دأب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في أثناء حملته الانتخابية عام 2024، على تكرار مقولته التي أطلقها منذ عام 2022: “لو كنتُ رئيسًا لما وقعت الحرب”، ويقصد هنا الحرب الروسية- الأوكرانية؛ لأنه كرر العبارة نفسها فيما يخص أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بين حماس وإسرائيل، والشيء ذاته بين حزب الله وإسرائيل. كما وعد بأنه لو أصبح رئيسًا سينهي “الحرب الروسية- الأوكرانية في غضون 24 ساعة”. وبعدما انتُخب بالفعل، وتولى الرئاسة في 20 يناير (كانون الثاني) 2025، وبعد مضي شهرين، حين سُئل عن عدم قدرته على تحقيق وعده بإنهاء الحرب، رد قائلًا: “كنتُ ساخرًا قليلًا عندما قلتُ ذلك. ما أعنيه حقًّا هو أنني أرغب في تسوية الأمر، وأعتقد أنني سأنجح”.
عقد الطرفان الأمريكي والروسي أول اجتماع رفيع المستوى بقيادة وزيري خارجية البلدين في الرياض، لمدة أربع ساعات، يوم 19 فبراير (شباط)، بوساطة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وتوالت بعد ذلك الاجتماعات، إلى جانب خمس رحلات قام بها مبعوث ترمب ويتكوف إلى موسكو، وست مكالمات هاتفية ثنائية بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، وصولًا إلى عقد قمة مشتركة جمعت بين الرئيسين في ألاسكا يوم 15 أغسطس (آب). ومن الجدير بالذكر أن ألاسكا تمثل نقطة الالتقاء الحدودي الوحيدة بين البلدين، حيث يفصل بين جزيرة ديوميد الكبرى الروسية وجزيرة ديوميد الصغرى الأمريكية 3.8 كم فقط. كما أن أول من اكتشف ألاسكا كان الرحالة الروسي سيميون ديجنيف عام 1648، وفي الفترة من 1728 إلى 1741، اكتشف البحّار الدنماركي فيتوس بيرينغ، الذي كان يعمل لصالح الإمبراطورية الروسية أراضيها كاملةً. وقد ضمّتها رسميًّا الإمبراطورة كاثرين العظيمة إلى الإمبراطورية الروسية عام 1741، ثم بيعت في عهد الإمبراطور الروسي ألكسندر الثاني عام 1867، في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابع عشر أندرو جونسون، بقيمة 7.2 مليون دولار؛ خشية أن تسيطر عليها بريطانيا العظمى التي كانت العدو الأول للإمبراطورية الروسية، في حين كانت تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها دولة صديقة.
على هذا الأساس التاريخي لبيع ألاسكا، في ظل علاقة صداقة كانت تربط بين البلدين، إلى جانب الجوار الجغرافي، يبدو أن قرار عقد القمة فيها لم يكن بمحض المصادفة. كما أنه ربما يشير إلى عقيدة “الصفقات” التي يفضل الرئيس الأمريكي ترمب إدارة العلاقات الدولية من خلالها، ويعتقد بوتين أن هذا النهج يفيد روسيا، ويمكنها من التوصل إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة أفضل من السياسة الأمريكية التقليدية “النظام العالمي المبني على القواعد” (RBO).
وقبل عقد القمة بأيام قليلة، وتحديدًا يوم 7 أغسطس (آب)، زار الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، العاصمة الروسية موسكو، والتقى الرئيس بوتين، الذي أشاد بدور الإمارات في الوساطة مع الجانبين الأمريكي والأوكراني، والتي تكللت بعدة نجاحات في الإفراج عن رهائن من كلا الطرفين. وقد صرّح بوتين بأن “الإمارات من الأماكن المناسبة لعقد اجتماع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب”. وبعد أربعة أيام من عقد القمة، وتقديرًا لدوره في التمهيد لها، أجرى الرئيس بوتين اتصالًا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليطلعه على نتائج الاتصالات الأخيرة مع الرئيس الأمريكي ترمب. كما رحّبت الإمارات العربية المتحدة بالقمة التي عقدت في ألاسكا، من خلال بيان رسمي لوزارة الخارجية.
استحوذ الشكل على المضمون في التناول الإعلامي لأحداث القمة، مع عناوين بارزة تقليدية بشأن “مَن المنتصر” في نهايتها. يشترك الرئيسان بوتين وترمب في قدرتهما وحبهما للعبة الاستعراضات، ومداعبة المشاعر الشعبية، لا سيما أمام الكاميرا. لعبة بوتين تكون في الغالب قائمة على المنهجية الصارمة التي تحافظ على صورة رجل المخابرات الروسي التقليدي القوي، والمتزن، والحازم، صاحب الجبروت على نحو هادئ وواثق، غير أنّ ابتسامته، التي تبدو في ظاهرها لطيفة محببة للجماهير، تحمل في باطنها رسائل تحذيرية تبعث على الخوف، وتذكّر بصلابته وقدرته على الهيمنة، في حين يلعب ترمب وفق قواعد الدعاية الأمريكية المعتمدة على الإثارة والمبالغة.
استمر الاجتماع بين الرئيسين 3 ساعات، وهي مدة أقل مما أعلنه الكرملين، الذي توقع أن يستغرق من 6 إلى 7 ساعات. أما المؤتمر الصحفي -إن جاز التعبير- فكان إفادة سريعة لا تتجاوز 12 دقيقة، من خلال كلمات مقتضبة لبوتين وترمب، من دون السماح بأخذ أسئلة من الصحفيين.
ركز حديث كلا الرئيسين على رغبتهما الجادة في السلام، وأن اللقاء في مجمله كان مثمرًا، وأن تقدمًا كبيرًا تحقق على مستوى التفاهم فيما يخص العلاقة بين البلدين، وأنهما اتفقا على كثير من الأمور المهمة، ولم يتبقَّ سوى أمور قليلة الأهمية.
في المجمل، كانت النتائج المعلنة للقمة مبهمة، ولم تخرج بخلاصة واضحة، بل اقتصرت على تصريحات عامة وبعضها غامض، ما يشير إلى أن هناك كثيرًا مما لا يعرفه أحد سوى الحاضرين مع الرئيسين، حيث لم يكن اجتماعًا فرديًّا كما حدث في لقاءات سابقة.
إجمالًا، بدا بوتين في وضعية أفضل من أي وقت مضى منذ بدء ما تسمّيه روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في 24 فبراير (شباط) 2022، إذ كسر العزلة الدولية التي أراد الغرب بقيادة الولايات المتحدة -من خلال إدارة بايدن السابقةـ فرضها عليه، وهو إنجاز شديد الأهمية لصورة بوتين في الداخل، حيث يقدمه أمام شعبه بوصفه قد انتصر في النهاية، وأجبر خصومه على الاعتراف بروسيا لاعبًا لا يمكن تجاهله،. كما استقبله الرئيس الأمريكي بنفسه في المطار، وهو أمر يعد خرقًا للبروتوكول التقليدي. وبدا بوتين متمتعًا بمكانة مميزة لدى ترمب، الذي استقبله بحفاوة واحترام بالغين، خلافًا لعادته في استقبال بقية الزعماء، لكن في المقابل، كان استقبال ترمب لبوتين في المطار إشارة رمزية إلى رغبة أمريكية في السلام على الأرض، غير أن التحليق المتعمّد لمقاتلات أمريكية تتقدمها قاذفة الشبح (B2) فوق مكان اللقاء حمل رسالة موازية، مفادها أن واشنطن تُلوّح بيد للسلام، لكنها باليد الأخرى تؤكد امتلاكها التفوق الحاسم عبر السماء، وأنها قادرة على فرض معادلتها بالقوة إذا تعثرت المفاوضات.
بعد ثلاثة أيام من عقد القمة الروسية- الأمريكية في ألاسكا، عقدت في العاصمة واشنطن قمة كان يفترض أن تجمع ترمب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي طلب حضور القادة الأوروبيين، فاستجابوا لطلبه، وبالفعل عُقدت القمة بحضورهم. وكالعادة، غلب الشكل على المضمون في تناول أحداث القمة، سواء في الصورة الملتقطة للقادة الأوروبيين وهم ينتظرون لقاء ترمب في ردهة البيت الأبيض، أو البدلة الرسمية التي ارتداها زيلينسكي بدلًا من البدلة العسكرية المعتادة منذ بدء الحرب، أو الخريطة المعروضة لمناطق السيطرة الروسية في شرق أوكرانيا وجنوب شرقها، أو التسريب الصوتي لحديث ترمب مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن “رغبة بوتين في صنع السلام لأجله”.
تحدث ترمب بوضوح عن نقطتين رئيستين: الأولى عدم إدراج شبه جزيرة القرم في أي مفاوضات بشأن ما سمّاه “تبادل الأراضي”، والثانية عدم دخول أوكرانيا حلف شمال الأطلسي (NATO)، وطرح بدلًا من ذلك ضمانات أمنية على غرار المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، دون تحديد كيفية تنفيذ ذلك، أو وفق أي شروط، في حين ترك مسألة “تبادل الأراضي” للمفاوضات المباشرة بين بوتين وزيلينسكي، وأن الأوروبيين سيتحملون العبء الأكبر في الشؤون الدفاعية.
تضاربت تصريحات المسؤولين الأوروبيين؛ حيث أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أن زعماء أوروبيين “يدرسون فرض عقوبات إضافية لزيادة الضغط على الرئيس الروسي، بوتين، ضمن حملة أوسع نطاقًا لإنهاء الحرب في أوكرانيا”. كما عقد اجتماعًا افتراضيًّا عن طريق الإنترنت مع قادة 30 دولة أعضاء فيما يُسمى “تحالف الراغبين” لدعم أوكرانيا، في حين شكك الرئيس الفرنسي ماكرون في “نية بوتين تجاه السلام”، معتبرًا أنه يريد “إضعاف أوكرانيا”. في المقابل، أشاد المستشار الألماني فريدريش ميرتس بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب لإقناعه الرئيس الروسي بالموافقة على “عقد اجتماع مع نظيره الأوكراني”، مشددًا على أن القمة أكدت “وحدة الجبهة الأوروبية في شأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا”، وأن الاجتماع بين بوتين وزيلينسكي سيُعقد “بعد أسبوعين” دون تحديد مكانه. في المقابل، رد زيلينسكي بأن تحديد الموعد “لم يحدث بعد”، وأنه “من المستحيل التنازل عن أراضٍ أوكرانية؛ لأن الدستور يحظر ذلك”، كما صرّح بأنه “شرح للرئيس ترمب حقيقة الأوضاع العسكرية على الأرض”، وأن روسيا “لا تسيطر على كل ما ظهر من أراضٍ في الخريطة المعروضة بالبيت الأبيض”.
أجمع جميع الحضور في القمة الأمريكية- الأوروبية على رغبتهم وسعيهم نحو السلام، ولكن هذه الرغبة -وإن بدت تمثل توافقًا جماعيًّا- تحمل في طياتها اختلافات عميقة بشأن مفهوم السلام وماهيته بحسب رؤية كل طرف وتصوراته، وهو ما بدا واضحًا في تصريحات الزعماء الأوروبيين وزيلينسكي، وأكدته مخرجات القمة التي لم تقدم تصورًا واضحًا بشأن محددات هذا السلام المزعوم.
تبدو هذه القمم في ظاهرها رابحًا فيها كل الأطراف، وهو ما قد يدفع من يتابع التصريحات الصادرة عن المشاركين فيها إلى التساؤل: “إذن، أين المشكلة؟”، لكن خلف هذه التصريحات تكمن لدى كل طرف رهاناته الخاصة التي يتصوّر قدرته على تحقيقها.
الدوافع الأمريكية نحو السلام بين ضبط الصراع ومواجهة التحدي الصيني
يجادل الكثيرون في الولايات المتحدة بأن نجاح ترمب منح روسيا فرصة غير مسبوقة لاستكمال مسار الحرب وتحقيق انتصارات على الأرض، ويدّعون أن سياسة الديمقراطيين بقيادة جو بايدن، لو اكتملت، لكان مشهد الحرب اليوم مختلفًا. يبدو هذا التصور مبنيًّا على تحليلات رغبوية، أو نكاية حزبية سياسية. وما يبدو أكثر واقعية أنه -في كل الأحوال- حتى لو أكمل بايدن مدة ثانية، أو فازت كاميلا هاريس، لاتخذوا الطريق الحالي نفسه ببدء مسار المفاوضات المباشرة، ربما الشكل سيكون مختلفًا، لكن المضمون واحد.
الهدف الأمريكي من تقديم الدعم إلى أوكرانيا في العام الأول من الحرب، ودفع أوروبا ومنظومة الغرب الجماعي إلى الانخراط في هذا الجهد، كان يتمثل -في المقام الأول، قبل كل شيء- في حصر “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا داخل أراضيها، ومنع تمددها خارجها. فهذه العملية كان يُراد لها أن تكون الأولى منذ تفكك الاتحاد السوفيتي والأخيرة، عن طريق رفع كلفتها على موسكو من جميع النواحي العسكرية والبشرية والاقتصادية والاجتماعية؛ لذلك لم يكن غريبًا أن تنال روسيا -منذ بداية سياسة العقوبات- أكبر عدد من العقوبات على مدى التاريخ، وصلت إلى (23,960) عقوبة متنوعة، منها (6,441) عقوبة أمريكية.
أما مسألة “تحرير” أراضي أوكرانيا فكانت ثانوية أمام تحقيق هذا الهدف الأكبر، إذ إن الاعتقاد السائد لدى الجانب الأمريكي أن النجاح الروسي في أوكرانيا ربما يغريها بتكرار التجربة في بلدان أخرى لها مع روسيا نزاعات حدودية، أو مطالب إقليمية، مثل جورجيا، ومولدوفا، وكازاخستان، وبلدان البلطيق. كما أن انتصار روسيا في أوكرانيا كان سيؤدي، ربما تلقائيًّا، إلى قيام الدولة الاتحادية للسلافيات الثلاث: الاتحاد الروسي (روسيا العظمى)، وأوكرانيا (روسيا الصغرى)، وبيلاروس (روسيا البيضاء)، كما تسمى في الأدبيات السياسية والتاريخية الروسية.
جانب آخر مهم يتجاوز ترمب نفسه، وهو شعور جزء كبير داخل المؤسسة الحاكمة الأمريكية (The American Establishment) بالخطر من الانخراط المفرط في الصراع، فقد تزايدت المخاوف من تهور الجانب الأوكراني، وسوء استغلاله للدعم، ورهان بعض القوى الأوكرانية المتطرفة على التصعيد وتخطي الخطوط الحمراء لدفع موسكو إلى ردود فعل عنيفة وغير مسبوقة؛ ما قد يؤدي إلى إدخال الدول الأوروبية -ومن خلفها الولايات المتحدة- في الحرب على نحو مباشر. وهذا المشهد يشبه -في نظر البعض- تجربة حرب القرم 1853، عندما تمكنت الدولة العثمانية من الصمود أمام الروس بفضل الدعم البريطاني، ثم انضمت بريطانيا وفرنسا ومملكة سردينيا إلى الحرب بعد عام. بالفعل، كانت هناك عناصر أوكرانية تراهن على هذه اللحظة، لكن على الجانب الأمريكي كان هذا السيناريو يُنذر بكارثة كبرى على أوروبا كلها، ويزيد خطر اندلاع حرب نووية مدمرة للجميع.
في ظل قناعة المؤسسة الحاكمة الأمريكية بأن العملية العسكرية الروسية قد “ضُبِطت”، وأن أقصى قدراتها لا تتجاوز الضفة اليمنى من نهر دنيبرو في أوكرانيا، ومع انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وتحويل بحر البلطيق عمليًّا إلى بحيرة تابعة للحلف، وتسميم العلاقة بين الشعبين الروسي والأوكراني ربما لعقود قادمة، ونجاح عملية تحويل العقيدة العسكرية الأوكرانية من المنظومة الشرقية إلى الغربية، وتمرس الجيش الأوكراني على القتال، بات من الضرورة أن تأخذ الولايات المتحدة مسافة من هذا الصراع.
يمكن فهم هذه المسافة من تصريح ترمب اللافت: “يمكننا التوصل إلى اتفاق سلام حتى مع استمرار القتال”، ومن تأكيده منذ وصوله إلى البيت الأبيض أنه لن يسلّم أوكرانيا أسلحة بلا مقابل، وترحيبه بإعلان حلف الناتو دفع الأموال لشراء أسلحة أمريكية لصالح أوكرانيا، وتصريح زيلينسكي بأن أوكرانيا تريد أسلحة بقيمة 90 مليار دولار من الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، يعلن ترمب لروسيا أنه ليس طرفًا في هذه الحرب؛ بل وسيط سلام يرغب في إنهائها. ومن ناحية أخرى، يضغط على الأوكرانيين والأوروبيين بالقول إنهم إن أرادوا السلاح فعليهم الدفع، لتحقيق مكاسب اقتصادية. وفي الوقت نفسه، يوجّه رسالة إلى بوتين بأنه مجرد “مورد” للسلاح، وليس طرفًا في النزاع، وأن الأمر كله يتعلق بالأعمال و”البيزنس”، ولا شيء شخصيًّا فيه وفق المقولة الأمريكية الشهيرة: “It’s nothing personal, it’s just business.”، تمامًا كما تبيع تركيا مسيّرات إلى أوكرانيا في حين تحتفظ بعلاقات ممتازة مع روسيا.
وفق ما يبدو من التلاقي في الرؤى بين ترمب والمؤسسة الحاكمة، يسعى ترمب نحو السلام: فإن نجح فذلك إنجاز، وإن لم ينجح فسيعزل الولايات المتحدة عن أي تبعات سلبية للصراع، ويوفر لها الموارد المالية من خلال توريد الأسلحة، بعدما بات من الصعب تقديم دعم مجاني أو مؤجَّل الدفع بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على بدء الحرب.
الجانب الآخر، وربما الأهم للقمة، هو مناقشة القضايا المشتركة التي تهم الجانبين الأمريكي والروسي، لكن قضية أوكرانيا لا بد أن تكون في الواجهة لأنها العقبة الرئيسة أمام التفاهمات بين البلدين. وتريد الولايات المتحدة مساعدة روسيا لها في إطار شراكة مفيدة للطرفين فيما يخص قضية المعادن النادرة (REE).
تمثل المعادن النادرة إحدى الركائز الإستراتيجية للاقتصاد الأمريكي، والصناعات الدفاعية والتكنولوجية الحديثة، إذ تدخل في إنتاج الإلكترونيات المتقدمة، والمركبات الكهربائية، والطاقة المتجددة، والتطبيقات الطبية والعسكرية. غير أن أهميتها تجاوزت البعد الاقتصادي لتصبح عنصرًا جيو-سياسيًّا محوريًّا في التنافس بين الولايات المتحدة والصين. ومع أن واشنطن أنتجت عام 2024 نحو 45 ألف طن متري من هذه المعادن؛ ما جعلها ثاني أكبر منتج عالميًّا، فإنها لا تزال تعتمد بنسبة 80% على الواردات، تأتي أكثر من 75% منها من الصين، ويعود ذلك إلى محدودية قدرة الولايات المتحدة على المعالجة والتنقية، إضافة إلى القيود البيئية الصارمة، وارتفاع التكلفة المحلية؛ ما يجعلها عاجزة عن منافسة الأسعار الصينية.
على النقيض، استثمرت بكين منذ الثمانينيات في تطوير تقنيات استخراج المعادن النادرة وتكريرها، وقدمت دعمًا كبيرًا لهذا القطاع، مع اعتماد سياسات إنتاج منخفضة الكلفة، رغم آثارها البيئية. كما تبنت إستراتيجيات لإقصاء المنافسين من خلال إغراق السوق بأسعار منخفضة، ومنع تصدير المواد الخام، وإجبار الشركات الأجنبية على إنشاء مصانع محلية. وقد مكنتها هذه السياسات من السيطرة على نحو 90% من الإنتاج العالمي، ومعالجة أكثر من 85% من الإمدادات، لتصبح المهيمن شبه المطلق على سلاسل القيمة المضافة.
في المقابل، ورغم جهود واشنطن عبر مشروعات مثل “ماونتن باس” و”راوند توب” وتعاونها مع كندا وأستراليا، فإن القدرات الأمريكية تبقى محدودة، ولا يُتوقع أن تواكب الطلب المستقبلي الذي سيصل إلى 27 ألف طن بحلول عام 2035؛ وعليه، تبدو المعادن النادرة “نفط القرن الحادي والعشرين”، وقد نجحت الصين في توظيفها كورقة قوة إستراتيجية، في حين تواجه الولايات المتحدة صعوبات بنيوية تجعل منافسَتها شبه مستحيلة، لتظل رهينة الاعتماد على بكين في هذا المجال الحساس.
هنا يمكن لروسيا، بما لديها من مكامن كبرى للمعادن النادرة، إلى جانب أوكرانيا، وإن بدرجة أقل، ومع دول آسيا الوسطى التي تحتفظ موسكو بنفوذ عليها، أن تشكّل البديل القادر على منح الولايات المتحدة هامش تفوق في هذا المجال؛ لذلك تظل قضية أوكرانيا عقبة يجب تجاوزها من خلال سلام أو تهدئة بين واشنطن وموسكو؛ لبدء تعاون مشترك في المجالات الاقتصادية.
لقد عقدت الولايات المتحدة عدة اتفاقيات أمنية وعسكرية كبرى مع الاتحاد السوفيتي أسهمت في خفض التصعيد والإنفاق العسكري في الثلث الأخير من الحرب الباردة. وقد ورث الاتحاد الروسي هذه الاتفاقيات وأقر بها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991. ومن أبرزها:
ورغم تعليق بعض هذه الاتفاقيات بسبب التوترات، فإن بنيتها لا تزال صالحة، ويمكن العودة إليها في ظل رغبة البلدين في تجنّب سباق تسلح جديد، لكن الاختلاف الجوهري عن حقبة الحرب الباردة أن الصين لم تعد طرفًا ضعيفًا. فاليوم، كما يشير كورت إم. كامبل (Kurt M. Campbell)، وراش دوشي (Rush Doshi)، تمتلك الصين أكبر قوة بحرية في العالم، وطاقة لبناء السفن تفوق نظيرتها الأمريكية بمئتي ضعف، ومخزونًا صاروخيًّا أكبر، وقدرات متقدمة في الأسلحة فرط الصوتية. كما أمر الرئيس الصيني شي جين بينغ، بحسب فيبين نارانغ (Vipin Narang)، وبراناي فادي (Pranay Vaddi)، بتوسيع مذهل للترسانة النووية، يشمل مئات الصوامع الجديدة للصواريخ العابرة للقارات، وصواريخ باليستية إقليمية منخفضة القوة، وصواريخ كروز، وأنظمة فرط صوتية، ونظامًا مداريًّا لتفادي الدفاعات الصاروخية الأمريكية، ورادعًا بحريًّا نوويًّا. الأخطر أن هذه الترسانة تتضاعف بوتيرة أسرع مما توقعت واشنطن: إذ ارتفع عدد الرؤوس الحربية التشغيلية من 300 إلى 600 في غضون خمس سنوات فقط، مع تقديرات بأن يصل العدد إلى 1000 بحلول 2030، وربما 1500 بحلول 2035.
من هنا، تحتاج الولايات المتحدة إلى التفاهم مع روسيا للعودة إلى هذه الاتفاقيات، أو صياغة أخرى جديدة، مع محاولة إدماج الصين فيها للحد من قوتها المتنامية بلا ضوابط.
تمثل سيبيريا والشرق الأقصى الروسي أمل روسيا في التطور الاقتصادي، وفي الوقت نفسه فرصة مثالية للاقتصاد الأمريكي. كانت موسكو تعوّل على أوروبا للقيام بهذا الدور، لكن بعد فشل مساعيها في تقاسم النفوذ معها، ترى واشنطن أنها تملك فرصة لاختراق هذه الأراضي الغنية بالموارد الطبيعية التي تعجز موسكو عن استغلالها وحدها؛ لضعفها التكنولوجي، وافتقارها إلى رؤوس أموال كافية، فالشرق الأقصى وسيبيريا يحتويان على نحو 70% من موارد روسيا، ومنها المعادن، والثروات البحرية، والفحم، والغابات. كما أن أكثر من 75% من احتياطيات روسيا من المعادن النادرة موجودة هناك، ومع ذلك لم تُستغل بالكامل بعد. وتخطط موسكو لزيادة إنتاجها إلى 50 ألف طن سنويًّا بحلول 2030، من خلال تطوير حقول مثل تومتور ولوفوزيرسكي، ما قد يضعها في موقع عالمي متقدم كثاني أو ثالث أكبر منتج بعد الصين وأستراليا.
أخيرًا، تدخل الولايات المتحدة على خط “اللعبة الكبرى” في القطب الشمالي، التي تتمحور حول المعادن الحيوية، والممرات البحرية، والموارد الطبيعية، والتنقيب البحري، والاتصالات الفضائية. كما تشير ماري تومبسون- جونز (Mary thoMpson-jones)، في كتابها “أمريكا في القطب الشمالي: السياسة الخارجية والمنافسة في الشمال الذائب” (America in the Arctic: Foreign Policy and Competition in the Melting North)، الصادر عن دار نشر جامعة كولومبيا، 2024، فقد دخلت الصين اللعبة رغم افتقارها إلى أراضٍ قطبية، معلنة نفسها “دولة قريبة من القطب”، ومستخدمة التعاون العلمي منذ عام 2004 للتغلغل، ثم استغلت حرب أوكرانيا لتعزيز استثماراتها في مشروعات الغاز والبنية التحتية الروسية على طريق بحر الشمال، لتتحول من لاعب علمي ثانوي إلى شريك اقتصادي رئيس، وهذا ما يدفع واشنطن إلى التقارب مع موسكو من أجل الحد من التمدد الصيني في القطب الشمالي. كما يُفسِّر القلق الأمريكي رغبة ترمب في الاستحواذ على غرينلاند من الدنمارك؛ نظرًا إلى دورها المهم في معركة واشنطن مع بكين في القطب الشمالي.
روسيا بين ضغوط العقوبات وهواجس الناتو.. شروط موسكو لأمنها القومي
بحسب الباحث الروسي المتخصص في الشؤون الصينية ألكسندر غابويف (Alexander Gabuev)، يقف الاقتصاد الروسي اليوم عند مفترق طرق. فالعقوبات الغربية لم تُحدث الانهيار الفوري المتوقع، لكنها أفرزت تكاليف باهظة تمثلت في تبعية متزايدة للصين التي أصبحت تستحوذ على 30% من صادرات روسيا -ارتفاعًا من 14% فقط في عام 2021- وتوفّر 40% من وارداتها، مقارنة بـ24% قبل اندلاع الحرب، إلى جانب تراجع مستويات المعيشة داخل البلاد. يضاف إلى ذلك التراجع التقني الحاد؛ فبحسب فالنتين بارمون، نائب رئيس الأكاديمية الروسية للعلوم: “خلال السنوات الخمس الماضية فقط، فقدت روسيا خمسين ألف عالم ومتخصص تقني، وهو أكبر عدد تفقده أي دولة في العالم من الكفاءات التقنية.” ثم أضاف: “لا مجال للحديث عن السيادة التكنولوجية بعدما فقدنا أولئك الذين كان يمكنهم تحقيقها”.
مع استمرار العقوبات، وتراجع إيرادات الطاقة، وتباطؤ النمو، ترى موسكو أن رفع العقوبات أو تخفيفها يمثل أولوية قصوى لضمان الاستقرار الداخلي؛ ومن هنا تنظر القيادة الروسية إلى ترمب على أنه فرصة محتملة لدفع هذا المسار.
عندما تولى بوتين السلطة عام 2000، كان يطمح إلى تحالف مع أوروبا، لكن بعد رفضها عروضه، ودعمها أوكرانيا، يتجه اليوم نحو الولايات المتحدة للانتقام من أوروبا، وكسر المعادلة عن طريق إبعاد الناتو عن أوكرانيا.
إضافة إلى ذلك، يشكل شمال القوقاز المسلم في أغلبيته، ذو التاريخ الطويل في التمرد ضد موسكو، مصدر قلق دائمًا. أي ضعف في المركز الروسي مع وجود قوات للناتو في أوكرانيا أو جورجيا قد يمنح الغرب فرصة لدعم تمردات جديدة تهدد وحدة روسيا، وتحوّلها إلى دولة حبيسة رهينة للصين. ويزيد المخاوف مشاركة مقاتلين شيشان وقوقازيين إلى جانب أوكرانيا على أمل امتداد التمرد لاحقًا إلى الداخل الروسي.
ترى موسكو أن المخرج يكمن في صفقة مع واشنطن تضمن: رفع العقوبات أو تخفيفها، وتثبيت مكاسبها الإقليمية، وتحييد أوكرانيا عن الناتو، والحصول على اعتراف أمريكي بدورها كقوة أوراسية لا يمكن عزلها. هذه المطالب تُقدَّم بوصفها شروطًا لأمن روسيا القومي وضمان بقائها قوة كبرى في ظل تصاعد نفوذ الصين وأوروبا الموحدة.
الهواجس الأوروبية بين “حق الفتح” الروسي وأخطار النزعات الانفصالية
تعيش أوروبا اليوم حالة غير مسبوقة من الأزمات الداخلية العميقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ورغم الانقسامات البنيوية التي تطبع القارة، من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتباينات التاريخية في الرؤى بين لندن وباريس وبرلين، فإنها تجد نفسها مضطرة إلى تجاوز تلك التناقضات أمام ما تعدّه تهديدًا إستراتيجيًّا مشتركًا متمثلًا في روسيا، وخشيتها من عودتها قوة عظمى قادرة على التأثير في السياسات الأوروبية. وفي هذا الإطار، يتشكل ما يمكن تسميته “التحالف المناهض لروسيا”، الذي يضم دول أوروبا الغربية، إلى جانب معظم دول أوروبا الشرقية والبلطيق، مع استثناءات بارزة مثل المجر وسلوفاكيا.
