أعاد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، خلال إحاطته الصحفية اليومية، الجمعة 29 أغسطس (آب) 2025، فتح الباب -نظريًّا- أمام لقاء بوتين مع زيلينسكي، لكنه شدد على شرط أساسي للرئيس الروسي، وهو الإعداد الجيد على مستوى الخبراء لهذا اللقاء أولًا.
والرسالة التي وراء هذا الشرط الروسي واضحة؛ موسكو لا ترفض الحوار، لكنها ترفض تحويله إلى استعراض إعلامي؛ ومن هنا جاء تأكيد بيسكوف أن تفاصيل قمة ألاسكا التي جمعت بوتين وترمب لم تُكشف عمدًا؛ لأن التفاوض الجاد -من وجهة نظر موسكو- يحتاج إلى هدوء، بعيدًا عن ضغط الكاميرات.
بالتوازي مع تصريحات المتحدث الرئاسي الروسي، وصفت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، خلال تقديم إحاطتها الإعلامية الأسبوعية، الضمانات الأمنية التي تطرحها أوروبا بأنها “استعمارية الطابع”، وأنها لا تهدف إلى استقرار؛ بل إلى مزيد من التوتر.
أما وزارة الدفاع الروسية فقدمت حصيلة أسبوعية لأعمال القتال، أعلنت فيها تنفيذ “سبع ضربات جماعية دقيقة” ضد مستودعات صواريخ، ومراكز إنتاج وتحكم بالطائرات المسيرة، ومصفاة نفط داخل أوكرانيا، وأكدت أن جميع الأهداف أُصيبت بدقة. والرسالة المزدوجة هنا أن الميدان يتكلم بلغة الضربات المركزة، والسياسة تضبط الخطاب الموجه داخليًّا وخارجيًّا.
وعلى المسار الخارجي، وصل وفد أوكراني رفيع برئاسة أندريه يرماك ورستم عميروف إلى واشنطن من أجل لقاء ستيف ويتكوف مبعوث ترمب الأمين إلى بوتين، وذلك بعد جولات سريعة قام بها المسؤولان الأوكرانيان إلى دول خليجية، كالسعودية وقطر. ومن المفهوم أن على طاولة نقاشهما مع ويتكوف موضوعين رئيسين، هما الضمانات الأمنية، وإمكانية عقد قمة بين بوتين وزيلينسكي.
لكننا نرى أن ترمب صعد لهجته تجاه كييف ملوحًا -للمرة الأولى حسبما أتذكر- بفرض رسوم عقابية على كييف إذا عرقلت المفاوضات، وبالطبع لم يفوت الفرصة -كعادته- ليهدد موسكو في الوقت نفسه بـ”عواقب وخيمة”، وهذا متوقع ومفهوم. هذا النهج يعكس -بلا شك- أسلوب ترمب المعروف، وهو خلط العصا بالجزرة لإجبار الجميع بالجلوس إلى الطاولة.
لكن خلف هذه الصياغة -في رأيي- تكمن معادلة أعقد، فواشنطن تريد ربط الضمانات الأمنية بمسار التسوية، والوعود التي تلقاها زيلينسكي برفقة الداعمين الأوروبيين في البيت الأبيض بعد قمة ألاسكا بمستوى حماية شبيه بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو غير قابل للتنفيذ عمليًّا على الإطلاق؛ لأن موسكو لا يمكن أن تقبل بوجود أطلسي على الأراضي الأوكرانية؛ لأن ذلك يبطل كل ما قام به بوتين، وكل تكلفة العملية العسكري من كل النواحي، فهدفها الرئيس وسببها الأساس -حسب فهمي الشخصي طبعًا- لم يكن السيطرة على الدونباس؛ بل منع دخول الناتو إلى أوكرانيا بأي ثمن، وبأي تكلفة؛ لذلك فالوضع بهذه الصورة يضع كييف بين خيارين أحلاهما مُر: إما القبول بضمانات مخففة، وإما مواجهة ضغوط اقتصادية أمريكية مباشرة، بخلاف منع الدعم العسكري المجاني عنها.
أتفهم لماذا ينظر بوتين والكرملين بريبة إلى فكرة القمة المباشرة مع زيلينسكي؛ فبوتين لا ينسى، ويتذكر دروس التاريخ البعيد ويستدعيها في حديثه دائمًا، فما بالك بتاريخ الأمس القريب! ما أرمي إليه وأقصده، أن حذر بوتين من عقد لقاء مباشر مع زيلينسكي يعود إلى التجربة المريرة التي وقعت في باريس عام 2019، عندما انسحب زيلينسكي في اللحظة الأخيرة مما عُرف حينذاك باتفاقات أو تفاهمات “رباعية النورماندي”، وهذه التجربة حاضرة بقوة في رأسه؛ لذلك تصر موسكو على أن أي لقاء مع زيلينسكي -بالتحديد- لا بد أن يُبنى على أجندة وجدول أعمال محكم، وإلا سيتحول إلى مسرحية يستغلها الجانب الأوكراني داخليًّا وخارجيًّا.
لكل ما ذكرته أعلاه، تظل قمة بوتين- زيلينسكي “حلمًا ترمبيًّا” أكثر من كونها خيارًا سياسيًّا لروسيا. فموسكو لا ترى -من وجهة نظري- أن الوقت مناسب الآن لعرض سياسي سريع، وهي تحقق تقدمًا ميدانيًّا، وإن كان بطيئًا، لكنه مستمر وممتد شهورًا طويلة، ووضعها العسكري وتقديرات الخبراء العسكريين تشير إلى أنها تستطيع مواصلة التقدم مع تغيير التكتيكات الميدانية بمرونة لعدة أشهر أخرى دون صعوبات؛ لذلك فإنها تسعى إلى تحويل مكتسبات الميدان إلى أوراق تفاوضية، تراكمية.
المشهد الأوكراني لم يقتصر على أوروبا وكييف فحسب؛ بل وصلت أصداؤه إلى مناطق أخرى؛ فترمب فجّر أزمة مع نيودلهي بتنفيذ تهديده بفرض رسوم جمركية على صادرتها إلى الولايات المتحدة بنسبة 50% عقابًا على استمرارها في شراء النفط الروسي. والرد الهندي كان قاطعًا، وهو التمسك بالنفط الروسي الذي وفر للهند أكثر من 17 مليار دولار منذ فُرضَ سقف السعر على النفط الروسي، وذلك حسبما اطلعت عليه من إحصائية معتبرة وأنا أعمل على هذا المقال.
وللموقف الهندي أسباب أخرى تتعلق بالسيادة والطموحات السياسية الدولية بخلاف الاقتصاد، ولسنا بوارد الخوض في تفاصيلها هنا، لكن في هذه الحالة تكمن المفارقة في القرار الأمريكي، فترمب يعاقب حليفًا إستراتيجيًّا لواشنطن، في حين تعزز موسكو شراكاتها مع الهند والصين، خصوصا ونحن على أعتاب قمة تاريخية تجمع بين بوتين ومودي وشي جين بينغ في الصين بعد أيام قليلة، وفي كل ذلك أرى زيادة في صلابة الجبهة الاقتصادية الروسية، مقابل أوهام أوروبية تنتظر من سنوات انهيار اقتصاد الكرملين، بفكر رغائبي منفصل عن رؤية الواقع.
وخلاصة المقال أن المشهد الراهن يوضح أن بوتين يمسك بخيوط اللعبة، سواء من خلال ضربات الميدان، أو عن طريق الفعل والخطاب السياسي، أما ترغيب ترمب وترهيبه الراميان إلى إخضاع كييف وموسكو معًا، فتأثيرهما في الكرملين وحلفائه وشركائه -حسبما نرى من الواقع- شبه صفري. وأوروبا تفتقد القدرة العملية على تنفيذ أي أهداف أو مشروعات لها في أوكرانيا دون الغطاء الأمريكي. أما أوكرانيا المسكينة، فعالقة بين طموحات الضمانات الأمنية القصوى والضغوط المتزايدة، عسكريًّا من جانب روسيا، واقتصاديًّا من الحلفاء.
لذلك، فقمة بوتين- زيلينسكي ليست مطروحة بوصفها خيارًا روسيًّا واقعيًّا؛ بل بوصفها حلمًا ترمباويًّا، يسعى البيت الأبيض إلى استخدامه كورقة ضغط، لكن لأن بوتين لا ينسى درس باريس 2019، فهو لن يمنح زيلينسكي فرصة تحويل قمة كهذه إلى “شو” سياسي مجاني.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.