رغم عدم صدور بيان يعلن نهاية الحرب في أوكرانيا، فإن “قمة ألاسكا” التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترمب، يوم الجمعة الماضية، كانت “قمة تاريخية”؛ لأنها -ببساطة- رسمت “خريطة طريق” ليس فقط لوقف الحرب في أوكرانيا؛ بل لإعادة السلام والاستقرار إلى العالم، وتحويل سيناريو وقف الحرب وإحلال السلام في أوكرانيا إلى “نموذج مستقبلي” للعمل به، والبناء عليه لحل الصراعات الأخرى في المنطقة وخارجها، خصوصًا في جورجيا، ومولدوفا، وبحر البلطيق، والقطب الشمالي، وحتى في تايوان، وجنوب شرق آسيا.
من حق أنصار روسيا الاحتفال والاحتفاء بمكان القمة ومضمونها ومخرجاتها؛ فالقمة جاءت حسب المواصفات الروسية التي تقول دائمًا إن الولايات المتحدة وروسيا حاربتا -على مدار التاريخ- المتطرفين، وإن الشعبين الأمريكي والروسي جاران في المحيط الهادئ والقطب الشمالي، ولا يفصل بينهما سوى 89 كم في مضيق بيرينغ؛ ولهذا لم يأتِ حديث الرئيس بوتين عن بقاء الميراث الروسي وتجذره في ألاسكا من فراغ، وإشارته الواضحة إلى “شراكة الدم” بين الشعبين الأمريكي والروسي عندما شارك الطيارون السوفيت نظراءهم الأمريكيين الحرب على النازية في الحرب العالمية الثانية. ولا تزال أجساد هؤلاء الطيارين الأمريكيين والسوفيت تتجاور في ولاية ألاسكا، التي فضل القيصر الروسي ألكسندر الثاني تأجيرها للولايات المتحدة بدلًا من بريطانيا.
الرسالة الواضحة التي أرسلتها “قمة ألاسكا” هي عدم وجود أي توجه روسي أو أمريكي لفرض “حلول ثنائية” على أوكرانيا والأوروبيين. وتحدث الرئيس بوتين -بوضوح- بأن روسيا تنظر إلى الشعب الأوكراني بوصفه “شعبًا شقيقًا”، وتأكيد ترمب -أكثر من مرة- أنه “لا يتفاوض نيابة عن أوكرانيا”. من هنا، حرص الرئيس ترمب -في بداية القمة- على تحويل “اللقاء الثنائي” مع الرئيس بوتين إلى صيغة (3+3)، ثم حديث ترمب الطويل من الطائرة الرئاسية “إير فورس وان” ساعة ونصف الساعة مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وقادة أوروبا وحلف “الناتو”، والاتفاق على قمة أمريكية أوكرانية في البيت الأبيض يوم الاثنين المقبل. كل ذلك يؤكد أن أوكرانيا والأوروبيين وحلف “الناتو” على اطلاع ومعرفة كاملة “بالمقاربة الأمريكية” التي طرحها المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف في لقائه الخامس مع الرئيس بوتين بداية هذا الشهر، والتي كانت أساس المفاوضات في قاعدة “إلمندورف- ريتشاردسون” الجوية بين فريقي ترمب وبوتين، وكل هذا يبشر بأن السلام في أوكرانيا بات في “متناول اليد”، خصوصًا مع تأكيد الرئيس بوتين لنظيره الأمريكي أنه لا يريد مجرد وقف للحرب؛ بل يريد “اتفاقية سلام شاملة” تحل وتنهي جذور المشكلة التي بدأت مع ما يسمى بالثورة البرتقالية عام 2005، وتفجرت بعد طرد الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش من منصبه عام 2014.
فما المكاسب التي سوف يجنيها الشعبان الروسي والأوكراني من هذه القمة؟ وكيف تساعد مخرجات قمة “ألاسكا” على تحقيق الاستقرار الإستراتيجي، وتبريد الصراعات، وتهدئة التوترات في العالم؟ وما الثمار التي ينتظرها الرئيس ترمب والأوروبيون من تلك القمة؟
أكثر ما دفع أنصار روسيا إلى الاحتفال “بقمة ألاسكا” أنها أكدت الرواية والسردية الروسية عن هذه الحرب، وأن الحرب في أوكرانيا لم تبدأ في فبراير (شباط) 2022، بل قبل ذلك بكثير؛ عندما تعهد حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) عام 2008 بضم جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف الأطلسي. ويرى الروس كثيرًا من المكاسب في “قمة ألاسكا”، لعل أبرزها:
يرى أنصار روسيا أن استقبال الرئيس ترمب نظيره الروسي على الأراضي الأمريكية، والاحتفاء به في قاعدة جوية، تأكيد لفشل الغرب، ونحو 50 دولة تحالفت مع أوكرانيا، في “هزيمة روسيا إستراتيجيًّا”، وهو الهدف الذي راهن عليه، وظل يردده حلف “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية طوال شهور الحرب. وعدم هزيمة روسيا إستراتيجيًّا يعني انتصارها في الميدان، حتى لو كان الانتصار “بالنقاط”، وليس “بالضربة القاضية”.
راهنت الإدارة الأمريكية السابقة، والدول الأوروبية ودول حلف “الناتو”، ودول أخرى في آسيا، مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، على “عزل” روسيا في الساحة الدولية، وانزعجت هذه الدول كثيرًا عندما كان زعيم من أوروبا الشرقية يزور موسكو. لكن بعد الترحيب الكبير بالرئيس بوتين في ألاسكا، ومشهد استقبال الرئيس ترمب نظيره الروسي عند سلم الطائرة في مدينة “أنكوريج”، وجلوس الرئيسين في سيارة واحدة، هي سيارة الرئاسة الأمريكية “الوحش”، كل ذلك يؤكد أن مسار عزل روسيا فشل تمامًا منذ فبراير (شباط) 2022.
كل المؤشرات تؤكد أن أوكرانيا والأوروبيين والولايات المتحدة في طريقهم إلى القبول “بمقاربة سياسية” ليست بعيدة عن المطالب الروسية الرئيسة لاستعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم، و4 مقاطعات أخرى، هي خيرسون، وزابوروجيا، ولوغانسك ودونيتسك. فبينما تطالب روسيا باستعادة المقاطعات الأربع بحدودها الإدارية شرق نهر دنيبرو، يقوم “الطرح الأمريكي” على منح روسيا كل الأراضي التي وصلت إليها “أقدام الجنود الروس”، لكن باقي الأراضي في المقاطعات الأربع التي تحت سيطرة الجيش الأوكراني تظل تحت سيطرة أوكرانيا، أو تتحول إلى “منطقة عازلة” بين الجانبين. وكل هذا يؤكد نجاح الرئيس الروسي في شرح موقف بلاده في قمة ألاسكا، فضلًا عن اتفاق ترمب مع بوتين في موقفه باستحالة انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”. وبدلاً من ذلك، هناك طرح لمنع دخول أوكرانيا “الحلف الأطلسي” لمدة 20 عامًا على الأقل، مع منح أوكرانيا “ضمانات أمنية” خارج حلف “الناتو” تشبه الضمانات التي حصلت عليها أوكرانيا وبيلاروس وكازاخستان مقابل التخلي عن الأسلحة النووية في مذكرة بودابست التي وُقِّعت في 5 ديسمبر (كانون الأول) 1994.
الاتفاق المطروح على الطاولة يحقق لأوكرانيا كثيرًا من المزايا والمكاسب، خاصةً مع توقف الدعم العسكري الأمريكي، واستحالة تعويض الأوروبيين نقص توريد السلاح والذخيرة الأمريكية إلى الجبهة الأوكرانية. وتزامن هذا وذاك مع تقدم ميداني ثابت للقوات الروسية على مختلف جبهات القتال، وتأكد الغرب من استحالة انتصار أوكرانيا. وهذه المزايا تتلخص في بقاء الدولة الأوكرانية وعاصمتها كييف، وحقها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتطبيق المعايير الغربية التي يؤمن بها أنصار كييف في الوقت الحالي، ودعم أوكرانيا وإعادة إعمارها بمشروعات تشبه مشروعات مارشال، بما يجعلها تبدأ مسيرة من الحياة المزدهرة في سلام ورخاء مع جيرانها، وفي المقدمة منهم الجار الروسي.
يتحرك الرئيس ترمب نحو وقف الحرب في أوكرانيا، والتوصل إلى اتفاقية سلام بفهم ووعي كبير للمصالح الأمريكية. ففي البداية، أوقف ترمب أي خطط لتزويد أوكرانيا بمزيد من الذخيرة والسلاح الأمريكية حتى لا تستنزف مخازن السلاح الأمريكية، ثم بعد ذلك تعامل بواقعية كاملة مع تفاصيل الصراع، بما سمح له في النهاية أن يقود هذه الجهود نحو وقف الحرب، الذي يمكن أن يحقق للولايات المتحدة عددًا من المكاسب، منها:
أولًا- مكاسب اقتصادية
وقف الحرب في أوكرانيا يسمح للرئيس ترمب باسترداد ما يقول إنها 350 مليار دولار قدمتها بلاده لأوكرانيا طوال سنوات الحرب. وبعد وقف الحرب، يستطيع ترمب الحصول على “المعادن النادرة” وفق الاتفاق الذي وقعه مع أوكرانيا في 30 أبريل (نيسان) الماضي. كما أن ترمب يستطيع أن يتعاقد مع روسيا على شراء “مادة الليثيوم” التي تدخل في صناعة البطاريات الكهربائية والأقمار الصناعية، وهي من المعادن النادرة التي توجد بكثرة في المناطق الخاضعة لروسيا في المقاطعات الأربع: خيرسون وزاباروجيا ولوغانسك ودونيتسك. ويسعى ترمب إلى التخلص من القيود الصينية في تصدير المعادن النادرة عندما يتعاقد على كميات ضخمة من تلك المعادن الموجودة في سيبيريا الروسية؛ ولهذا كان لافتًا أن يصاحب الرئيسين في القمة عدد من مسؤولي الاقتصاد، مثل وزير المالية الأمريكية، ومدير صندوق الاستثمار الروسي.
ثانيًا- مكاسب إستراتيجية
تبريد الجبهة بين الغرب وروسيا هو أكثر المكاسب الإستراتيجية التي يسعى إليها الرئيس ترمب حتى يتفرغ للجبهة الآسيوية مع الصين. ويأمل البيت الأبيض أن تساعد “قمة ألاسكا” في إنجاز عدد من الملفات الإستراتيجية، منها:
وهي الاتفاقية الخاصة بمنع “إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا”، ووقعها الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، والأمريكي رونالد ريغان في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1987، وانسحبت منها روسيا والولايات المتحدة في أغسطس (آب) 2019. والعودة إلى هذه الاتفاقية ستكون مكسبًا كبيرًا للاستقرار العالمي، وخصوصًا في أوروبا، حيث تنص هذه الاتفاقية على منع نشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة التي تحمل رؤوسًا نووية في أوروبا، وهي الصواريخ الموجهة نحو العواصم الأوروبية مثل برلين، وباريس، ولندن.
وقعت كل من روسيا والولايات المتحدة و30 دولة أخرى على اتفاقية “السماء المفتوحة” عام 2002، التي تسمح للطائرات غير المسلحة بالتحليق في أجواء الدول الأخرى، وهو ما كان يحقق أكبر قدر من الشفافية والرقابة المتبادلة. لكن الولايات المتحدة انسحبت منها في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وتبعتها روسيا في ديسمبر (كانون الأول) 2021. والعودة إلى هذه الاتفاقية ستكون عودة للثقة المتبادلة، ونهاية للقناعات الخاطئة التي حكمت سياسات كل من الطرفين تجاه الآخر خلال السنوات الثلاث الماضية.
أكثر من دفع ثمن الحرب في أوكرانيا كانت الدول الأوروبية، سواء بتحولها نحو شراء الغاز المسال الأعلى سعرًا من الولايات المتحدة بدلًا من روسيا، أو توريد كل ما لديها من أسلحة وذخيرة إلى أوكرانيا. ووقف الحرب في أوكرانيا سوف يرفع عبئًا ثقيلًا عن كاهل المواطنين والحكومات الأوروبية، ويمكن أن تستفيد الدول الأوروبية من مليارات الدولارات التي خصصتها للجبهة الأوكرانية لدعم مشروعات الرعاية الاجتماعية وخدماتها التي تميزت بها أوروبا طوال العقود الخمس الماضية.
المؤكد أن “قمة ألاسكا” تمثل بداية لتحسين العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا بما يسمح بمعالجة كل القضايا المتراكمة، ومنها الحرب في أوكرانيا، وهو ما يجعل “قمة ألاسكا” قمة تاريخية بالفعل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.