الاعتراف بسيطرة روسيا على الأراضي التي ضمّتها، وفق ما يُعرف في القانون الدولي بـ”حق الفتح” (Right of conquest)، يثير لدى الأوروبيين هواجس العودة إلى مشهد ما قبل عام 1945، حين كانت القارة غارقة في صراعات حدودية متكررة وحروب متواصلة تغذيها النزعات الانفصالية. وتُعدّ هذه النزعات حاضرة اليوم في عدة مناطق، مثل: كاتالونيا، والباسك في إسبانيا، وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية في بريطانيا، والوالون والفلمنك في بلجيكا، والشمال وجنوب تيرول في إيطاليا، وكورسيكا في فرنسا، إضافة إلى المطالب المجرية التاريخية في أراضي الكاربات بغرب أوكرانيا وسلوفاكيا ورومانيا، وفويفودينا في شمال صربيا، فضلًا عن البلقان التي لا تزال حاضنة لتوترات قومية.
حصول روسيا على اعتراف رسمي بضم تلك الأراضي سيمنحها سيادة راسخة على البحرين الأسود وآزوف؛ ما يثير مخاوف أوروبية من تداعيات قد تصل إلى تفكك الاتحاد الأوروبي نفسه. كما قد يدفع بعض الدول، مثل بلدان البلطيق وبولندا والتشيك ورومانيا ومولدوفا وبلغاريا وألبانيا وغيرها، إلى التفكير في تحالفات خاصة، وربما حتى السعي إلى امتلاك قدرات نووية لضمان أمنها؛ لذلك تعمل أوروبا على كسب الوقت وتوسيع تحالفها الداعم لأوكرانيا عبر ما يُعرف بـ”تحالف الراغبين“، في حين تشاطرها القلق نفسه قوى غربية من خارج القارة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا؛ خشية أن يشجع أي اتفاق يمنح روسيا مكاسب إقليمية على خطوات مماثلة من جانب الصين، أو كوريا الشمالية في محيطها الإقليمي.
المأزق الدستوري والسياسي في أوكرانيا بين فقدان الشرعية وتعقيدات التسوية
تجد أوكرانيا نفسها اليوم في وضع بالغ التعقيد؛ فمن الناحية السياسية، لا تستطيع تحدي الولايات المتحدة في ظل ضعف مؤسساتها الداخلية، وهيمنة ترمب وفريقه المحتمل على قرارات السياسة الخارجية، في حين تفتقر أوروبا إلى القدرة على سد الفراغ الأمريكي على نحو منفرد. وفي المقابل، فإن القبول بالتنازل عن أراضٍ تعدّها كييف جزءًا من سيادتها الوطنية ليس قرارًا يسيرًا، إذ يفتح الباب أمام تساؤلات وجودية قد تتحول إلى أزمة داخلية، وربما إلى حرب أهلية. وتتمثل أبرز هذه التساؤلات في: لماذا خاضت أوكرانيا الحرب أصلًا؟ ألم يكن من الممكن القبول بما طُرح في مفاوضات مينسك وإسطنبول في فبراير (شباط) ومارس (آذار) 2022، بعد أيام قليلة من اندلاع الصراع؟ وما المقابل لكل التضحيات البشرية والاقتصادية إذا لم تؤدِّ الحرب إلى استعادة الأرض، أو إلى انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؟
يزيد الوضع الدستوري والقانوني تعقيد المشهد، فالرئيس الأوكراني انتهت ولايته منذ مايو (أيار) 2024، واستمراره في الحكم يستند فقط إلى حالة الأحكام العرفية التي تفرضها الحرب، والتي لا تسمح بإجراء انتخابات. وينص الدستور الأوكراني صراحة على حظر التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية، كما يوجد قانون يحظر على أي رئيس أوكراني التفاوض مباشرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ وبذلك فإن أي اتفاق تسوية يتضمن تغييرات إقليمية يحتاج إلى رئيس وبرلمان يتمتعان بشرعية انتخابية كاملة، فضلًا عن طرحه على استفتاء شعبي عام.
أما من الناحية العملية، فإن المضي في هذه الإجراءات يتطلب وقف الحرب وعودة البلاد إلى حالة القانون الطبيعي، وهو ما يستدعي إعادة ضبط سجلات الناخبين في الداخل والخارج، وتحديد وضع المناطق الأربع الخاضعة للسيطرة الروسية، وما إذا كانت ستُضمَّن في الاستفتاء أم تُستثنى منه. كما أن التحضير لاستفتاء شامل في هذه الظروف يستلزم وقتًا طويلًا، قد يتجاوز العامين، وربما أكثر، بالنظر إلى التعقيدات الدستورية والإدارية واللوجستية المرتبطة به.
تبدو قمة ألاسكا أقرب إلى محطة خاصة بالعلاقات الأمريكية- الروسية، إذ حُدِّدت خلالها مساحات الاتفاق والمصالح المشتركة، مقابل حصر القضايا الخلافية التي يتركز معظمها حول أوكرانيا. وقد انعكس ذلك في الاكتفاء ببيانات إيجابية عامة من الطرفين من دون إعلان نتائج ملموسة، وهو ما يعكس طبيعة المرحلة الراهنة.
يجد الرئيس بوتين في نهج ترمب القائم على الصفقات فرصة أفضل من النموذج الأمريكي التقليدي القائم على “النظام العالمي المبني على القواعد”، إذ يرى أن دعم ترمب يتيح له إضعاف هذا النظام والتحالف الغربي الليبرالي. ومع ذلك، يظل فهم ترمب للقضايا الدولية محدودًا نسبيًّا نظرًا إلى خلفيته العقارية، واعتماده على فريق ضيق يزوّده بما يرغب في سماعه، مما يجعله بطيء الاستيعاب للتعقيدات الإستراتيجية، وإن كان قد توصّل إلى قناعة بمدى صعوبة التوصل إلى تسوية سريعة للحرب، مع ضرورة إبقائها على جدول الأعمال.
الرهان الأمريكي على إعادة إنتاج “لعبة كيسنجر” من خلال اجتذاب روسيا لمعادلة موازنة ضد الصين يبدو غير واقعي، خصوصًا أن موسكو لم تعد معنية بهذه الصفقة بعد فوات أوانها. ومع ذلك، يبقى هناك مجال للتفاهم بشأن ملفات محددة، مثل وضع قيود على التطور العسكري الصيني، أو الحد من توسع نفوذ بكين في القطب الشمالي حيث تسعى روسيا إلى الحفاظ على هيمنتها التقليدية مع الغرب. كما يمكن أن يشكّل طريق البحر الشمالي (NSR) مجالًا للتعاون الروسي- الأمريكي، بما يوفر بديلًا للتجارة بين آسيا وأوروبا في ظل عزلة موسكو عن أوروبا الغربية.
قد تمهّد خطوات ترمب لمسار تهدئة مؤقتة، وفتح الباب أمام تعاون اقتصادي وإستراتيجي أوسع مع روسيا، مع تجنّب انخراط مباشر في الحرب الأوكرانية، وهو يسعى أن تتحمّل أوروبا الجزء الأكبر من تكاليف التسليح والدعم العسكري، بحيث تصبح الولايات المتحدة المورد لا الطرف المنخرط. في المقابل، ترى أوروبا أن أولويتها تكمن في منع حصول روسيا على أي اعتراف أمريكي بضم الأراضي، وكسب الوقت لإعادة تسليح أوكرانيا، وتطوير صناعاتها الدفاعية، إلى جانب البحث في خيار مظلة نووية أوروبية، أو جيش موحّد.
أمّا بوتين، فليس لديه أوهام بشأن التوصل إلى سلام شامل وفق شروطه في الوقت الراهن، لكنه يرى اللقاء فرصة لتأكيد نجاحه في كسر عزلة روسيا، والتقليل من شأن الدور الأوروبي، والإسراع في إضعاف الروابط التقليدية عبر الأطلسي. كما يسعى إلى تطوير علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة في مجالات حساسة، مثل المعادن النادرة، والتكنولوجيا المتقدمة، في حين يراهن على أن استمرار الحرب بالوتيرة الحالية لن يؤدي إلى حاجة روسيا إلى زيادة في الموارد البشرية أو الاقتصادية. ووفق التقدّم الحاصل حاليًا على الأرض، سيحقق انتصارات كبرى في نهاية عام 2026، وهو ما سيمنحه مزيدًا من القوة في التفاوض مستقبلًا. في المقابل، ستتجه أوروبا نحو مزيد من العسكرة وإنهاكها اقتصاديًّا، مع مشكلاتها التي باتت مزمنة بشأن البطالة والهجرة والهوية. وكردّ فعل على ذلك، ستشهد موجة صعود للتيارات الراديكالية إلى السلطة، من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وكلاهما يعارض الحرب والنزاع مع روسيا، ولديه تشكيك في الاتحاد الأوروبي في أفضل الأحوال؛ وعليه سيتفكك الاتحاد الأوروبي، عن طريق إعادة تشكيله كمنظمة اقتصادية محدودة الصلاحيات، أقرب إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC) التي نشأت عام 1958.
بالنسبة إلى أوكرانيا، يبدو الحدّ الأقصى المسموح به، وبصعوبة بالغة، للتنازل عنه من الأراضي، هو شبه جزيرة القرم، وبعض مناطق دونباس. أمّا فيما يتعلق بروسيا، فتبدو مسألة عدم الانضمام إلى حلف الناتو، والقرم، وإقليم دونباس بكامله، محسومة، مع امتلاكها طريقًا بريًّا تحت سيادتها يربط أراضيها بالقرم، وربما يمكن أن تقبل النقاش بشأن المناطق الأخرى إذا وُجدت مكتسبات تستحق ذلك.
في ضوء هذه التطورات، تبدو فرص السلام الحقيقي بين روسيا وأوكرانيا بعيدة المنال؛ فالمصالح المتعارضة، والرغبة في كسب الوقت، وتباين أولويات الأطراف الدولية، تجعل أي تهدئة مجرد محطة انتقالية في مسار طويل ومعقّد. وكما قال أنطونيو غرامشي: “الأزمة تكمن في أن القديم يموت، والجديد لم يولد بعد”. تختزل هذه العبارة حالة النظام الدولي اليوم؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة القطب الأوحد، ولا يبدو أنها تسعى إلى استعادة هذه القيادة المنفردة، في حين لم يتبلور بعد نظام بديل مستقر، فيما تستمر الصراعات والفوضى في تشكيل ملامح المستقبل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.