يعد الاقتصاد الروسي في الوقت الراهن أحد أكثر الاقتصادات العالمية إثارةً للجدل؛ نظرًا إلى التحديات المعقدة التي يواجهها على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد تصاعد الاهتمام الدولي به عقب قرار البنك المركزي الروسي الأخير ثبيت سعر الفائدة عند 21%، والإبقاء على الباب مفتوحًا أمام احتمال رفعه مستقبلًا إذا ما ظلت الضغوط التضخمية أعلى من المستوى المستهدف، أو إذا برزت تحديات اقتصادية جديدة في الأفق. ولعل تلك الخطوة، التي جاءت بعد سلسلة من الزيادات التي شهدتها النصف الثاني من عام 2024، تعبر عن رغبة جادّة في لجم التضخم، وضمان استقرار الروبل، مع إدراك كامل لما ينطوي عليه ذلك من انعكاسات قد تطول النمو الاقتصادي بمختلف قطاعاته.
يشعر كثير من المراقبين، محليًّا ودوليًّا، بالقلق حيال هذا القرار؛ إذ ينذر بضغوط متزايدة على المؤسسات المالية والشركات والمستهلكين على حد سواء. غير أن القراءة المتأنية لتاريخ السياسة النقدية في روسيا، واستعراض الظروف السياسية والجيوسياسية الخاصة بها، يؤكدان أن خط الدفاع الأول للحكومة الروسية عندما يعلو صوت التضخم، وتتذبذب أسواق الصرف، يبقى رفع سعر الفائدة أو تثبيته عند مستوى عالٍ مدة مطوّلة. وما يميز هذا المنعطف الاقتصادي هو تراكم مجموعة كبيرة من العوامل المتداخلة: العقوبات الغربية المتصاعدة، والحرب في أوكرانيا، والتراجع النسبي في إيرادات قطاع الطاقة، إضافة إلى معضلات بنيوية تتعلق بالإنتاجية، وسوق العمل، وحركة رؤوس الأموال.
تقف روسيا اليوم عند مفترق اقتصادي حرج؛ إذ ترتفع أصواتٌ تطالب بدعم النمو والاستثمار، فيما تنادي أصوات أخرى بضرورة الإبقاء على قبضة نقدية صارمة لمحاربة التضخم، وحماية قيمة الروبل. وفي خضم هذه المعادلة الصعبة، يبرز البنك المركزي الروسي حارسًا قويًّا للسياسة النقدية، متحمّلًا عبئًا مضاعفًا نتيجة سعيه الحثيث إلى تحقيق هدف تضخم منخفض ومستقر يحوم حول 4% بحلول عام 2026، مع ضرورة تفادي أي انهيار محتمل للطلب المحلي، أو تدهور مفاجئ في سعر الصرف. ومع ذلك، يبقى التحدي الأساسي متمثلًا في كيفية إدارة هذه السياسة النقدية الصارمة من دون إلحاق أضرار بالغة بالقطاعات الإنتاجية والخدماتية، أو التسبب في ركود يعيد البلاد خطوات إلى الوراء.
إن قرار تثبيت سعر الفائدة عند مستوى 21%، الصادر في شهر مارس (آذار) من عام 2025، ليس وليد اللحظة؛ بل جاء استمرارًا لتوجهٍ بدأ منذ منتصف عام 2024، عندما كانت نسب التضخم تتجاوز 10% سنويًّا، وكانت آفاق ترويضها ضبابية في ظل التوترات الجيوسياسية. ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2024، اتخذ البنك المركزي قرارًا جريئًا برفع الفائدة إلى 21%، بعد سنوات لم تشهد فيها روسيا هذه النسبة. ومع أن هذه الخطوة ساعدت نسبيًّا في السيطرة على انفلات الأسعار، وكبحت بعض التحركات المضارِبة في سوق الصرف، فإنها خلّفت عواقب ملحوظة على وتيرة نمو الناتج المحلي الإجمالي، وعلى ميزانيات الأسر والشركات التي واجهت تكاليف تمويل أعلى.
ولأن أي فهم شامل لهذه التحولات النقدية لا يكتمل من دون ربطها بالبنية الهيكلية للاقتصاد الروسي، فإن التقارير الأخيرة الصادرة عن وكالات رسمية كثيرة عكست توجهًا متسارعًا نحو تضخم حجم الإنفاق الحكومي على القطاعين العسكري والأمني. هذا التوجه وإن دعم الناتج المحلي الإجمالي اسميًّا، فإنه يطرح تساؤلات جدية عن مدى استدامته، خاصة إذا ما اقترن بانكماش في قطاعات أخرى، كالتجارة الداخلية، والرعاية الصحية، والتعليم. وليس بخافٍ أن هذه التشوهات الهيكلية في توزيع الموارد ما زالت من أبرز معوقات النمو المتوازن، فضلًا عن تداعياتها الاجتماعية التي تتكشف في تراجع الخدمات الأساسية، وارتفاع معدل الفقر في بعض المناطق.
مع أن الحكومة الروسية ترى في هذه السياسة النقدية الصارمة ضرورة لإنقاذ اقتصادها من مطبات أشد قسوة، فإن هناك من يصفها بالحل الوقتي الذي قد يزيد عمق الأزمة لاحقًا ما لم تتوازى معه إصلاحات اقتصادية جذرية. ومن هذه الإصلاحات المطلوبة تعزيز القدرة الإنتاجية في القطاعات غير النفطية، واستقطاب التكنولوجيا المتطورة، وتنويع مصادر الدخل القومي، وتخفيض الاعتماد على الواردات في السلع الإستراتيجية، لكن تلك الإصلاحات تواجه معضلة كبرى في ظل العقوبات المفروضة من الدول الغربية، وحالة اللا يقين الناجمة عن استمرار النزاع الأوكراني.
ويرى بعض المراقبين أن رفع سعر الفائدة، أو في هذه الحالة الإبقاء عليه عند 21%، قد يخدم بالفعل هدف تحقيق استقرار سعري مؤقت، لكنه في الوقت نفسه يعوق الاستثمار، ويكبح الطلب المحلي، ويلقي بأعباء شديدة على قطاع الإسكان والتشييد، حيث ترتفع تكلفة الرهون العقارية، وتزيد صعوبة حصول الأفراد على قروض سكنية. يذكّرنا هذا المشهد -إلى حد كبير- بمحطات سابقة في تاريخ روسيا الاقتصادي، حينما اتُّخذت إجراءات نقدية صارمة لمواجهة تضخم جامح تزامن مع أزمات مختلفة، لكن انعكاساتها على معدلات النمو والرفاه الاجتماعي كانت متفاوتة.
ولطالما مثّل التضخم خطرًا داهمًا على الاستقرار النقدي في روسيا، خاصةً في العقود الثلاثة الأخيرة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، فخلال سنوات التسعينيات وبدايات الألفية، اجتهدت السلطات في الحفاظ على مستوى معقول من الأسعار من خلال التدخل في سوق الصرف، واستخدام أدوات أخرى غير تقليدية، لكن المرحلة الحالية تختلف بتشابكها مع عالم من العولمة الأكثر تعقيدًا، وسياسات عقابية تعرقل تدفق السلع ورؤوس الأموال، وتفرض على روسيا توجيه تجارتها نحو أسواق جديدة، كالصين، والهند، ودول أخرى.
ومن ناحية العملة الوطنية، أي الروبل، فقد أصبح الاهتمام بسعر الصرف من المسائل الملحة التي ينشغل بها البنك المركزي والحكومة على حد سواء؛ فاستقرار الروبل ظاهريًّا يخفف جزئيًّا وطأة التضخم المستورد، ويعطي ثقة للسوق المحلية، لكنه قد يضر أيضًا بمصالح بعض المصدّرين الروس الذين يستفيدون من عملة وطنية أضعف. وفي هذا السياق، يشير نائب محافظ البنك المركزي أليكسي زابوتكين إلى أن التحسن في شروط التجارة الخارجية يجب أن يُترجم إلى انخفاض متواصل في تكاليف الواردات، وزيادة في الصادرات لتعزيز الاحتياطيات بالعملات الأجنبية، وإلا فإن أي ارتفاع طارئ للروبل قد ينقلب رأسًا على عقب.
ولئن كانت سياسة التثبيت عند 21% تستهدف استقرار الأسعار، فإن ثمة تبعات لا يمكن إغفالها على النمو، فالتقديرات الأولى للبنك المركزي نفسه تشير إلى أن معدل النمو الاقتصادي قد يتراجع إلى ما بين 1% و2% في عام 2025، مقابل 4.1% في العام السابق. صحيحٌ أن الحكومة تقول إن بإمكان الاقتصاد الروسي تحقيق نمو يقارب 2.5%، لكن تباين التوقعات هذا يعكس الفجوة بين النظرة المحافظة للسلطات النقدية والنهج المتفائل نسبيًّا للسلطات التنفيذية. ومعظم الخبراء يرون أن التحول الحاصل في بنية الاقتصاد نحو زيادة وزن القطاع العسكري وتضخم الجهاز الإداري قد يحدّ فعالية أي تحفيز مالي أو نقدي في المدى المتوسط.
عند الحديث عن سوق الائتمان والطلب المحلي، تظهر نتائج مباشرة للسياسة المتشددة، إذ انخفض نمو الائتمان انخفاضًا ملحوظًا، وبات كثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة غير قادرة على تحمل تكاليف الإقراض المرتفعة؛ ما أسهم في تقلص خطط التوسّع والاستثمار. وعلى المستوى الاستهلاكي، أصبح الأفراد أكثر حذرًا في الاقتراض، مفضلين الادخار أو الترقب لعل الفائدة تنخفض، أو السوق تتحسن. هذا السلوك يترك أثره الفوري في دورة الاستهلاك والإنتاج؛ فيضعف الطلب الكلي ويبطئ وتيرة الانتعاش. وتأتي هذه العوامل في وقت لا يزال فيه الاقتصاد الروسي يعاني قيودًا مفروضة على حركة رؤوس الأموال، وتناقصًا في فرص جذب استثمارات أجنبية مباشرة؛ ما يُعقّد أي محاولات للتعويض عن انحسار الإقراض الداخلي.
بالتوازي مع هذه التطورات، يعيش قطاع البناء والعقارات مرحلة دقيقة، فالعائلات الروسية التي كانت تستطيع الحصول على قروض سكنية بفائدة أدنى في الأعوام السابقة باتت تجد صعوبة الآن في تحمل أقساط أعلى. كما أن رفع الفائدة إلى 21% جعل برامج الرهن العقاري المدعومة أقل جاذبية؛ ما أثّر في حركة السوق العقارية. وينعكس الأمر سلبًا على المطوّرين والمقاولين، الذين يواجهون ركودًا في المبيعات وارتفاعًا في تكاليف الإنتاج. وتُمثّل هذه الحلقة المغلقة مثالًا نموذجيًّا على كيفية تسرّب السياسة النقدية الصارمة إلى مفاصل الحياة الاقتصادية اليومية.
وعلى صعيد الروبل، رغم الارتفاع الملحوظ في قيمته منذ بداية العام، ثمة تحذيرات من هشاشة هذا الارتفاع؛ لأنه نتج جزئيًّا عن إجراءات تقييد خروج رؤوس الأموال، وتشديد الضوابط على المضاربات، فضلًا عن استمرار إيرادات تصدير النفط والغاز قبل توسّع العقوبات. لكن مستقبل الروبل لا يزال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمدى نجاح روسيا في تنويع علاقاتها التجارية، وفتح أسواق جديدة لصادراتها، وعدم وقوعها تحت طائلة عقوبات مالية أشد من شأنها أن تعرقل المعاملات المصرفية، أو تقلّص احتياطيات النقد الأجنبي.
وفيما يتعلق بالتحولات الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد الروسي، يلفت تقرير إحدى وكالات التصنيف الائتماني الأنظار إلى ارتفاع ملحوظ في النفقات الحكومية، لا سيما في القطاعين العسكري والأمني. ويتضح من خلال القراءات الرقمية أن نسبة كبيرة من العمالة والموارد باتت تتجه إلى تلك القطاعات؛ ما أسهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي نظريًّا، لكنه قلّص في الوقت نفسه حصة قطاعات مدنية حيوية أخرى. فوفق بعض التقارير، تراجعت حصص قطاعات مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والتجارة الداخلية، مع تداعيات اجتماعية تتمثل في انخفاض مستويات الرفاه، وتوسع رقعة التهميش لبعض الفئات. وإذا أُضيفت هذه التحديات إلى معضلة الإنتاجية، التي لطالما عانتها روسيا في كثير من الصناعات خارج نطاق الطاقة، يمكننا أن ندرك مدى صعوبة الموازنة بين سياسة نقدية متشددة تهدف إلى مكافحة التضخم وضمان الاستقرار المالي من جانب، وضرورة الدفع بالنمو المستدام من جانب آخر.
تشير الدراسات الصادرة عن معهد التنبؤات الاقتصادية التابع لأكاديمية العلوم الروسية إلى أن ما يقارب 36% من القوة العاملة توظف في وظائف منخفضة الأجر والإنتاجية؛ ما يحدّ مرونة الاقتصاد في التعامل مع التغيرات المفاجئة في السياسات النقدية أو المالية. وهذه الظاهرة لا تزال أحد الأسباب الهيكلية وراء بقاء مستويات التضخم مرتفعة فترات طويلة، إذ إن محدودية الكفاءة الإنتاجية تزيد تكاليف الوحدات الإنتاجية، وتدفع المنتجين إلى عكس تلك التكاليف في أسعارهم النهائية.
ومع ذلك كله، لا يخفي البنك المركزي الروسي ثقته النسبية بقدرته على إنزال التضخم إلى مستوى 4% بحلول عام 2026، مستندًا في ذلك إلى عدة اعتبارات؛ فالتشديد النقدي عادةً ما يؤدي إلى تقليص الكتلة النقدية المتداولة، ويخفض معدلات الإقراض، ويزيد شهية الادخار؛ وبذلك ينحسر الطلب الكلي على السلع والخدمات تدريجيًّا، فتتراجع وتيرة ارتفاع الأسعار، لكن الإشكالية هنا تكمن في أن انتظار هذا الأثر يستغرق وقتًا طويلًا؛ ما يرفع احتمالات دخول الاقتصاد في فترة هدوء تشبه الركود، يثبط فيها النشاط الاستثماري، وتغيب الحماسة لدى المستهلكين.
وقد طرح بعض الاقتصاديين سيناريوهات مختلفة لما قد يحدث حتى عام 2026. يتمثل السيناريو الأول في استمرار البنك المركزي في تثبيت الفائدة عند 21%، أو رفعها قليلًا إن استدعت الحاجة؛ ما يعكس نهجًا صارمًا في مواجهة التضخم مهما كان الثمن. لكن في هذه الحالة، سيظل النمو محصورًا في مستويات متدنية، وقد يشهد قطاعا البناء والتجارة تراجعًا أكبر. أما السيناريو الثاني فيتمثل في انخفاض سريع نسبيًّا للتضخم (نتيجة التزام المستهلكين والشركات بالتقشف الإجباري)؛ مما يتيح للبنك المركزي الروسي بدء تخفيف تدريجي لمعدل الفائدة مع نهاية 2025، أو بداية 2026. وفي حال تحقق هذا المسار، قد يستعيد الاقتصاد بعض العافية، لا سيما إذا تراجعت حدة العقوبات، ونجحت روسيا في بناء قنوات توريد، واستيراد بديلة عن الأسواق الغربية.
ويستند السيناريو الثالث إلى احتمال تصعيد جديد في التوترات الجيوسياسية، أو فرض عقوبات أكثر صرامة على القطاعات المالية والمصرفية؛ ما قد يحرم روسيا من الإيرادات الدولارية واليوروية اللازمة لتثبيت الروبل على مستوى مقبول، فيضطر البنك المركزي إلى رفع الفائدة من جديد سعيًا إلى درء تضخم مستورد أقوى، أو تقلب حاد في سعر الصرف. ولا شك أن هذا الخيار سيضع الاقتصاد الروسي أمام اختبارات قاسية، وربما يؤدي إلى ركود أعمق في بعض القطاعات.
مهما يكن من أمر، يبقى الرهان الأكبر هو القدرة على إنجاز تحول بنيوي قادر على تحمل التقلبات الخارجية والداخلية على حد سواء، فالمحافظة على سياسة نقدية صارمة دون إصلاحات اقتصادية موازية قد تجعل من ارتفاع الفائدة سلاحًا ذا حدين؛ فهو قد يخفض التضخم مؤقتًا، لكنه يقضي على طموحات التنمية، ويلجم عمليات التحديث التكنولوجي والصناعي. ومن المفارقات أن روسيا، وهي من كبريات الدول المصدرة للطاقة، تعاني مشكلات هيكلية طويلة الأمد في قطاعات غير طاقية، بما في ذلك الصناعات التحويلية، والزراعة، والخدمات اللوجستية، التي يفترض أنها تشكل قاعدة التنويع الاقتصادي.
وفي ظل هذه المعطيات، يكتسب رأي محافظ البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، ونائبها، أهمية لافتة؛ فهذان المسؤولان لا يكفان عن الإشارة إلى أهمية استقرار الروبل، ودوره في تأمين انكماش مستدام للتضخم، لكنهما في الوقت نفسه يدركان أن سياسات البنك وحدها لن تكون كافية إذا غابت عن المشهد سياسات اقتصادية ومالية مكملة تضع النمو والاستقرار الاجتماعي في صدارة الأولويات. من هذا المنطلق، تتعلق الأنظار بقادم التطورات خلال الربع الثاني والربع الثالث من عام 2025، إذ يتوقع أن تقدم الأرقام والإحصاءات الجديدة صورة أوضح لمسار الاقتصاد.
وقد انعكست السياسة النقدية المتشددة على الحالة الاجتماعية للمواطنين الروس أيضًا؛ إذ ارتفعت تكلفة المعيشة ارتفاعًا واضحًا، مع بقاء الأجور تراوح مكانها، ما أدى إلى تقليص القدرة الشرائية لكثير من الأسر. هذه الحالة، إذا استمرت طويلًا، قد تؤثر في النسيج المجتمعي، وتخلق ضغوطًا سياسية داخلية لرفع الرواتب والمخصصات الاجتماعية، مما قد يعيد كرة التضخم إلى نقطة البداية. ويخشى البعض من أن يُتْرَك المواطنون أمام خيارين أحلاهما مر: إما القبول بارتفاع الأسعار إذا خُفِّضت الفائدة، وإما التعامل مع تباطؤ اقتصادي ينال من فرص العمل إذا ظلت الفائدة على مستواها.
كما تبرز مسألة أخرى شديدة الصلة، تتعلق بالتحديات المرتبطة بقطاع التكنولوجيا، ورأس المال البشري، فقد رصدت مراكز الأبحاث هجرة عدد غير قليل من الكفاءات منذ بدء الحرب في أوكرانيا، واتساع نطاق العقوبات الاقتصادية، وهو ما يضعف مستقبلًا من قدرات روسيا على النهوض بقطاع التكنولوجيا الرقمية والتصنيع الذكي. هذه العوامل تعني أن أي سياسة نقدية متشددة قد لا تنجح في تحقيق أهدافها على المدى الطويل ما لم يُخلق مناخ آمن ومحفز للاستثمارات في الابتكار والتعليم والبحث العلمي.
وهناك جانب معقد يتعلق بديناميكية العلاقة بين البنك المركزي والحكومة، فالبنك المركزي، بحكم استقلاليته النظرية، قد يميل إلى تغليب هدف استقرار الأسعار أكثر من أي اعتبار آخر، في حين تهتم الحكومة بتعزيز النمو، وخلق فرص عمل، وزيادة الإنفاق الاجتماعي. هذا التباين قد يولد أحيانًا خلافات بشأن التوقيت الأمثل لتخفيض الفائدة أو زيادتها، ومقدار الإنفاق الحكومي الواجب إقراره. وفي الواقع الروسي الحالي، تبدو الكلمة العليا لصالح التشدد النقدي في ظل المخاوف من تضخم مرتفع، ونقص خيارات تمويل خارجي. وما محاولات الحكومة لتقديم أرقام متفائلة عن النمو سوى محاولة لطمأنة الداخل والخارج على حد سواء.
وإذا نظرنا إلى الرابحين والخاسرين من قرار تثبيت الفائدة عند 21%، فسنجد أن بعض أصحاب المدخرات بالروبل قد يستفيدون من ارتفاع العائد على الودائع، وإن كان هذا الارتفاع غالبًا ما لا يغطي معدلات التضخم الحقيقية. أما الشركات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات التي تعتمد بشدة على التمويل بالقروض، فهي لا تملك إلا الشكوى من ضيق هوامش الربحية، وارتفاع تكلفة خدمة الديون، وصعوبة الوصول إلى رأس المال العامل.
ولعل السمة الأبرز في هذه المرحلة هي حالة الغموض التي تحيط بالأفق الاقتصادي، فالبنك المركزي الروسي يؤكد استعداده للرفع مجددًا إن لم يظهر التضخم انضباطًا كافيًا، وإن لم تطرح الحكومة خططًا مختلفة لتعزيز الإنفاق على بعض القطاعات، وتخفيض العبء عن أخرى، في حين لا يزال مسار الحرب في أوكرانيا والعلاقات مع العالم الغربي عاملًا حاسمًا في تشكيل معادلة الاقتصاد الروسي المستقبلية؛ وبذل يظل السؤال الأكثر إلحاحًا: هل سيتمكن الاقتصاد من الصمود في وجه التحديات البنيوية والظرفية معًا؟ وهل تستطيع روسيا استثمار نافذة الارتفاع النسبي للروبل لتأمين الواردات الحيوية وتخفيف كُلفة المعيشة قبل أن تنقلب المعادلات من جديد؟
وتتنامى المطالبات من جهات بحثية واستشارية بوضع خريطة طريق للإصلاحات الهيكلية التي تغطي جوانب مختلفة: إعادة النظر في أولويات الإنفاق الحكومي، وإطلاق برامج لدعم الابتكار والإنتاجية، ومنح حوافز للشركات الصغيرة والمتوسطة لتقوية قاعدة الاقتصاد المحلي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد في المواد الأساسية. ومع أن البنك المركزي لا يملك صلاحيات تنفيذ هذه الإصلاحات، فإن خطواته النقدية لن تكون ذات جدوى كبيرة ما لم تواكبها إرادة سياسية حقيقية تستهدف تجديد بنية الاقتصاد، وإخراجه من الاعتماد المفرط على استخراج الموارد الطبيعية، والإنفاق العسكري.
في نهاية المطاف، ترسم هذه اللوحة الاقتصادية والسياسية صورةً معقدة لقرار البنك المركزي الروسي بتثبيت الفائدة عند 21%، فالتضخم ما زال يضغط بقوة على معيشة المواطنين، والروبل وإن بدا قويًّا قد لا يصمد طويلًا أمام احتمالات اضطراب موازين التجارة الخارجية، والنمو يبقى مهددًا بالانكماش إذا طالت قبضة التشدد النقدي، وعجزت القطاعات الإنتاجية عن التطور والتكيف، وهذا كله يضع السلطات الروسية أمام خيارات صعبة: إما الاستمرار في الوتيرة المشددة وصولًا إلى احتواء التضخم مع تحمّل تكلفة اقتصادية باهظة، وإما المجازفة بتخفيف مبكر للسياسة النقدية قد يقود إلى موجة تضخمية جديدة.
وعليه، فإن الخلاصة الأساسية هي أن القرار الأخير تثبيت سعر الفائدة عند 21% يترجم حذر البنك المركزي وخشيته من عودة التضخم إلى الارتفاع إن تراخى في مهمته، لكنه في آنٍ واحد يفرض تحديات ثقيلة على كاهل قطاعات شتى من الاقتصاد. ومن شبه المؤكد أن المرحلة المقبلة ستشهد مفاضلة دقيقة بين هذين الهدفين المتناقضين: استقرار الأسعار وتثبيت العملة من جهة، وتحفيز النمو وتسهيل الوصول إلى التمويل من جهة أخرى.
هل هذه السياسة قادرة على تحقيق توازن مقبول، أو ستنتهي إلى خلق ركود تضخمي أشد وطأة؟ هذا ما ستكشفه الأشهر والسنوات المقبلة. وفي جميع الأحوال، تظل المطالبة بإصلاحات بنيوية أوسع نطاقًا، وإطار تعاون وثيق بين السياسة النقدية والمالية والقطاعات الإنتاجية، أمرًا حيويًّا لإنقاذ الاقتصاد الروسي من الوقوع تحت رحمة تقلبات داخلية وخارجية أكبر، فلا شيء يضمن ديمومة قوة الروبل، أو انحسار التضخم دون خطط عميقة لإعادة هيكلة الاقتصاد نحو مزيد من الكفاءة والتنوع والاستقرار.
إن تثبيت الفائدة عند نسبة 21% يعكس حزمة معقدة من المعطيات والمخاوف والأهداف؛ فمن ناحية، نجح البنك المركزي نسبيًّا في الحد من تسارع التضخم، وتعزيز قيمة الروبل بفضل هذه السياسة التشددية، ومن ناحية أخرى وجد الاقتصاد نفسه في مواجهة تباطؤ واضح في الائتمان والاستثمارات، وانكماش في بعض القطاعات كالعقار، والصناعة التحويلية. إن الطريق إلى تحقيق التضخم المستهدف عند 4% بحلول 2026 يبدو مفروشًا بالأشواك، وتتوقف نتائجه على عوامل كثيرة مرتبطة بالعقوبات، والتطورات السياسية، والقدرة على تحريك القطاعات الإنتاجية غير النفطية. وإذا لم تُعالَج نقاط الضعف الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد، فقد يجد المواطن الروسي نفسه يخسر مرتين: مرة بارتفاع تكلفة القروض وأعباء المعيشة، ومرة أخرى في استمرار الركود أو النمو الهش. هكذا، يتجلى الوضع الراهن اختبارًا لمدى قدرة صناع القرار على إدارة دفة الاقتصاد في بحر متلاطم الأمواج، حيث لا أحد يملك وصفة سحرية تضمن النجاح الكامل، بل هناك فقط خيارات معقدة، تتطلب موازنة دقيقة، وحكمة في التنفيذ.
وينبغي لصانعي السياسات في روسيا، في ضوء هذا الواقع، اتباع إستراتيجية تتكامل فيها السياسة النقدية مع الإصلاحات المالية والهيكلية؛ لضمان ألا يُمثِّل ضبط التضخم عائقًا أمام النمو المستدام. فلا تكفي الإجراءات النقدية وحدها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد، إذ يلزم إرساء قاعدة إنتاجية متنوعة تسهم في تحصين الاقتصاد أمام الصدمات الخارجية وتقلبات أسعار الطاقة. وتتطلّب هذه العملية سياسات داعمة للابتكار وزيادة الإنتاجية، فضلًا عن استثمارات في قطاعات غير تقليدية تتيح تنويع مصادر الدخل القومي، وتفادي الاعتماد المفرط على الإنفاق العسكري، وإيرادات الصادرات النفطية.
يخضع نجاح هذه السياسة النقدية المتشدّدة لاختبارٍ حاسم يتمثّل في قدرة الحكومة والقطاع الخاص على توحيد الجهود، وتحمّل تبعاتها خلال الفترة الانتقالية، فإذا نجح المخططون الاقتصاديون في توظيف هذه المرحلة لتصحيح الاختلالات البنيوية في سوق العمل، والبنية التحتية، والإنتاجية، فقد يصبح الوصول بمعدلات التضخم إلى 4% بحلول 2026 واقعيًّا. أما في حال غياب الحوافز الإصلاحية وعجز السياسات المالية عن دعم القطاعات المتضررة، فقد يتعمّق التباطؤ الاقتصادي ويُطيل أمد المعاناة الاجتماعية، مخلفًا اقتصادًا أقل حيوية وأكثر عرضة للتقلبات الخارجية. في ضوء هذه المعطيات، تتبدّى أهمية المقاربة الشاملة التي توازن بين حاجات الاستقرار النقدي وأولويات التنمية الاقتصادية الشاملة، وتجنّب المجتمع الروسي ثمنًا باهظًا قد لا يكون بمقدوره تحمّله على المدى الأبعد.
المصادر:
Russia holds key rate at 21% despite Putin request not to chill the economy
Russia’s ‘overheating’ economy to slow sharply next year, says central bank
Putin logra lo imposible con las cuentas de Rusia
Pro-government economists blame central bank for plunging Russia into ‘stagflation’
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.