، وما أعقبها من مواجهات بين إسرائيل وإيران، كشفت عن أهمية الصواريخ الباليستية، وخاصةً تلك المتوسطة أو البعيدة المدى، وتشكيلها تهديدًا بالغ الخطورة؛ نظرًا إلى سرعتها العالية، ومسارات طيرانها الحادة، وحمولاتها الكبيرة. وفيما يتعلق بتركيا، المُحاطة بجيران غير مستقرين، وخصوم مُحتملين، فإن الحاجة إلى نظام دفاع صاروخي فعال ليست إستراتيجية فحسب؛ بل أصبحت ضرورة ملحة، فحاليًا، تستطيع أنظمة الدفاع التركية التصدي لمجموعة متنوعة من التهديدات الجوية، لكنها لا تغطي سوى جزء من الصواريخ الباليستية. وقد نشرت البلاد سلسلة أنظمة الدفاع الجوي “حصار”، المصممة لاستهداف الطائرات والطائرات المسيرة، وصواريخ كروز، ضمن مديات قصيرة ومتوسطة، أما نظام “سيبر بلوك-1” البعيد المدى، الذي أُدخل الخدمة بمدى يتجاوز 100 كيلومتر، فلا يمتلك بعد القدرة على اعتراض الصواريخ الباليستية، كما تعمل أنظمة متنقلة مثل “كوركوت” و”جورز”، لكنها مصممة لمواجهة التهديدات المنخفضة الارتفاع، مثل الطائرات المسيرة والمروحيات.
ولا يزال نظام “إس-400″، الذي اقتنته تركيا للدفاع الصاروخي، الأكثر إثارة للجدل حتى الآن، فرغم قدرته على اعتراض الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى، فإن استخدامه التشغيلي محدود، فهو غير مدمج في شبكة القيادة والتحكم الوطنية التركية، المعروفة باسم “حكيم 100″، ولا يمكنه التواصل مع أنظمة دفاع حلف الناتو، ونتيجة لذلك، يبقى رمزًا سياسيًّا أكثر منه أداةً فعالة، وغالبًا ما يُخزن في حظائر الطائرات بدلًا من نشره على الأراضي التركية. وللتغلب على هذه القيود، كشفت تركيا عن مشروع القبة الفولاذية في عام ٢٠٢٤، حيث صممت شركة أسيلسان التركية للمقاولات الدفاعية المشروع الذي يهدف إلى بناء بنية دفاعية متكاملة ومتعددة الطبقات تغطي الارتفاعات المنخفضة والمتوسطة والعالية. وعلى عكس نظام القبة الحديدية الإسرائيلي المُحسن للدفاع الصاروخي القصير المدى، يهدف النموذج التركي إلى تغطية أوسع، ويهدف إلى دمج أنظمة مختلفة، منها عائلة “حصار”، وصواريخ “سيبر”، ومنصات متنقلة مثل “جورز”، وأنظمة رادار متصلة عن طريق نظام القيادة “حكيم”، وشبكة رادار “رادنت”، وبينما تأمل تركيا أيضًا جعل هذا الإطار متوافقًا مع مبادرة درع السماء الأوروبية التابعة لحلف شمال الأطلسي، فإن التنفيذ الكامل قد لا يتحقق قبل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين.
وفي هذا السياق، يُعد نظام صواريخ “سيبر بلوك-3″، ومدمرة الدفاع الجوي “TF-2000” عنصرين أساسيين في دفاع تركيا الصاروخي الباليستي المستقبلي، ومن المتوقع أن تدخل منظومة “سيبر بلوك-3″، التي لا تزال قيد التطوير، الخدمة أواخر عشرينيات القرن الحالي، وستكون أول منظومة اعتراضية تركية محلية الصنع قادرة على استهداف الصواريخ الباليستية التي يتجاوز مداها 150 كيلومترًا، وسيشكل مشروع مدمرة الدفاع الجوي TF-2000، الذي أُطلق عام 2025، العمود الفقري البحري لنظام القبة الفولاذية، ومن المتوقع أن تنشر هذه السفن الحربية، المجهزة برادار “كافراد” المتطور، صواريخ “سيبر بلوك-3″، وأن تعزز الدفاع الجوي والصاروخي فوق المياه الإقليمية التركية.
تُعد إسرائيل منافسًا تقنيًّا مباشرًا لتركيا في مجال الصناعات الدفاعية، خاصةً في الطائرات المسيّرة، وأنظمة الدفاع الجوي، وبينما تحافظ إسرائيل على مستوى عالٍ من الابتكار والارتباط العضوي بالغرب، فإن تركيا تنافسها من بوابة الأسواق العسكرية النامية، كما في أوكرانيا وإفريقيا وجنوب القوقاز، إذ أدى انتشار المسيّرات التركية Bayraktar TB2 إلى تقليص الهوة بينها وبين إسرائيل في مجال الـ”درونز”؛ ما دفع الأخيرة إلى تكثيف صادراتها، وتحديث قدراتها السيبرانية، مع محاولة عرقلة انتشار التكنولوجيا التركية في بعض المناطق.
وبالنظر إلى الجمهورية الإسلامية، فرغم تفاوت مستوى التطور الصناعي بين إيران وتركيا، فإن التنافس بينهما لا يُقاس بالتكنولوجيا فقط؛ بل بالتوظيف الجيوسياسي للأداة الدفاعية، حيث إن طهران تستند إلى نموذج غير متماثل يعتمد على قدرات الفصائل المسلحة الحليفة والأنظمة الصاروخية، في حين تسعى تركيا إلى تطبيق نموذج هجومي نظامي مرن؛ ما يجعلها أكثر قابلية للتأثير في ساحات مثل العراق وسوريا وأذربيجان، وهي مناطق تقع ضمن الحزام الإستراتيجي الإيراني.
تتنامى المنافسة التركية المصرية، لا سيما بعد تدخل الطرفين في الساحة الليبية، إذ وظفت تركيا تفوقها في الطائرات المسيرة، والدعم اللوجستي البحري، في ترجيح كفة حكومة طرابلس. ومع أن القاهرة أحرزت تقدمًا في تحديث جيشها، من خلال صفقات غربية خاصةً مع فرنسا وألمانيا، فإن تركيا سبقتها في مجال التصنيع المحلي وتصدير السلاح، وتبقى المنافسة بين الطرفين حاضرة في حوض شرق المتوسط، فمن المرجح أن توظف الصناعات الدفاعية ضمن معادلات الردع المتبادل على المستوى المنظور.
أما علاقة تركيا مع دول الخليج، خاصةً السعودية والإمارات، فتتراوح بين التعاون المحدود والتنافس الحذر، فبعد سنوات من التوتر، سعت أبو ظبي والرياض إلى تحسين العلاقات مع أنقرة، لكن ذلك لم يمنع استمرار التنافس في مجالات النفوذ الدفاعي والتقني، خاصة في إفريقيا وشرق المتوسط، حيث تحاول الإمارات إنشاء صناعة دفاعية وطنية عن طريق مجموعة “إيدج” للصناعات الدفاعية، في حين تعتمد السعودية على استيراد التكنولوجيا ونقلها عن طريق مشروعات “رؤية 2030”. في المقابل، تعرض تركيا منظوماتها كبدائل أرخص وأكثر مرونة، وهو ما يجعلها منافسًا قويًّا في العقود المقبلة.
ولتعظيم دورها في سباق المنافسة الإقليمية، تسعى تركيا أن تتحول من دولة مستوردة للسلاح إلى واحدة من أكبر 15 دولة مصدرة؛ ما يعكس ليس فقط تحولًا اقتصاديًّا، بل أيضًا طموحًا جيوسياسيًّا متزايدًا، فصادرات الطائرات المسيرة إلى أوكرانيا وأذربيجان وليبيا وباكستان، أسهمت في بناء تحالفات دفاعية مرنة، تستند إلى التكنولوجيا لا المعاهدات. إضافة إلى ذلك، تفتح تركيا أسواقًا جديدة في إفريقيا وآسيا الوسطى، وهو ما يضعها في مواجهة غير مباشرة مع القوى الدولية، وفي مقدمتها فرنسا والصين وروسيا، ويزيد حدة المنافسة، وهو ما أثار استجابات إقليمية ودولية متباينة؛ فبينما تنظر الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى التحركات التركية بنظرة مزدوجة تتراوح بين الاستياء من سلوك تركيا المستقل داخل الناتو، والرغبة في احتوائها بالعقوبات، أو دعم خصومها في شرق المتوسط، مثل اليونان وقبرص، ترى موسكو أنقرة شريكًا دفاعيًّا مؤقتًا لأنها خصم محتمل في سوريا والقوقاز وآسيا الوسطى، في حين تتعامل الدول العربية مع تركيا بوصفها فاعلًا غير تقليدي يحاول إعادة هندسة التوازنات؛ مما دفع بعض الأنظمة إلى تعزيز صناعاتها الدفاعية، أو توسيع شراكاتها مع الغرب لمواجهة التمدد التركي.
تشكل منظومة الدفاع التركية -خاصة الجوية- مزيجًا معقدًا من الطموح الصناعي والانفتاح الإقليمي، وتحديات التحالفات القائمة؛ ما يفتح المجال لعدة جوانب جدلية تتعلق بفاعليتها، واستقلاليتها، وغاياتها الإستراتيجية، فرغم النجاحات الواضحة في تطوير أنظمة محلية مثل TF Kaan وBayraktar، فإن تركيا لا تزال تعتمد على مكونات أجنبية حيوية، مثل المحركات والتقنيات الشبكية، كما أن منعها من برنامج “F-35″، والقيود الأمريكية على قطع الغيار، أظهر هشاشة بعض جوانب استقلاليتها، حيث تسير تركيا في مسار واضح نحو الاكتفاء الذاتي، لكنه اكتفاء غير مكتمل، ويتطلب تقنيات إستراتيجية غير متاحة محليًا حتى الآن. ورغم ارتفاع نسبة تصدير السلاح التركي بأكثر من 50٪ في خمس سنوات، خاصةً إلى دول إفريقيا وآسيا، فإن بعض الانتقادات الداخلية تتحدث عن أن التصدير يأتي أحيانًا على حساب تسليح القوات التركية بأحدث الأنظمة، حيث إن نجاح التصدير يُعزز الموارد والشرعية الدولية، لكن دون توسيع للقدرات الإنتاجية قد يُحدث اختلالًا بين الأمن القومي ومتطلبات السوق.
فضلاً عما سبق، فإن الانتشار التركي في قواعد خارجية، مثل قطر والصومال وليبيا وأذربيجان، واستخدام الطائرات بدون طيار الهجومية، يدفع البعض إلى اعتبارها سياسة توسع لا دفاع، في حين تبرر تركيا ذلك بأنه دفاع استباقي يحمي مصالحها الحيوية؛ لذا فإن السياسة الدفاعية التركية تجمع بين الردع والتمدد، مما يُعقد موقعها القانوني والسياسي في النظام الدولي، ويزداد الوضع إثارة للجدل فيما يرتبط بالمرونة التكتيكية التي يتبناها النظام مع علاقاته الخارجية، فهو لا يغادر الناتو، لكنه يوازن تحالفاته مع روسيا وأذربيجان وقطر، ما قد يخلق حالة من هشاشة التحالفات الدفاعية التركية، لا سيما في ظل دخول أنقرة سباقات التطوير الجوي والبحري والصاروخي، واستهداف دول كإسرائيل ومصر وإيران بالتوازي.
لقد قطعت تركيا شوطًا ملحوظًا في بناء بنيتها التحتية للدفاع الجوي المحلي، ومع ذلك، لا تزال عُرضةً لتهديدات الصواريخ الباليستية البعيدة المدى، والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، حيث كشف الصراع الإيراني الإسرائيلي عن التكلفة الباهظة لتأخر الاستعداد، فتركيا تنتقل إلى النصف الثاني من العقد بدفاعات لا تزال غير مكتملة، في ظل بيئة أمنية متدهورة مرتبطة بالبرنامج الصواريخ الإيراني المتوسع، والتهديد المستمر بامتداد الصراع في سوريا، والنزاعات البحرية المستمرة مع اليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط، وكلها عوامل تؤكد الحاجة الملحة إلى نشر دفاع صاروخي سريع وقوي.
واستنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إن منظومة الدفاع التركية تمثل نقطة ارتكاز لصعود تركيا بوصفها قوة إقليمية ذات وزن مستقل، حيث تحولت أنقرة من مستورد للسلاح إلى لاعب إقليمي يحظى بثقل عسكري وصناعي متزايد. وبينما تعزز تركيا منظومتها الدفاعية، تجد نفسها في قلب منافسة إقليمية ودولية مركبة؛ لذا فإن استدامة هذا الطموح مرهون بعوامل داخلية وخارجية حساسة، ونجاح الإستراتيجية الدفاعية التركية، خاصة الجوية في العقود المقبلة، سيعتمد على موازنة الطموح الذاتي، والتحديات الإقليمية والدولية، وعلى قدرة تركيا في الحفاظ على مرونتها التكتيكية، دون الانجرار إلى سباقات تسلح غير محسوبة، في ظل إعادة تشكيل توازنات المنطقة عقب الحرب الإسرائيلية الإيرانية.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير