مقالات المركز

قناة السويس المصرية والارتباط التاريخي بالهند


  • 10 يوليو 2024

شارك الموضوع

أدت الاضطرابات الأمنية التي نتجت عن استهداف جماعة أنصار الله (الحوثي) اليمنية للسفن في المحيط الهندي، ومحيط الممرات المائية المهمة، مثل مضيق باب المندب، إلى تضرر حركة الملاحة في قناة السويس المصرية؛ مما أدى إلى ارتفاع حاد في تكاليف التأمين البحري والشحن. ولا تزال قناة السويس، التي شقتها سواعد المصريين بتخطيط فرنسي، هي الطريق الأكثر ازدحامًا بين أوروبا وآسيا منذ افتتاحها عام 1869. ويمر مِن خلالها (12 %- 15 %) من التجارة العالمية سنويًّا، مما يشير إلى أهميتها للاقتصاد العالمي؛ لذا لا تمثل قناة السويس قيمة اقتصادية وتاريخية لمصر فحسب؛ بل للهند كذلك.

أُطلقت عملية حارس الرخاء، وهي قوة مهام بحرية متعددة الجنسيات، تقوم بدوريات نشطة في الممرات المائية الضيقة لقناة السويس والبحر الأحمر. الهند ليست جزءًا من هذه القوات، ولكن سفنها الحربية البحرية نشطت بفاعلية كبيرة في مياه القرن الإفريقي لمواجهة عمليات قرصنة محتملة تزايدت في ظل هجمات الحوثي. ومنذ القرن التاسع عشر، اضطلعت بومباي وموانيها ومجتمعاتها التجارية، وخاصة التجار من مقاطعة السند، بدور في إنشاء طريق التجارة بين البحر الأحمر والسويس وتطويره، وقد كان هذا أمرًا بالغ الأهمية لازدهار الاقتصاد الهندي؛ لأنه قلل زمن الرحلة من بريطانيا إلى بومباي في الهند من أربعة أشهر (عبر رأس الرجاء الصالح) إلى ثلاثين يومًا فقط (عبر السويس).

قناة السويس شريان الازدهار الهندي

قبل 200 عام، كان التركيز على تحول الطريق البري من ميناء البصرة في الخليج إلى شواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط إلى طريق بحري بالكامل، من خلال ربط البحر المتوسط بالمحيط الهندي عبر نقطة “السويس”، وهذا سيؤدي إلى طفرة اقتصادية نتيجة التوفير في ثمن النقل، وتأمين البضائع، وتقليل الوقت اللازم للشحن، وهذا جعل من الضروري لشركة الهند الشرقية الإنجليزية تأمين المواني على طول طرق التجارة المزدحمة. عام 1835، استعمر الإنجليز ميناء عدن والمنطقة المحيطة به لتأمين حركة الاقتصاد مع بومباي الهندية. بعد فترة وجيزة، في عام 1839، سيطرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية على ميناء كراتشي، وفي عام 1842 فعلت الشيء نفسه مع ما أصبح يُعرف بإقليم السند، وعاصمته حيدر آباد، وأصبحت هذه الأراضي جزءًا تابعًا لبومباي.

كانت مصر، بموانيها: السويس على البحر الأحمر، والإسكندرية على البحر الأبيض المتوسط، تحت النفوذ البريطاني؛ بسبب الإمبراطورية العثمانية الضعيفة والمثقلة بالديون، التي كانت مصر جزءًا منها آنذاك. كانت هناك تجربتان أجرتهما البحرية الملكية الإنجليزية الخاصة ببومباي قبل شق قناة السويس لاختبار جدوى طريق السويس- البحر الأحمر.

التجربة الأولى عام 1829: استُخدِمَت فيها أول سفينة تعمل بالبخار، وهي هيو ليندسي، التي بُنيت في أحواض بناء السفن البحرية في الهند، ومع أن هذه السفينة كانت ضعيفة جدًّا فنيًّا، فقد سجلت (32) يومًا و(16) ساعة من بومباي إلى السويس، وفي رحلة العودة (33) يومًا.

التجربة الثانية: في وقت لاحق من العام نفسه (1829): قام بها المغامر البريطاني الملازم توماس فليتشر واجهورن، الذي حمل البريد برًا بدءًا من لندن، وقطع أوروبا للوصول إلى إيطاليا، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى الإسكندرية في مصر، وأخيرًا برًا إلى السويس، والسفر إلى الهند بحرًا على متن السفينة إنتربرايز.

أدى هذا- وفقًا للرحالة الفرنسي فيكتور فونتينير في مذكراته لعام 1844 بعنوان “رحلة في الهند وفي الخليج الفارسي عبر مصر والبحر الأحمر”- إلى بدء توافد رجال الأعمال على السويس والقاهرة لفتح مكاتب نقل بحري عبر مواني البحر الأحمر، ونقل بري على طول الساحل من الإسكندرية إلى السويس. وأشار المؤرخ كلود ماركوفيتس، في كتابه “تجار السند الهنود 1750-1947.. من بخارى إلى بنما”، إلى أن مصر شهدت حضورًا كبيرًا لتجار الهنود من إقليم السند، لا سيما أن المواني في الإسكندرية وبورسعيد والسويس كانت معفاة من الرسوم الجمركية؛ مما يوفر أسعارًا أكثر تنافسية.

تُجار السند على ضفاف النيل

كان تجار السند معروفين عمومًا في أماكن عملهم باسم “تجار بومباي”؛ ومن ثم لم يكن من الممكن- إلى حد كبير- تمييزهم عن التجار الآخرين الذين ينحدرون من الهند الغربية. ومع ذلك، أدى التدفق المفاجئ للتجار من حيدر آباد إلى مصر، نحو عام 1907، والزيادة المقابلة في عدد القضايا المعروضة على المحكمة القنصلية في القاهرة، إلى دفع السلطات القنصلية البريطانية المحلية إلى استجواب حكومة الهند بشأن أسباب ذلك، وإمكانية الحد منه؛ ومن ثم جذبت هذه الهجرة التجارية لأول مرة انتباه السلطات في الهند.

كان النمو السريع للسياحة في مصر بين ستينيات القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى هو ما قدم إمكانات كافية لمجموعة صغيرة من التجار الهنود لاكتساب مكانة لهم في هذا النوع من التجارة، واكتساب الخبرة ورأس المال الذي غذى توسعهم الإضافي في أماكن أخرى. ولم يكونوا في الواقع المشاركين الأولين، أو حتى الرئيسين في التجارة في مصر؛ فقد سبقهم التجار الأرمن، والمشرقيون، واليهود، وظلوا دائمًا مهيمنين في هذا المجال.

في ستينيات القرن التاسع عشر وسبعينياته، كانت تجارة الهنود متواضعة وموسمية، حيث لم تُنشَأ متاجر دائمة إلا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، مع مخزون كبير من السلع التجارية، التي كان معظمها من الهند، ولكنها تضمنت نسبة متزايدة من واردات الشرق الأقصى. وتزامن هذا مع الاحتلال البريطاني لمصر، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة: فالأمن الذي وفره الحكم البريطاني لتجار السند، الذين كانوا هم أنفسهم رعايا بريطانيين، ربما أدّى دورًا ليس بالقليل في تشجيعهم على زيادة استثماراتهم في مصر، ولإنشاء محال تجارية دائمة. كما كان وجود حامية بريطانية، وارتفاع عدد السكان المدنيين البريطانيين ذوي الدخل المرتفع، من الحوافز المهمة أيضًا.

وتشهد حالة نانيكرام جيهيمال تولارام، وهو تاجر من حيدر آباد، توفي عام 1888 بالإسكندرية، وامتلك متجرين كبيرين في القاهرة والإسكندرية، أنه في ثمانينيات القرن التاسع عشر أصبح تجار مومباي مجموعة راسخة في مصر. وشهدت تسعينيات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تدفقًا كبيرًا للتجار والموظفين الهنود إلى مصر. كما أدى وباء الكوليرا الخطير في حيدر آباد، أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، إلى موجة من النزوح إلى مصر. وكانت عائلة بوهومول من حيدر آباد، السند، واحدة من أولى العائلات الهندية التي جعلت من مصر مقرها الرئيس الأول في الخارج، وافتتحت أول متجر لإخوان بوهومول في مصر، في الأقصر، عام 1858. كما طورت العائلة أعمالها إلى التحف والأحجار الكريمة، والمجوهرات، وافتتحت محال “بوهومول براذرز للمجوهرات الشرقية والحرير”، وعُيِّنت شركة بوهومول براذرز لصياغة المجوهرات الملكية للأسرة العلوية قبل قيام الجمهورية 1952. وتماشيًا مع مكانة علامتهم التجارية الفاخرة، كان متجراهما في القاهرة يقعان في فندقي شيبرد وسميراميس الراقيين.

بمرور الوقت، طور تجار السند نموذجًا اقتصاديًّا فريدًا من نوعه، يجمع بين تجارة الاستيراد والتصدير الدولية وتجارة الجملة والتجزئة، والتعامل في السلع الفاخرة، وكذلك السلع العادية، وتدريجيًّا، ظهر تجار السند بوصفهم لاعبين عالميين في أسواق المنسوجات العالمية؛ ففي مصر، على سبيل المثال، كانوا يبيعون “شالات” مُنتجَة محليًّا، تُعرف باسم “شالات أسيوط”. يبدو أن مشروعهم في تجارة الدانتيل قد تطور في الأصل كفرع من إنشاء روابط تجارية مع المناطق التي يوجد بها إنتاج الدانتيل، مثل مالطا؛ لذا امتلك بعض تجار السند في مصر تجارة مزدهرة فيما عُرف بالدانتيل المالطي، الذي كان مطلوبًا بشدة، خاصة من السكان اليهود.

جنبًا إلى جنب مع المنسوجات، قرر التجار السند فتح السوق المصرية على تجاة التُحف، لكنهم تجنبوا الانخراط في بضائع متخصصة جدًّا، أو عالية القيمة ونادرة، تتطلب نوعًا من المعرفة التي لم يكن لديهم، وتركوا هذا التعقيد للأرمن، والمشرقيين، واليونانيين، واليهود، وركزوا بدلًا من ذلك على النوع الأدنى من السوق، الذي تمثله السلع “السياحية”، التي كانت تهدف إلى إرضاء العملاء من السياح والمسافرين.

كان الموقع والعرض عاملين مهمين جدًّا في ضمان حجم ثابت من المبيعات. وبشكل عام، كان لتجار السند متاجرهم في مواقع مرموقة، إما في بعض الشوارع التجارية الرئيسة، أو في الفنادق الكبيرة، أو في المناطق السياحية الرئيسة. وفي القاهرة، انتشرت متاجرهم بين الفنادق الكبرى والسوق السياحية الرئيسة خان الخليل؛ لذا يتذكر سوكيتو مهتا أن العائلة بدأت عملها عام 1926 ببيع السترات القطنية في خان الخليلي، ثم تصدير القطن المصري إلى الهند، واستيراد التوابل، قبل أن تتحول العائلة إلى وكيل للآلات الهندسية الهندية، وكان أكثر منتجاتهم مبيعًا هو المضخات الزراعية الصغيرة، ومحركات الديزل، التي استُورِدَت سنوات كثيرة بموجب اتفاقية التجارة بالروبية بين الهند ومصر عام 1953. ومنذ عام 1984 أنشؤوا (70-75) محطة ضخ للري في جميع أنحاء مصر.

كما أن لطائفة البهرة الهندية حضور بارز في مصر، وهناك دائمًا طلاب علم من هذه الطائفة في القاهرة. ومنذ التسعينيات، استقر كثير من العائلات هناك. ومن بين الصور الكثيرة التي التقطت في أثناء زيارة رئيس الوزراء ناريندرا مودي الرسمية إلى مصر، كانت هناك صور في مسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي جددته طائفة البهرة، ويعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر. ومن بين قصص النجاح الاقتصادي لهذه الطائفة الهندية سلسلة حلويات “مونجيني” الشهيرة في مومباي، التي فتحت أول مصانعها عام 1991، في الجيزة.

لمحة مِن أثر قناة السويس الاجتماعي على بومباي

لم تضطلع قناة السويس بدور في تاريخ العلاقات الهندية- المصرية التجارية فقط؛ بل اضطلعت بدور داحل حياة مومباي الليلية نفسها، وأثرت في مجال الجنس؛ فقبل افتتاح القناة، كانت العاهرات الأجنبيات من أوروبا الشرقية غير معروفات عمليًّا في بومباي، ولكن فور أن أقامت شركات الشحن الأوروبية الكبرى اتصالات منتظمة عبر السفن البخارية مع الهند، وأصبحت بورسعيد في مصر ميناءً وملجأً “لرعاع” أوروبا، أصبحت الهند ضمن فلك تجارة الجنس العالمية، وهذا ما سجله الموظف المدني إس إم إدواردز في كتابه “شرطة مدينة بومباي- 1929”.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت مومباي تضم أكبر عدد من العاملات الأوروبيات في مجال الجنس بين كل المدن الهندية، كما كتبت أشويني تامبي في كتابها “مدونات سوء السلوك.. تنظيم البغاء في بومباي في أواخر فترة الاستعمار”، وأشارت إلى أن “النساء من أماكن بعيدة، مثل بولندا، كن يأتين للعمل في بيوت الدعارة هناك”. وأشارت تامبي إلى أن وجود بيوت الدعارة الأوروبية كان مدفوعًا “بثلاث ضرورات للمسؤولين الاستعماريين: توفير الترفيه الجنسي للجنود والبحارة البريطانيين، ومنع ممارسة الجنس بين الأعراق المختلفة للحفاظ على الهيبة الوطنية البريطانية”، وأن الإداريين البريطانيين رغم تغاضيهم عن بيوت الدعارة، فإنهم حاولوا التأكد من أن العاملين في بيوت الدعارة ليسوا بريطانيين؛ لأن ذلك قد يعكس صورة سيئة عن المرأة البريطانية”.

لا نهاية لارتباط التاريخ الهندي بقناة السويس

بعد تقسيم الهند عام 1947، بدأت الأمور تنهار؛ أصبحت العائلات مُشتتة، وكانت هناك مشكلة لوجستية، إذ لم يتمكن الناس من السفر من الهند وإليها بسهولة كما كانوا يفعلون في السابق، وكانت نهاية الاستعمار البريطاني، وفرض حدود برية صلبة، وجوازات سفر، سببًا في جعل الحركة صعبة. لكن لم يتوقف تدفق الهنود إلى مصر، لا سيما مع بداية مشروعات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الستينيات والسبعينيات من القرن الحالي. وفي عقد التسعينيات ظهر الهنود في وظائف إدارية عُليا، لا سيما في شركات استثمارية خاصة، مثل (Birla’s Alexandria Carbon Black)، و(TCI Sanmar)، والشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية والمصرية، ومشروعات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مصر.

ومن غير المتوقع أن يُستبدَل بقناة السويس أي مسار بري آخر، مثل الممر الاقتصادي الهندي-الشرق الأوسط- أوروبا، أو ممر النقل الذي اقترحته تركيا من البصرة في العراق إلى الأناضول، لا سيما أنها كلها طرق قديمة سبق استخدامها قبل شق قناة السويس، التي تثبت الاضطرابات الحالية عند مدخلها أنها إحدى أهم نقاط العبور الدولية، ولا يمكن الاستغناء عنها، كما توضح كيف أسهمت هذه القناة في الاقتصاد العالمي، وسهلت حركة التجارة والعولمة، وكذلك الهجرات البشرية، وتعارف الشعوب من السند، والهند، والقاهرة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع