شهدت قاعدة “إلمندورف- ريتشاردسون” في ألاسكا، يوم 15 أغسطس (آب) 2025، أول لقاء مباشر بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين منذ اندلاع الصراع الروسي الأوكراني عام 2022. جاءت الصور والطقوس البروتوكولية لافتة: سجادة حمراء، مصافحات وكلمات ودّية، وحديث عن “التطلع إلى السلام”… لكن بلا اتفاق موقّع لوقف القتال. انتهاء القمة دون صفقة نهائية لم يمنعها من إعادة فتح مسار تفاوضي على أعلى مستوى، وتثبيت مجموعة من الأفكار التي توحي بأن التسوية ـإن حدثتـ ستكون “شاملة” أكثر منها هدنة مؤقتة. هذا المزيج من الرمزية والسياسة الواقعية هو الذي يحرّك النقاش اليوم حول فرص السلام وحدوده، وما إذا كانت القمة بداية طريق أو مجرد محطة تعزّز الأمر الواقع
على المستوى الأمريكي، تحوّل الخطاب من أولوية “وقف فوري لإطلاق النار” إلى الحديث عن “اتفاق سلام دائم” يُغني عن وقفٍ مؤقت قد ينهار سريعًا. هذا الانزياح في ترتيب الخطوات يُقارب الرؤية الروسية التي لطالما ربطت أي تهدئة بنتيجة سياسية نهائية، لا بتجميد تكتيكي للقتال. بالنسبة لموسكو، التجميد بلا تسوية يعادل هدنة تمنح كييف وقتًا لإعادة التسليح، في حين أن التسوية النهائية تعني تثبيت مكاسب ميدانية وترتيبات أمنية طويلة الأمد. في واشنطن، يَظهر الرهان على صفقةٍ “تُنهي الحرب” بدلًا من إدارة حربٍ بلا نهاية، ولو بكلفة سياسية داخلية.
أما جوهر المطروح غير المعلن رسميًّا بعد، فتشير تسريبات إلى ملامح “مقايضة صعبة”؛ إعادة روسية محدودة لبعض الجيوب التي يصعب الاحتفاظ بها، مقابل تنازل أوكراني عن مناطق أوسع شرقًا (داخل دونيتسك ولوغانسك)، مع تحصين وضع القرم كأمر واقع، وربط أي ترتيبات ميدانية بحزمة سياسية تشمل حياد كييف وامتناعها عن الانضمام إلى الناتو، وتخفيف انتقائي للعقوبات، وصيغة “ضمانات أمنية” غربية بديلة لعضوية الحلف. هذه البنود ـبصورتها المسربةـ بعيدة عن القبول الأوكراني، لكنها تعكس اتجاه النقاش، وموقع خطوطه الحمر.
أحد أكثر الملفات حساسية يتمثل في كيفية طمأنة أوكرانيا أمنيًّا إذا أُغلِق باب عضوية الناتو في أي تسوية. طُرحت خلال القمة وما بعدها أفكار عن “ضمانات على نمط الناتو” تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا لكييف: التزامات تسليحية واستخباراتية، ودفاع جوي، وتمويل مستدام، وربما تفاهمات دفاعية ثنائية أو متعددة، مع سقف ردع واضح. لا يعني ذلك “مادة خامسة” حرفيًّا؛ بل شبكة مُلزمة سياسيًّا وأخلاقيًّا، وقابلة للتحويل إلى إجراءات. قبول موسكو مبدئيًّا ببحث هذه الفكرة ـوفق ما نقله مبعوث أمريكيـ يمنحها وزنًا تفاوضيًّا أكبر، شريطة صياغة آليات تنفيذ لا تُفرغها من مضمونها.
كييف، الغائب الحاضر في قمة ألاسكا، سارعت إلى تثبيت معادلة واضحة: لا تنازل عن الأرض، لا اعتراف بأي ضمّ، لا حياد يُفرَض تحت السلاح. الرئيس فولوديمير زيلينسكي رفض علنًا عروض “الأرض مقابل السلام”، وذكّر بأن أي اتفاق يستمد شرعيته من الدستور والسيادة لا من ميزان القوّة وحده. في المقابل، كان هناك تواصل مباشر بين ترمب وزيلينسكي بعد القمة، تسرّبت عنه رسائل حادّة مفادها أنّ موسكو “تريد المزيد”، وأن على كييف “البحث عن صفقة”. هذا النوع من الرسائل يضيّق هامش المناورة أمام القيادة الأوكرانية داخليًّا، ويجعل كلفة أي تنازل -حتى لو كان تكتيكيًّاـ مرتفعة سياسيًّا وأخلاقيًّا.
القمة بدّلت أيضًا في منسوب الثقة الأوروبية بالقيادة الأمريكية في هذا الملف. مشاهد الاستقبال الحار لبوتين قرأتها عواصم أوروبية بوصفها “عودة سريعة إلى الواقعية” قد تُضعف جبهة الضغط على موسكو إن تحوّلت إلى تنازلات أحادية؛ لذلك تحرّكت باريس وبرلين ولندن لتنسيق موقف داعم لكييف عشية لقاء زيلينسكي- ترامب في واشنطن، مع تأكيد مطلبيْن: أمن أوكرانيا بضمانات ملموسة، وأي مسار تفاوضي يجب أن يمر عبر كييف لا فوقها. هذا التحرك يعكس رغبة أوروبية في البقاء داخل “غرفة القيادة” إذا بدأت ترتيبات ما بعد القتال بالاتّضاح.
الانطباع العام في الإعلام الغربي أنّ بوتين خرج بمكسب رمزي كبير: كسر للعزلة، استعادة موقع “الندّ” في صورة عالمية عالية التأثير، وتحوّل في ترتيب الأولويات الأمريكية أقرب إلى سردية الكرملين (سلام نهائي لا هدنة أولًا). في المقابل، بدا ترمب وقد صعد سقف وعوده قبل القمة، ثم اضطر إلى التراجع عمليًّا عن شرط “وقف النار الفوري”، ما فتح عليه انتقادات داخلية بأنه منح بوتين “شرعية مجانية” دون ثمن واضح. سياسيًّا، هذه حصيلة قصيرة المدى، أما في المدى المتوسط، فسيتوقف الحكم على نتائج ملموسة: صفقة متوازنة تقنع كييف وأوروبا ستُقرأ في واشنطن على أنها “براغماتية ناجحة”، أما مجرّد صور بلا مضمون فسوف ترتدّ على البيت الأبيض.
خطوط النزاع التي تعرقل أي اختراق سريع
مراقبة أممية متعددة المهام: بعثة مدنية عسكرية خفيفة قوامها خبرة الأمم المتحدة ومنظمات إقليمية، تُكلَّف بثلاث وظائف: التحقق من الالتزام بمعايير وقف إطلاق النار، إدارة نقاط الاحتكاك، وتوثيق الخروقات. لا نجاح لأي تفاهم من دون طرف ثالث يحظى بشرعية قانونية دولية.
ضمانات أمنية ملموسة: حزمة تسليحية، ودفاع جوي طويل الأمد، وقنوات استخبارات، وتدريب متقدّم للقوات الأوكرانية، مع “بنود طوارئ” تتيح زيادة الدعم تلقائيًّا عند الخرق. هذه العناصر تحلّ واقعيًّا مكان “مظلّة الناتو” الرسمية إذا تعذّرت سياسيًّا.
جدول زمني مرن ومحكوم بمؤشرات: التزام متدرّج يُربط بالإنجاز لا بالوقت: فتح ممرات إنسانية، وتبادل أسرى، وحماية منشآت الطاقة، ثم ملفات الوضع النهائي. كل مرحلة تُفتح فقط بعد تدقيق مستقل بالامتثال.
حوافز اقتصادية- مالية: صندوق دعم دولي لإعادة الإعمار والبنية التحتية الحيوية، يشتغل كسند “مكافأة التقدّم”؛ تتدفّق أمواله وفق مؤشرات امتثال قابلة للقياس، ما يجعل الكلفة السياسية للنكوص أعلى من كلفة الالتزام.
اتصالات إستراتيجية شفافة: خطوط ساخنة عسكرية- سياسية لمنع سوء التقدير، ومؤتمرات دورية تشرح للرأي العام ما أُنجز وما تعثّر؛ لأن الحرب تُكسب وتُخسر أيضًا في معركة السرديات.
إدارة التوازن بين الثوابت والانفتاح التكتيكي ستحدد مدى قدرة كييف على الاستفادة من المسار الجديد. الحفاظ على خطّيْ السيادة ووحدة الأرض لا يعني إغلاق الباب أمام ترتيبات عملية تُقلّص الخطر وتُعظّم قدرة الدولة على الصمود: قبول متدرّج لضمانات أمنية قوية بدلًا من عضوية سريعة في الناتو، وتفاهمات حدودية انتقالية تُدار برقابة دولية، وأولويات إنسانية واقتصادية تُترجم فورًا داخل المدن. كل ذلك من دون أي اعتراف قانوني بعمليات الضمّ، وبإستراتيجية قانونية- دبلوماسية تُبقي حقّ المطالبة قائمًا.
المعادلة الروسية واضحة في خطوطها الكبرى: حياد أوكراني، وترتيبات تمنع تحويلها إلى منصة عسكرية معادية، واعترافٌ ما ـمباشر أو غير مباشرـ بحدود نفوذ روسي شرقًا، مع تخفيف منظّم للعقوبات. أي تسوية لا تلبّي هذه العناصر ستُقرأ في موسكو على أنها مراوغة. هنا يكمن سبب تشدد الكرملين تجاه “وقف النار أولًا”: لا فائدة -في رؤيته- من هدنة تُطيل أمد الحرب وتضعف أثر الضغط العسكري على طاولة التفاوض.
على الطاولة ثلاث مكاسب محتملة: صورة “صانع الصفقات” الذي أعاد فتح قناة تفاوض جدّي، وخفض مخاطر التصعيد الأفقي للحرب (الطاقة، وسلاسل الإمداد، زأمن الغذاء)، وتكريس نموذج “ضمانات بديلة” يمنح واشنطن مقعد “المظلّة الواقعية” لأمن أوكرانيا وأوروبا من دون التزامات دفاع مشترك بحجم المادة الخامسة. لكن ربح هذه المكاسب مشروط بترجمة سريعة لأحد البنود العملية: تهدئة قابلة للقياس، صفقة تبادل أسرى كبيرة، أو حماية منشآت الطاقة قبل الشتاء. من دون ذلك، ستتحوّل القمة إلى سردية خصومة في الداخل: استعراض بلا مقابل.
1) مسار صفقة تدريجية: تفاهم سياسي على الإطار العام (ضمانات- حدود- اقتصاد) يتزامن مع تهدئة ميدانية تتوسع خطوة بخطوة. هذا المسار يحتاج إلى قيادة أمريكية نشطة، ووحدة أوروبية، واستعدادًا أوكرانيًّا لتفضيل المكاسب الأمنية- الاقتصادية الفورية على مكاسب رمزية مؤجلة.
2) تجميد بلا اتفاق: استمرار القتال بوتيرة متذبذبة مع قنوات مفتوحة، من دون قدرة على تجاوز عقدتيْ “الأرض” و”الناتو”. والنتيجة: استنزاف متبادل، وتآكل الثقة بالمسار السياسي.
3) انتكاسة وتصعيد: انهيار الاتصالات، أو خطوة ميدانية كبرى تُفجّر المسار، فتعود واشنطن وأوروبا إلى مربع العقوبات القصوى، وتسليح متسارع، وتستعيد موسكو خطاب “فرض الشروط بالقوة”. هذا السيناريو يظل ممكنًا ما دامت “الضمانات” غير متبلورة عمليًّا.
اللقاء المرتقب في البيت الأبيض هو “الاختبار الحاسم” لجدّية المسار: هل تنتقل أفكار القمة من العناوين إلى جداول أعمال بآجال قصيرة؟ ما شكل الضمانات التي ستقترحها واشنطن؟ إلى أي حدّ ستُشرك أوروبا في صياغتها وتمويلها؟ وما “المكافأة الأولى” التي يمكن تقديمها لأوكرانيا سريعًا لتأكيد صدقية المسار (حزمة دفاع جوي، تمويل بنية طاقة، صفقة أسرى واسعة)؟ إجابات هذه الأسئلة ستقرر إن كان المسار يسير نحو تسوية، أم يقف عند حدود “دبلوماسية الصور”.
القمة أعادت بوتين إلى واجهة المسرح الدولي بصورة “الندّ”، ودفعت ترمب إلى خيارات تفاوضية أكثر قربًا من المنطق الروسي: سلام نهائي بدلًا من هدنة أولًا. أوروبا رفعت درجة التحوّط، وكييف أعادت تثبيت خطوطها الحمراء. الخلاصة: العملية تتوقف على ثلاثة شروط:
من دون هذه الشروط سيبقى المسار أسير الصور والكلمات، ومعها فقط يمكن الانتقال من رمزية ألاسكا إلى السلام الممكن: سلام يوقف الموت اليوم قبل أن يكتب التاريخ غدًا كيف تشكّلت تسويةٌ تحفظ أمن أوروبا وسيادة أوكرانيا، وتضع حدودًا صلبة للاندفاعات الإمبراطورية في القرن الحادي والعشرين.
المصادر:
Summit puts Putin back on the global stage and Trump echoes a Kremlin position
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.