في عالم يموج بالتغيرات الجيوسياسية، توجهت الأنظار إلى قمة بريكس التي عقدت في قازان، وفتحت نقاشات واسعة بشأن مستقبل النظام العالمي. في سياق تزايد الانقسام العالمي وتبدّل التحالفات، تأتي هذه القمة بوصفها حدثًا يتجاوز الأبعاد الاقتصادية التقليدية التي تأسس من أجلها التحالف؛ إذ أصبح اللقاء فرصة نادرة لتشكيل رؤية مشتركة بين دول تبحث عن التوازن، والاستقلال عن الضغوط الغربية.
هذا اللقاء في قازان يحمل دلالات عميقة، حيث يجمع بين قوى صاعدة تسعى إلى تكريس موقعها العالمي، وتحدي الهيمنة الغربية؛ روسيا، التي تواجه عزلة متزايدة في ظل الأزمة الأوكرانية، والصين، التي تقف في وجه الضغوط الأمريكية، والهند، التي تبحث عن تعزيز نفوذها في آسيا بعيدًا عن الاصطفاف مع الغرب، إلى جانب البرازيل، وجنوب إفريقيا، وتجد تلك الدول في بريكس منصة لتوحيد رؤاها، وتطوير سياسات قادرة على دفع عجلة التنمية المستقلة.
أتت قمة قازان وسط تحولات تاريخية، حيث يعاد تشكيل النظام العالمي بطرق غير مسبوقة. لم يجتمع القادة لتبادل المنافع الاقتصادية فحسب؛ بل لاستكشاف مستقبل جديد، حيث يمكن لهذه الدول أن تتعاون للتأثير في القرارات الدولية، وتخفيف حدة الاعتماد على المؤسسات الغربية؛ مما يثير تساؤلات عن قدرة التحالف على التحول إلى كتلة سياسية قادرة على تحدي النظام القائم.
تستمر التساؤلات: هل يمكن أن تشكل هذه القمة خطوة نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب؟ وهل ستشهد السنوات المقبلة تزايد التعاون بين دول بريكس لتعزيز نفوذها على الساحة العالمية؟
في سياق التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي، تبرز قمة بريكس في قازان بوصفها حدثًا محوريًّا يسعى إلى إعادة رسم ملامح العلاقات العالمية وفق أسس جديدة تستجيب لتطلعات الدول النامية والقوى الصاعدة. ترى موسكو في هذه القمة خطوة تأسيسية تعزز مكانة بريكس على المسرح الدولي، إذ تهدف إلى تحصين استقلالية الدول الأعضاء في مواجهة الهيمنة الغربية عبر تطوير أدوات مالية وتجارية غير تقليدية.
انطلاقًا من رؤية استراتيجية، بدأت موسكو استعداداتها للقمة منذ مطلع العام، مع اختيار مدينة قازان -ذات الإرث الثقافي الإسلامي والحضارة الروسية العريقة- بوصفها رمزًا للمكانة الروسية داخل العالم الإسلامي، ولتعزيز التواصل مع الدول ذات الأغلبية المسلمة. يحمل هذا الاختيار رسالة واضحة؛ إذ تطرح روسيا بريكس منصةً تهدف إلى تكريس التعددية والاحترام المتبادل بين الثقافات والحضارات، فضلًا عن تقديم نفسها بوصفها حلقة وصل جيوسياسية بين آسيا وأوروبا.
دعت روسيا أكثر من 40 دولة لحضور القمة، حضر منها قرابة 34، ما بين رؤساء دول ورؤساء وزراء، لتكون بذلك إحدى القمم الأكثر تمثيلًا في تاريخ بريكس. يظهر هذا الحضور الواسع -وفق مراقبين- رسالة واضحة إلى الغرب، مفادها أن بريكس لا يزال يحقق جذبًا متزايدًا بوصفه منصة للتعاون الإقليمي والدولي، بعيدًا عن ضغوط النظام المالي الغربي.
إن هذا الحضور يعكس اهتمام الدول النامية والصاعدة بالبحث عن بدائل للنظام الاقتصادي والسياسي الحالي، الذي تسيطر عليه المؤسسات الغربية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. هذه الدول تسعى إلى الاستفادة من منصة بريكس لتعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي، والبحث عن حلول جديدة للتحديات التي تواجهها، بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
في الجانب الاقتصادي، ركزت القمة على تعزيز التبادل التجاري عبر استحداث أنظمة مالية جديدة، كان أبرزها مشروع “الروبل الرقمي” الذي اعتمده الرئيس بوتين في أغسطس (آب) الماضي، بالإضافة إلى منصة إلكترونية للعملات الرقمية، تهدف إلى تمكين التعاملات المالية بين الدول الأعضاء بعيدًا عن هيمنة الدولار. كما استعرضت القمة خططًا لتطوير ممر الشمال- الجنوب، الذي يربط الشمال بالخليج العربي والهند، بما يعزز سلاسة التبادلات التجارية، ويضمن استفادة الدول الأعضاء من شبكة متطورة من البنية التحتية.
تسعى هذه الخطط إلى تقليل الاعتماد على الدولار بوصفه عملة احتياطية عالمية، وتعزيز استخدام العملات الوطنية في التعاملات التجارية بين الدول الأعضاء. هذا التوجه يعكس رغبة بريكس في تحقيق استقلالية اقتصادية أكبر، وتجنب الضغوط التي تفرضها السياسات النقدية الأمريكية على الاقتصاد العالمي. من خلال استحداث منصات رقمية جديدة، يأمل بريكس في بناء نظام مالي أكثر عدالة وشفافية يتيح للدول النامية فرصة أكبر لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.
تؤمن موسكو بأهمية تجاوز الأنظمة المالية التقليدية، مثل “سويفت”، وتقديم بدائل مبتكرة لتبادل المعلومات المالية بين دول بريكس، وهو ما تسعى إليه من خلال بناء بنية تحتية رقمية موحدة تعزز التعاون بين الأعضاء في مجالات الأمن السيبراني والأعمال، وتفتح الباب أمام بيئة جاذبة للاستثمارات والابتكارات التكنولوجية.
إن تطوير بنية تحتية رقمية مشتركة بين دول بريكس من شأنه أن يوفر بيئة أكثر أمانًا للتعاملات المالية، ويقلل أخطار التعرض للهجمات السيبرانية. كما أن هذه البنية ستسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث توفر للدول الأعضاء والشركاء المحتملين بيئة مستقرة ومشجعة للأعمال، مما يعزز من قدرات بريكس على المنافسة في الاقتصاد العالمي.
تسعى دول بريكس إلى تشكيل نظام عالمي جديد يضع حدًّا للهيمنة الغربية على السياسة والاقتصاد الدوليين. وقد أعادت قمة قازان طرح مفهوم السيادة الوطنية والتنمية المستقلة كجزء من التوجهات الإستراتيجية الجديدة. يتنامى إدراك دول بريكس بأن النظام العالمي القائم، الذي يرتكز على المؤسسات المالية الغربية، كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، يفرض شروطًا تخدم مصالح الدول المتقدمة، وتقيد قدرة الدول النامية على تحقيق التنمية المستدامة. وبناءً على ذلك، ركزت قمة قازان على تطوير شراكات اقتصادية جديدة، واستكشاف آليات تعاون بديلة تهدف إلى منح الدول الأعضاء حرية أكبر في إدارة اقتصاداتها، بعيدًا عن الضغوط الغربية.
من هذا المنطلق، تبنت القمة عدة مشروعات لتعزيز التعاون الاقتصادي البيني، من خلال استحداث أنظمة دفع مشتركة، ومنصات رقمية تتيح التداول بالعملات الوطنية؛ مما يُمكّن دول بريكس من تحقيق استقلالية مالية أكبر. تعمل هذه المبادرات كخطوة رئيسة نحو خلق نظام مالي متوازن يتيح لدول بريكس وشركائها تحقيق المكاسب، دون الحاجة إلى الالتزام بالقواعد المفروضة من النظام المالي الغربي. ويمثل تعزيز التعاملات بالروبل الرقمي فرصة لروسيا لاستبدال جزء من المدفوعات بالدولار؛ مما قد يؤدي في المستقبل إلى تراجع الاعتماد على العملة الأمريكية، وإضعاف نفوذها في النظام الاقتصادي العالمي.
جذب بريكس للدول الطامحة إلى الانضمام يسلط الضوء على نجاح التحالف في خلق نموذج جديد للتعاون الدولي، قائم على التوازن بين المصالح، واحترام السيادة. يشكل الإقبال المتزايد من دول أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا مؤشرًا قويًّا على مدى رغبة هذه الدول في المشاركة في تحالف يتيح لها الوصول إلى فرص جديدة للتنمية والنمو الاقتصادي، ولم يعد بريكس مجرد تجمع للدول الخمس الأعضاء؛ بل بات يمثل منصة تجذب دولًا تطمح إلى الاستفادة من علاقات متوازنة، وشراكات إستراتيجية بعيدة عن التدخلات الخارجية.
يُعد توسع بريكس خطوة لافتة تعكس نجاح التحالف في ملء الفراغات التي خلفها النظام الغربي التقليدي. وبالنظر إلى الدول التي أعربت عن رغبتها في الانضمام، مثل تركيا، والجزائر، وإندونيسيا، والكويت، يظهر مدى الاستقطاب الذي يمكن أن يحققه بريكس على مستوى دول العالم الجنوبي. من خلال تقوية بنيته السياسية والاقتصادية، يسعى بريكس إلى تشكيل قوة عابرة للقارات، تستطيع مواجهة التحديات العالمية بطريقة متوازنة وعادلة، خصوصًا مع التركيز على تحسين الأمن الغذائي، وإيجاد حلول مستدامة للأزمات البيئية والاقتصادية.
اختيار قازان موقعًا للقمة يحمل أبعادًا إستراتيجية ورمزية، إذ تعدّ بوابةً فريدة تربط بين العالمين الآسيوي والأوروبي. قازان، بتاريخها العريق الذي يجمع بين الحضارتين الإسلامية والروسية، تمثل رمزًا ثقافيًّا يعزز مكانة روسيا بوصفها جسرًا جيوسياسيًّا بين الشرق والغرب. من خلال انعقاد القمة في مدينة ذات طابع إسلامي قوي، تعيد روسيا تأكيد اهتمامها بتعزيز علاقاتها مع العالم الإسلامي والدول ذات الأغلبية المسلمة، في محاولة لإثبات دورها بوصفها شريكًا موثوقًا به، يلتزم بمبادئ التعددية والاحترام المتبادل.
تسعى روسيا كذلك إلى توسيع دور قازان بوصفها مركزًا اقتصاديًّا وثقافيًّا، حيث يمكن أن تصبح محورًا إقليميًّا للتعاون مع دول آسيا الوسطى، القوقاز، والشرق الأوسط. ومن خلال تعزيز بنيتها التحتية، وجذب مزيد من الاستثمارات، تسعى روسيا إلى جعل قازان نموذجًا للتنمية المستدامة يمكن لبقية دول بريكس والشركاء المحتملين الاستفادة منه. يمثل هذا التحرك جزءًا من رؤية روسيا لجعل بريكس نموذجًا فعّالًا في التنمية المستدامة، وتعزيز البنية التحتية؛ مما يدعم بناء أساس اقتصادي متين يرتكز عليه النظام العالمي الجديد.
تظهر قمة قازان على أنها خطوة تأسيسية لتحقيق طموحات بريكس في تشكيل نظام عالمي جديد يتحدى الهيمنة الأحادية، ويكرس قيم التعددية والسيادة؛ إذ لا تنظر الدول الأعضاء إلى بريكس بوصفه تحالفًا محدودًا بمصالح ضيقة؛ بل منصة لبناء شراكات واسعة تمتد إلى جميع مناطق العالم، وتستهدف إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والسياسية على نحو أكثر عدالة. تركز القمة على مواجهة التحديات العالمية من خلال وضع رؤى جديدة للتعاون في مجالات الطاقة المستدامة، وحماية البيئة، وتحقيق الأمن الغذائي؛ مما يمكن أن يضع بريكس في طليعة القوى العالمية التي تقدم حلولًا حقيقية لمشكلات العصر.
بهذه الطموحات، لا يسعى بريكس إلى تقليص الفجوة الاقتصادية بين الشمال والجنوب فقط؛ بل كذلك إلى تقديم بديل عملي ومرن للنظام العالمي القائم. تتطلع الدول الأعضاء إلى تعميق التعاون البيني، وتطوير إستراتيجيات مشتركة تمكنها من مواجهة التحديات الاقتصادية والتكنولوجية المتزايدة، مع التركيز على تعزيز الابتكار، ونقل التكنولوجيا بين الدول الأعضاء. وإذا ما استمرت هذه الجهود، فإن بريكس قد يتحول فعليًّا إلى كتلة قادرة على تغيير ميزان القوى العالمي، وخلق نموذج جديد للتنمية المستدامة يحقق توازنًا حقيقيًّا بين المصالح المشتركة للشعوب.
تؤكد روسيا في هذه القمة قيم التعددية، المساواة، والأمن الغذائي، في وقت تواجه فيه عدة دول تحديات كبرى في الحصول على الموارد الغذائية. من خلال التركيز على هذه القضايا، يهدف بريكس إلى تقديم نموذج شراكة يعزز سيادة الدول، بعيدًا عن التدخلات الخارجية، في ظل إقبال أكثر من 27 دولة، من جميع القارات على طلب الانضمام إلى التحالف؛ مما يعزز قدرة بريكس على التحول إلى قوة جيوسياسية عالمية تسعى إلى تحقيق نظام عالمي جديد يقوم على العدالة والمساواة.
إن تعزيز الأمن الغذائي والتعاون في مجال الزراعة بين دول بريكس يمكن أن يسهم في تحقيق تنمية متوازنة، ويقلل الفجوة بين الشمال والجنوب. كما أن هذا التعاون يتيح للدول الأعضاء تبادل الخبرات والتقنيات الزراعية؛ مما يسهم في زيادة الإنتاجية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية.
في ظل تغيرات جيوسياسية متسارعة يشهدها العالم اليوم، تأتي قمة بريكس التي انعقدت في قازان لتسلط الضوء على مستقبل النظام العالمي الجديد. تتجاوز هذه القمة أهدافها الاقتصادية التقليدية؛ إذ تسعى إلى توحيد جهود الدول الأعضاء في مواجهة الضغوط والتحديات التي يفرضها النظام العالمي الحالي الذي يهيمن عليه الغرب. هذه القمة ليست فقط منصة لتعزيز التبادل التجاري؛ بل هي ساحة لمناقشة إعادة تشكيل العلاقات الدولية وفق أسس متعددة الأقطاب، وتوازن جديد في القوى العالمية.
تسعى دول بريكس من خلال قمة قازان إلى إعادة تشكيل النظام العالمي، بعيدًا عن الهيمنة الغربية؛ من خلال تعزيز السيادة الوطنية، والتنمية المستقلة للدول الأعضاء. ركزت القمة على تطوير أنظمة مالية جديدة ومستقلة، مثل الروبل الرقمي، ومنصات رقمية للتداول بالعملات الوطنية؛ بهدف تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتعزيز الاستقلالية المالية.
يهدف بريكس إلى تعزيز الأمن الغذائي وتحقيق التنمية المتكافئة بين الدول الأعضاء، من خلال تبادل الخبرات والتقنيات الزراعية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد. كما شهدت القمة اهتمامًا متزايدًا من الدول النامية بالانضمام إلى بريكس؛ مما يعكس نجاح التحالف في تقديم بديل للنظام الغربي، يقوم على احترام السيادة، والتوازن بين المصالح.
اختيار قازان موقعًا للقمة يحمل دلالات رمزية تعزز مكانة روسيا بوصفها جسرًا جيوسياسيًّا بين الشرق والغرب، وتسعى إلى توسيع دورها في تعزيز التعاون مع العالم الإسلامي. تسعى دول بريكس أيضًا إلى تحويل التحالف إلى قوة عالمية مؤثرة قادرة على مواجهة التحديات العالمية على نحو متوازن وعادل، من خلال تعزيز التعاون في مجالات الطاقة المستدامة، والأمن الغذائي، وحماية البيئة، مع التركيز على الابتكار، ونقل التكنولوجيا.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.