تقدير موقف

إسطنبول بين الحرب والسلام .. حين تعود الدبلوماسية إلى الطاولة.

قراءة في مفاوضات روسيا وأوكرانيا ومآلاتها المحتملة


  • 17 مايو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: npr

استؤنفت في إسطنبول، في ١٥ مايو (أيار) ٢٠٢٥، المفاوضات المباشرة بين الوفدين الروسي والأوكراني، وذلك للمرة الاولى منذ نهاية مارس (آذار) عام ٢٠٢٢.

ورغم انخفاض سقف التوقعات لديَّ، خاصة بعد إعلان تشكيل الوفد الروسي، فإن هذه الجولة الجديدة تحظى باهتمام كبير من المجتمع الدولي، في ضوء عودة الدور التركي وسيطًا محتملًا، والمرافقة السياسية والدبلوماسية الفاعلة من جانب الولايات المتحدة.

يهدف هذا المقال، الذي أكتبه من موسكو، إلى تقديم قراءة منهجية لحالة المفاوضات الراهنة، من خلال تحليل مواقف الأطراف المعنية، التي أراقبها من كثب، وكذلك دور الفاعلين الخارجيين، فضلًا عن سيناريوهات التطور  الممكنة.

أود البدء من شكل المفاوضات وتركيبة الوفود؛ فروسيا، أو الرئيس بوتين تحديدًا، فاجأنا -كالعادة- وقرر إرسال وفد من المستوى المتوسط برئاسة مستشاره فلاديمير ميدينسكي، وهو الذي كان يرأس الوفد الروسي في مفاوضات ٢٠٢٢، وليس صاحب قرار. ويضم الوفد الروسي نائب وزير الخارجية ميخائيل غالوزين، ونائب وزير الدفاع ألكسندر فومين، ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الجنرال إيغور كوستوكوف.

امتناع الرئيس بوتين عن المشاركة شخصيًّا، وهو ما توقعته، وأشرت إليه في مقال كتبته يوم ١٢ مايو (أيار) في هذا الصدد، يعكس -من وجهة نظري- رغبة الكرملين في الحفاظ على مرونة الموقف دون تصعيد سياسي، لكنه -في الوقت نفسه- يحد من إمكانية التقدم وفرصه.

أما أوكرانيا فأوفدت مجموعة من المستشارين السياسيين والدبلوماسيين الذين يعملون في حدود توجيهات الرئيس زيلينسكي، الذي وصل هو شخصيًّا إلى أنقرة في اليوم السابق.

الجانب الأوكراني أكد -بعدما علم بتشكيل الوفد الروسي- أن الموضوع الوحيد القابل للنقاش لديه هو التهدئة ٣٠ يومًا، ورفض الخضوض في قضايا وملفات مثل وضعية القرم، أو مسألة الانضمام إلى حلف الناتو.

تركيا -ممثلة في الرئيس أردوغان- تؤدي دور المنظم والوسيط المحتمل. أنقرة تسعى -من وراء هذه الخطوة- إلى تعزيز مكانتها الدولية، مع الحفاظ على الحياد النسبي، وعدم القطيعة مع أي من طرفي الصراع.

أما الولايات المتحدة فهي ممثلة في وزير الخارجية ماركو روبيو، إلى جانب ستيف ويتكوف وكيث كيلوغ. وأعلن الرئيس ترمب عدم مشاركته بعدما تأكد من عدم حضور بوتين، لكنه قال إنه يدعم -بقوة- مقترح التهدئة، ويتحرك بالتنسيق مع كييف.

إذن بعد هذا التمهيد الضروري، ما مواقف الأطراف والخلافات الجوهرية؟

إذا بدأت بموسكو، حيث أقيم وأتابع الأحداث والمواقف عن قرب، فهي تصر على مفاوضات دون شروط مسبقة، وترى أن القضايا السياسية والعسكرية، ومن بينها مسألة الأراضي والوضع الإقليمي، يجب أن تناقش مناقشة متكاملة مع باقي الملفات.

روسيا ترى أن النزاع لا يقتصر على بعده الثنائي مع أوكرانيا في مرحلته الساخنة حاليًا؛ بل يمثل جزءًا من مواجهة أوسع مع الغرب، ستكون طويلة، وتحتاج إلى طول نفس واستعداد وإعداد جيد؛ ولذلك تنتظر في هذا السياق تجاوبًا من واشنطن مع مطالبها، وليس من كييف فقط.

أما كييف فتحاول تضييق نطاق المفاوضات من خلال التركيز على مطلب وقف إطلاق النار فقط، وتتمسك برؤية قانونية، من وجهة نظرها، ونظر القانون الدولي، ترى روسيا “دولة معتدية”.

هذا الموقف نابع من اعتبارات داخلية بالطبع، فزيلينسكي حتى لو افترضنا أنه راغب في السلام، فهو يخشى القوميين، والرأي العام الداخلي الذي بات في أغلبه يُكنّ العداء لروسيا، فضلًا عن الارتباط الوثيق لموقفه بالدعم الأمريكي.

الولايات المتحدة -بدورها- تدعم مقترح وقف إطلاق النار بوصفه خطوة تكتيكية لتوفير هدنة إنسانية، وتخفيف التصعيد العسكري، مما سيظهر ترمب بمظهر صانع السلام، ويضيف منجزًا جديدًا إلى قائمة إنجازاته الأخيرة بعد جولته الخليجية.

لكن واشنطن لم تظهر حتى الآن استعدادًا لتقديم تنازلات سياسية أو (عقوباتية) ترضي موسكو؛ لذلك تبدو المشاركة الأمريكية أقرب إلى الرسالة السياسية منها إلى تبني المسار التفاوضي الجاد ودعمه.

تركيا هي أيضًا تحافظ على توازن دقيق بين الغرب وروسيا، لكنها -في رأيي- لا تملك أدوات ضغط حقيقية تمكنها من دفع الأطراف نحو حل، لكن مع ذلك، يحسب لها -بالطبع- قدرتها وحنكتها الدبلوماسية في توفير منصة للحوار، ومبادرة دبلوماسية نادرة في هذا السياق البالغ التعقيد.

وهنا أود الانتقال إلى تقييم الدورين التركي والأمريكي باختصار.

تركيا هي من بين الدول القليلة في منطقة الصراع التي تحتفظ بعلاقات اقتصادية وتجارية، والأهم دبلوماسية منتظمة مع موسكو وكييف، لكنها تفتقر إلى النفوذ العسكري أو المالي اللازم والضروري لتغيير مجرى المفاوضات. ومع ذلك، فإن توفيرها للمنصة، والتزامها السياسي، يعززان صورتها بوصفها وسيطًا معتدلًا وفاعلًا إقليميًّا.

الولايات المتحدة -في رأيي- تبدو مدفوعة -على نحو أساسي- باعتبارات داخلية وانتخابية، خاصة في ظل ادارة ترمب، الذي لا يعنيه الصراع الروسي الأوكراني كثيرًا من وجهة نظري؛ لذلك فإن مشاركة وفد أمريكي رفيع تحمل، نعم، بعدًا رمزيًّا، لكنها حتى اللحظة تفتقر إلى زخم حقيقي على طاولة التفاوض، لا سيما مع غياب بوتين، وامتناع ترمب عن الحضور.

إذن، ما السيناريوهات المحتملة لهذه الجولة التي طال انتظارها من المفاوضات؟

السيناريو الأول: فشل العملية برمتها، أي لا تفضي المفاوضات إلى شيء، وهذا ما أرجحه، بسبب الانقسام العميق والتباين الواضح في المواقف، فضلًا عن انعدام الثقة تمامًا، وتفاوت الأجندات السياسية. أضف إلى ذلك أن غياب القادة الكبار، متخذي القرار، يضعف -بقوة- فرص تحقيق نتائج ملموسة.

السيناريو الثاني: تهدئة مؤقتة. قد يتم التوصل إلى اتفاق محدود على وقف إطلاق نار قصير المدى، بضغط أمريكي تركي، يستجيب له بوتين من أجل ألا تدخل علاقته مع ترمب في مأزق، وألا يحرج أردوغان، لكن هذا السيناريو -إن تحقق- سيبقى تكتيكيًّا أكثر منه إستراتيجيًّا.

السيناريو الثالث: إطلاق مسار تفاوضي دائم. قد يشكل لقاء إسطنبول قاعدة أولى لمسار أوسع يشمل جهات دولية، مثل الصين، والاتحاد الأوروبي، أو منظمة الأمن والتعاون، لكنني أعتقد أن الظروف الحالية غير ناضجة لهذا الإطار.

ونستنتج من ذلك كله أن لقاء إسطنبول يشكل خطوة رمزية نحو إعادة إحياء مسار الحوار، لكنه -في شكله الحالي- غير كافٍ لتحقيق انفراجة حقيقية.

فغياب القادة، وبوتين تحديدًا، ضيّق نطاق التفاوض، فضلًا عن أن الانقسام الحاد في الرؤى والمواقف يقلص فرص النجاح.

ومع ذلك، أعتقد أن مجرد فتح قناة اتصال مباشر مجددًا بعد ثلاث سنوات تقريبًا من انقطاعها، يعد مؤشرًا على وجود إرهاصات لتحول تدريجي في المواقف.

وفي هذه المرحلة، لا ينبغي التركيز على النتائج؛ بل على ضمان استدامة الحوار بوصفه خطوة أولى على طريق التسوية السياسية، الذي سيكون -بلا شك- طويلًا.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع