مقالات المركز

دلالات التوقيت ومحددات المكان في إعادة تشكيل هندسة الأمن الأوروبي

قمة ألاسكا بين ترمب وبوتين


  • 14 أغسطس 2025

شارك الموضوع

تأتي قمة ألاسكا بوصفها اختبارًا مباشرًا لإرادات القوى الكبرى في لحظة تتقاطع فيها حسابات الميدان مع إكراهات السياسة والاقتصاد. فالتوقيت ليس تفصيلًا بروتوكوليًّا؛ وإنما عنصرٌ حاكم في صياغة حدود الممكن زخم عملياتي روسي يسعى إلى تحويل المكاسب إلى عائد سياسي، وإدارة أمريكية تحتاج إلى مسار تهدئة مضبوط يُظهر قدرة على ضبط الحرب لا مراقبتها من بعيد، فيما تتوجّس أوروبا من أي ترتيبات تُفسَّر على أنها إقرار بتغيير حدودٍ بالقوة. هنا، التوقيت يضغط على الأطراف جميعًا للبحث عن صيغة هدنة قابلة للتمديد، مزوّدة بآليات تحقق لا تقتصر على النيات الحسنة، بل تقوم على قياسات ملموسة لوقف النار، وتبادل أسرى، وممرات إنسانية تحمي المدنيين، وتخفّف أثر الحرب في أسواق الطاقة وسلاسل الإمداد.

أما المكان، فاختياره في ألاسكا يرسل إشارة مركّبة أرض أمريكية تمنح واشنطن سيادة كاملة على المسرح الأمني والإعلامي، لكنها في الوقت نفسه قريبة رمزيًّا وجغرافيًّا من روسيا، بما يخفف وطأة “الاستدعاء” إلى العاصمة الأمريكية، ويُخرج الوسطاء الأوروبيين من مركز الصورة من دون إخراجهم من المعادلة. هذه الهندسة المكانية تمنح الولايات المتحدة “أفضلية تصميمية” في إيقاع الجلسة وترتيب سلال البحث، من وقف النار، وآليات المراقبة، إلى جدول الانخراط الأوكراني، وتُلزم موسكو بالتحاور تحت سقفٍ تفاوضي محدد، مع إبقاء الباب مفتوحًا لتدويل الضمانات لاحقًا إن لزم الأمر؛ وبذلك يصبح المكان جزءًا من الرسالة السياسية، لا غلافًا لها: مفاوضات تُدار مباشرة وبإيقاع أمريكي، من غير أن تبدو وكأنها إملاءٌ فوقي.

في هذا الإطار، تتبدى القمة محاولة لإعادة معايرة معادلة الردع/ الكلفة: كيف تُجمَّد خطوط التماس على نحو لا يشرعن الاستيلاء بالقوة، ولا يحوّل الهدنة إلى فرصة لإعادة التسليح؟ وكيف تُصاغ لغة قانونية دقيقة تُرضي مطلب كييف بالوكالة والقرار، وتخفف -في الوقت نفسه- قلق العواصم الأوروبية من تسويةٍ سريعة على حساب أمنها؟ الإجابة العملية لن تكون في الشعارات؛ بل في التفاصيل، وهي مدى الهدنة، وآليات التحقق، ونوع ضامنها، وإيقاع تبادل الأسرى والمساعدات، وتراتبية الملفات المؤجلة من العقوبات إلى ترتيبات الأمن الأوسع. هنا تحديدًا تتجاوز القمة منطق الصورة إلى منطق القياس؛ قياس ما إذا كانت الدبلوماسية قادرة على انتزاع مكسبٍ ملموس في بيئة تتغذى على الشك، أم أن الميدان سيستعيد زمام المبادرة لفرض جدول أعماله بالقوة. بهذه العدسة، تُقرأ قمة ألاسكا كلحظة ضغط قصوى تُحدِّد خط الأساس السياسي للأشهر المقبلة أكثر مما تعِد بحسمٍ نهائي للصراع.

 في مثل هذه البيئات، تميل الأطراف إلى صيغ “هدنة قابلة للتمديد” بمراجعات دورية، بدلًا من قفزات تسوية كبرى. ويفرض التوقيت أيضًا إدارة دقيقة للتوقعات: خفض علني لسقف النتائج لحماية هامش المناورة، مقابل تحضير تقني صامت لبنود قابلة للقياس، ووقف إطلاق نار قابل للتحقق، وخريطة فصل قوات، وأطر أولية للمساعدات، وتبادل الأسرى، تُبنى عليها جولة لاحقة أوسع.

اختيار ألاسكا ليس محايدًا؛ بل يكرّس إدارة أمريكية مباشرة للمشهد، ويُخرج أوروبا من مركز الوساطة من دون أن يُقصي مصالحها. الموقع يمنح واشنطن السيطرة الأمنية والإعلامية، ويبعث لموسكو إشارة “قرب رمزي” يخفف حساسية اللقاء داخل روسيا مقارنة بعقده في واشنطن، كما يحرر الإيقاع التفاوضي من حسابات العواصم الأوروبية المتباينة حيال حدود التسوية المقبولة. بهذه الهندسة المكانية، تصبح الولايات المتحدة ضابط الإيقاع والضمانات، فيما تُترك أبواب “تدويل” المراقبة مفتوحة لاحقًا إذا نضجت الحاجة.

تصميم أي وقفٍ للنار سيُختبر على أربعة محاور: التعريف الدقيق لخطوط التماس، و”المنعطفات الساخنة”، وآلية تحقق مختلطة تُنتج بيانات يومية قابلة للمراجعة العامّة، وقيود على نوعية ومدى النيران (مدفعية، مسيّرات، صواريخ تكتيكية) بما يمنع استغلال الهدنة لإعادة التموضع، وجداول زمنية لتبادل الأسرى والممرات الإنسانية، مرتبطة بمؤشرات أداء واضحة. كل بند يحتاج إلى “خط أحمر تشغيلي” يحدّد ما يُعدّ خرقًا جوهريًّا، وما يُعدّ حادثًا يُعالج محليًّا، لتفادي سقوط الهدنة بفعل احتكاكٍ تكتيكي.

مشكلة الالتزام الموثوق تبقى العقدة النظرية والعملية معًا: كل طرف يشك في نيات الآخر، وفي قدرة الضمانات على كبح الغشّ المؤجل. تُعالج هذه المعضلة بمبدأيْن: التدرّج والتبادلية. أي خطوة ميدانية صغيرة تقابلها خطوة اقتصادية/ سياسية محدودة، ضمن سلم واضح للسحب والإضافة يمنع  أسر الطرفين في ترتيبات لا يمكن الرجوع عنها. هنا يبرز دور لغة الصكّ أكثر من العناوين العامة: مصفوفات إجراءات، وجداول مراجعة، وآليات فصل نزاعات لا تُحوّل كل حادث إلى أزمة.

وكالة كييف وموقع أوروبا عاملان محدِّدان لمساحة المناورة. من دون إدماج مؤسّس لأوكرانيا في الجولة التالية واعترافٍ بلغة “لا قرارات من دون الطرف المعني”، سيتعرّض أي تقدّمٍ أولي لتآكلٍ سياسي وإعلامي في الغرب. أوروبا تحتاج إلى طمأنةٍ مزدوجة ألّا تُختزل القارة إلى “مُتلقٍ” لتفاهمات ثنائية، وألّا تخرج القمة برسائل يمكن تأويلها على أنها شرعنة لتغيير الحدود بالقوة. هذا يفرض صياغةً دقيقة لأي إشارة تتصل بالحدود، وترتيبًا واضحًا لدور بروكسل في تمويل آليات المراقبة والدعم الإنساني.

اقتصاد الحرب يضغط على مفردات السلام. الهدنة إن تقررت يجب أن تعالج قناة المخاطر في أسواق الطاقة والشحن والتأمين، لا سيّما من خلال خفضٍ محسوب للمخاطر الجيوسياسية على طرق التوريد وسلاسل الإمداد. أدوات مثل تخفيف انتقائي لبعض القيود غير الجوهرية، أو تسهيلات إنسانية- تجارية محدودة، قد تُستخدم كـ”حوافز جسرية” من دون المسّ ببنية الردع الأساسية. المعيار هنا ليس الرخاوة؛ بل قابلية العوائد الاقتصادية السريعة للقياس بما يُقنع الفاعلين الداخليين في العواصم المعنية بأن كلفة التهدئة أقل من كلفة الدوران في الحلقة نفسها.

المعادلة العسكرية التقنية ستنعكس مباشرة على استدامة أي هدنة. إدخال قدرات بعيدة المدى، أو تحديث الدفاعات الجوية، يغيّر بنية الأخطار على خطوط التماس، ويؤثر في حسابات الاختراقات المحلية ومحاولات “اختبار” نظام المراقبة؛ لذلك يحتاج أي وقف نار إلى بنود تفصيلية بشأن القيود النوعية، وسلال تبادل معلومات تقنيّة تقلّص غموض النيات التشغيلية، وإلا تحوّل وقف النار إلى استراحة لإعادة الضبط، لا إلى منصة لخفضٍ مستدام للتصعيد.

تظل معركة السرديات إطارًا حاكمًا للجدوى السياسية؛ فتسويق “سلام بشروط الخصم” غير ممكن، وتسويق “نصر بلا مكاسب ملموسة” كذلك؛ لذلك ستتجه الأطراف إلى بناء رواية وسط تُظهر الهدنة على أنها إطار لالتقاط الأنفاس الإنسانية والاقتصادية، مع الاحتفاظ بمقاربات القوة والوكالة السياسية. نجاح هذه الرواية يعتمد على تفاصيل شفافة قابلة للتدقيق العام: عدد أيام الالتزام، وحجم الخروقات، ووتيرة تبادل الأسرى، ومؤشرات تحسّن وصول المساعدات، أكثر مما يعتمد على اللغة الخطابية.

وأخيرًا، سيقاس مردود القمة بقدرتها على تحويل جسّ النبض إلى عمليةٍ مهيكلة ذات تقويم واضح، ونقاط تحقّق قصيرة المدى، وممر مؤسسي إلى جولة لاحقة تُدرَج فيها المسائل السيادية والاقتصادية الثقيلة. المؤشرات المبكرة تشمل: وضوح تعريف الخروقات وآلية التحقق، وذكر توقيتٍ محدّد لإشراك كييف في صيغة ثلاثية، ونطاق أي تخفيف إنساني لوجستي يمكن قياسه سريعًا على الأرض.

الاستنتاجات

التوقيت والمكان يحددان سقف النتائج: لقاء ألاسكا لا يصنع سلامًا نهائيًّا، لكنه قادر على تثبيت هدنة قابلة للتمديد إذا جاءت بشروط قابلة للتحقق، وبضمانات واضحة. أي قراءة لا تنطلق من هذه الثنائية ستخطئ تقدير ما يمكن استخلاصه سياسيًّا وعسكريًّا.

المعيار الحقيقي لجدوى القمة هو القدرة على إنتاج آلية مراقبة صلبة لوقف النار: تعريف واضح لخطوط التماس، رصد يومي معلن، وسلّم استجابة للخروقات يمنع انهيار الهدنة عند أول احتكاك. من دون هذه البنية التقنية، ستتحول الهدنة إلى استراحة لإعادة التموضع لا إلى مسار لخفض التصعيد.

الإدماج المنهجي لأوكرانيا في الجولة التالية ضرورة شرعية وعملية معًا. تجاهل مبدأ “لا قرارات من دون الطرف المعني” سيعني تآكل الغطاء الأوروبي والأمريكي الداخلي لأي تفاهم، مهما بدا مغريًا على الورق.

لغة الحدود يجب أن تُصاغ بحذر شديد. أي تلميح لمقايضات جغرافية سيفتح كلفة سياسية وقانونية عالية في أوروبا، ويضعف قابلية الالتزام داخل كييف، ويحوّل المكسب التكتيكي إلى عبء إستراتيجي.

المعادلة الاقتصادية جزء من الضمانات: تخفيف محسوب للأخطار في الطاقة والشحن والتأمين يمكن أن يكون الحافز الجسري لاستدامة التهدئة، من دون المساس ببنية الردع. نتائج تُقاس سريعًا بالمؤشرات لا بالشعارات: استقرار الأسعار، وانخفاض أقساط التأمين، وتراجع التعطل اللوجستي.

التدرج والتبادلية هما صمام الأمان. كل خطوة ميدانية صغيرة تقابلها خطوة سياسية أو اقتصادية محدودة، مع آلية “ارتداد” تلقائي عند الإخلال، ما يمنع أسر الأطراف في ترتيبات لا يمكن الرجوع عنها، أو استغلالها.

اختيار ألاسكا يكرّس إدارة أمريكية مباشرة، ويُقصي ضوضاء الوسطاء، لكنه يحمّل واشنطن مسؤولية ضبط الإيقاع والضمانات. الفشل هنا لن يُحسب على “طبيعة الصراع” فقط، بل على تصميم المسار وآلياته.

ما سيُحسب للقمة أو عليها لن يكون البيانات العامة، بل التفاصيل التي تعيش اليوم التالي: مدة الهدنة، وسرعة فتح الممرات الإنسانية، ووتيرة تبادل الأسرى، وحجم الخروقات المقاسة. إن ظهرت هذه المؤشرات إيجابية ومعلنة، يُبنى عليها مسار، وإن غابت يعود الميدان إلى فرض جدول أعماله بالقوة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع