تقدير موقف

قمة بوتين- ترمب.. انفتاح روسي محسوب أم رهانات على فراغ القرار في واشنطن؟


  • 3 يوليو 2025

شارك الموضوع

في مؤتمر صحفي من مينسك يوم 27 يونيو (حزيران) 2025، وبعد انتهاء اجتماعات المجلس الأعلى للاتحاد الاقتصادي الاوراسي، أحد أهم مشروعات بوتين في الفضاء السوفيتي السابق، أعاد الرئيس الروسي تأكيده انفتاحه على عقد لقاء مع نظيره الأمريكي دونالد ترمب، لكنه شدد على أن “هذه اللقاءات يجب أن تُعد ويُحضر لها جيدًا حتى تفضي إلى آفاق جديدة للتعاون”.

بوتين لم يفوت الفرصة ليشدد على احترامه لترمب، ويكيل له الثناء، ويسبغ عليه الأوصاف الكريمة، واصفًا إياه بأنه “رجل شجاع مر بتجارب خطيرة”، بل أضاف أن ترمب “يسعى بصدق وإخلاص إلى حل النزاع في أوكرانيا”، في إشارة ذكية بالطبع أن بوتين أو موسكو ترى ترمب شريكًا سياسيًّا مختلفًا عن جو بايدن الرئيس السابق، الذي تميزت علاقات الكرملين بإدارته بالتوتر الحاد.

هذه التصريحات البوتينية التي تأتي مع اقتراب موعد الجولة الثالثة من مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف، واللهجة الايجابية التي حرص بوتين على التزامها عند حديثه عن ترمب تأخذ -من وجهة نظري- أبعادًا أخرى أكثر من كونها مغازلة، فهي تأتي وسط تصعيد جديد وغير مسبوق في الخطاب الغربي تجاه روسيا، وليس في الخطاب فقط، بل في الفعل الغربي عمومًا، وتحديدًا من جانب الناتو الذي تبنى قرارًا غير مسبوق في تاريخه برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج الاجمالي المحلي لدوله بحلول عام 2035 تحت ذريعة مواجهة “الوحش الروسي الجهنمي”.

بوتين لم يخفِ امتعاضه من هذا التحول الناتوي، وكان ذلك باديًا بشدة على ملامح وجهه في المؤتمر الحصفي الذي أشرت إليه أعلاه، إضافة إلى تصريحاته بهذا الخصوص، التي رأى خلالها هذا القرار وهذه الخطة دليلًا على أن الغرب “يلوي عنق الحقائق”، ويقلبها قلبًا بزعمه عدوانية روسيا، في حين أن “العدوان الحقيقي يتمثل في سلوك الغرب الجماعي قبل عام 2022” (والاقتباس هنا من كلام بوتين المباشر).

اللافت كذلك -في رأيي- أنه في الوقت الذي يتجنب فيه الكرملين وتتجنب فيه موسكو انتقاد الإدارة الأمريكية الجديدة على نحو مباشر، فإنها -أي موسكو الرسمية- تشير ضمنيًّا وصراحةً كذلك- إلى تفضيلها ترمب على بايدن، فبوتين لم يكتف مثلًا بالثناء على شجاعة ترمب، و”تحمله محاولات اغتيال”، بل أضاف أنه يصدق رغبته الصادقة في حل النزاع الأوكراني. والأكثر، وفي لهجة نادرة -من واقع متابعتي الشخصية- وصف يوري أوشاكوف، وهو مساعد الرئيس الروسي للسياسة الخارجية، العلاقات مع إدارة ترمب أنها علاقات “صداقة ودية وشراكة”، وهو توصيف غير مألوف تمامًا في الخطاب الروسي تجاه الولايات المتحدة، بل أعتقد أنه لم يذكر قط رسميًّا بهذه الصيغة منذ عام 2014.

 ومع ذلك، لا بد أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي أن موسكو لا تُظهر مع ذلك استعجالًا في عقد هذا اللقاء الذي طال انتظاره عالميًّا، بل من الواضح أن بوتين -حسبما فهمت تصريحاته- يُقدر أهمية التوقيت والسياق السياسي جيدًا، فرغم إعرابه عن الاستعداد المبدئي، فإن القمة لا تعد له هدفًا في ذاتها، كما هي الحال لترمب مثلًا؛ وإنما يجب أن تكون وسيلة لإعادة تفعيل قنوات الحوار، بشرط أن تكون النتائج واضحة، وأن تكون ضمن حدود لا تمس المصالح الروسية العليا.

وفي الوقت الذي يتحدث فيه بوتين عن استعداده للقاء ترمب، وعن تصديقه لسعي ترمب إلى حل النزاع، يعلن السيناتور الجمهوري المتعصب ضد روسيا ليندسي غراهام أنه حصل من ترمب على الضوء الأخضر لتمرير مشروع القانون الخاص بفرض عقوبات خيالية وغير مسبوقة تصل إلى 500% من الرسوم على الدول التي تشتري مصادر الطاقة من روسيا، وعلى رأسها -بالطبع- الصين والهند، لكن التحليل الروسي لمشروع هذا القانون -من واقع ما قرأته- يتسم بالحذر، فرغم شدة النص، فإن موسكو ترى أنه يمثل “أداة تفاوضية محتملة” في يد ترمب، وليس تعبيرًا عن رغبة حقيقية في التصعيد، فالنص القانوني -في حالة إقراره- لا يُلزم الرئيس بتنفيذ العقوبات، بل يمنحه صلاحية استخدامها عند الحاجة؛ ومن ثم يرى الكرملين أن تمرير هذا القانون -رغم خطورته الرمزية طبعًا- لا يعني بالضرورة تدهور العلاقات مع ادارة ترمب، بل قد يكون جزءًا من أوراق الضغط التي تحتفظ بها واشنطن لاستخدامها في اللحظة التفاوضية المناسبة.

ونقطة أخرى مهمة، فرغم اللهجة الإيجابية المعلنة في الخطاب الروسي، فإن موسكو تدرك أن أي لقاء بين الزعيمين يجب أن يُبنى من خلال قنوات اتصال دبلوماسي نشطة، وهو الأمر غير المتوافر حاليًا، فقد اعترف أوشاكوف نفسه بوجود “جمود غير ملعن” في المحادثات الخاصة بإعادة تفعيل عمل البعثات الدبلوماسية والقنصلية بين البلدين، رغم بساطة هذا الملف ظاهريًّا.

وهذا الجمود يُقرأ في موسكو بوصفه إشارة إلى غياب الإرادة السياسية من جانب واشنطن للسير قدمًا في هذا الملف؛ ما يُضعف احتمالات عقد لقاء قمة بين الرئيسين يكون له مضمون فعلي؛ ولهذا -في رأيي- يُرجح أن يبقى الحديث عن اللقاء بين بوتين وترمب في إطار الأمنيات، أو الرسائل السياسية، ما لم تُفعَّل قنوات التحضير المؤسسي الضرورية.

كما ترتبط احتمالات اللقاء أيضًا بالتقدم أو الجمود في المسار التفاوضي بين روسيا وأوكرانيا. نعم، صرح بوتين في المؤتمر الصحفي نفسه بأن الجولة الثالثة من مفاوضات إسطنبول يجري العمل حاليًا على الترتيب لها، لكنه أكد أن المذكرة الأوكرانية المقترحة للتسوية تتناقض كليًّا مع المذكرة الروسية التي تتضمن مقترحات موسكو لهذه التسوية. وفي هذا السياق، من المفهوم أن لقاء بوتين- ترمب، من وجهة النظر الروسية، لا يمكن أن ينعقد على نحو منفصل عن مستقبل هذه المفاوضات.

لكن إن انعقدت هذه الجولة، وإذا تحققت بختامها مثلًا تهدئة ميدانية، أو تم التوصل إلى اتفاق جزئي مع كييف، قد ترى موسكو في اللقاء فرصة لتثبيت هذه التفاهمات مع واشنطن. أما في حالة استمرار التصعيد العسكري والدبلوماسي، فإن الكرملين قد يرى أن لا جدوى من القمة في هذه المرحلة، بل قد يراها محاولة لانتزاع تنازلات تحت الضغط.

وخلاصة القول من كل ما سبق أن الكرملين يبدي انفتاحًا مشروطًا في بيئة غير مواتية، فمن الواضح أن بوتين مستعد من حيث المبدأ لعقد قمة مع ترمب، لكن موسكو تدرك أن البيئة السياسية -سواء داخل الولايات المتحدة أو في المحيط الأطلسي- ليست مهيأة لهذا النوع من اللقاءات، بل إن احتمال انعقاد القمة يظل -في رأيي- رهين ثلاثة عوامل أساسية:

1- تغير المزاج الأمريكي العام تجاه الانخراط في لقاءات مباشرة على هذا المستوى مع روسيا.

2- حدوث تقدم ملموس في مسار المفاوضات بين موسكو وكييف.

3- وجود ضمانات بعدم استغلال اللقاء لأغراض داخلية أمريكية، انتخابية مثلًا.

وهذه العوامل الثلاثة غير متوافرة الآن؛ ولذلك فالحسابات الروسية لا تضع القمة هدفًا إستراتيجيًّا في ذاته، بل تُبقي عليها خيارًا مطروحًا إذا توافرت له الشروط الموضوعية.

وحتى يحين ذلك، يبقى موقف موسكو -حسبما أفهمه- قائمًا على معادلة بسيطة: الحوار منفتح، لكن أعطوني النتائج أولًا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع