تاريخ

قراءة في كتاب “مصر الروسية”


  • 16 يوليو 2024

شارك الموضوع

يعد هذا الكتاب ثمرة البحث الميداني الطويل والدقيق للكاتب الصحفي المخضرم في الشؤون الدولية فلاديمير بيلياكوف، صاحب درجة الدكتوراة في العلوم التاريخية.

قضى بلياكوف خمسة عشر عامًا في جمع المادة العلمية لهذا الكتاب؛ لاستعادة صفحات مجهولة من حياة المواطنين الروس في روسيا ومصر.

ينتهج المؤلف في كتابه أسلوب الإثارة والتشويق؛ لخلق حالة من جذب القارئ إلى مضمون الكتاب، وهو لا يتحدث فقط عن المواطنين الذين غادروا روسيا بعد عام 1917؛ بل كذلك عن عادات الحُجّاج الروس للأراضي المسيحيّة المقدسة في سيناء، وعن الروس المهاجرين إلى مصر في بداية القرن العشرين، وعن مشاركة الجنود السوفيت في العمليات العسكريّة في شمال إفريقيا في سنوات الحرب العالمية الثانية. ومن بين أبطال الكتاب، تتردد  أسماء لشخصيات معروفة لدى كل مواطن روسي، مثل الفنّان “إيفان بيليبين”، والمطرب “فيودور شاليابين”، وعائلات “غولينيشيف”، و” كوتوزوف”.

يبدأ المؤلف أولى صفحات كتابه المثير من خلال طرح عدة أسئلة للفت نظر القارئ، ومنها على سبيل المثال: هل تعلم أنه على أرض مصر تنمو شجرة “العليقة المقدسة” في دير سانت كاترين الأرثوذكسي، التي لا تزال تنمو حتى الآن، وعندها تجلّى الله للمرة الأولى للنبي موسى عليه السلام؛ مما زاد لهيب اشتعالها؟  وبالقرب من شجرة العليقة المقدسة، وعلى جبل سيناء، أُهديت إلى البشرية الوصايا العشر في العهد القديم، التي تعد النواة الرئيسة للأديان السماويّة الثلاث، هل تعلم أن الحُجَّاج الروس ظلوا يتوافدون على أراضي هذا الدير؟ هل تعلم أنه في بداية القرن العشرين وصلت صحيفة “إسكرا” اللينينية  إلى روسيا قادمة من أوروبا عبر مدينة الإسكندرية المصرية؟ هل تعلم أنه في مدينة بورسعيد المصرية دُفن البحّارة الروس ممن كانوا على متن السفينة “بيريسفيت” بعد أن لقوا حتفهم في بداية عام 1917؟ هل تعلم أن مصر كانت ملاذًا للمهاجرين الروس عقب الحرب الأهلية التي شهدت هجرة الآلاف من الروس خارج البلاد، وكان من بينهم الرسام الشهير إيفان بيليبين، والمثال بوريس فريدمان كليوزل، وعلماء المصريات فلاديمير غولينشيف، وفلاديمير فيكينتيف، وألكسندر بيانكوف؟ وعلى أراضيها تغني الفنّان العظيم فيودور إيفانوفيتش شاليابين، ورقصت فنّانة الباليه العظيمة آنا بافلوفا؟ وأخيرًا، هل تعلم- عزيزي القارئ- أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية، عاد الجنود السوفيت بعد تحريرهم من الأسر إلى وطنهم عبر الأراضي المصرية؟

طريق الحجاج الروس إلى مصر

ظل القياصرة الروس يقدمون الرعاية لجميع الأديرة المسيحية منذ أمد بعيد، وكان من بينها دير سانت كاترين، فقد أعلنت الكنيسة الروسية رعايتها الرسمية للدير عام 1698؛ وذلك لقدسية هذا الدير لدى الروس، حتي إنهم جعلوا وسام “القديسة كاترين” من أرفع الأوسمة التي تقدم للسيدات الروسيات في عام 1917. وتشريفًا لهذا الحدث، أُرسِلَت قطعة أثرية من الفضّة، على شكل سرطان البحر، إلى سيناء لحفظ بقايا رفات القديسة كاترينا، و لا تزال تلك القطعة محفوظة فى مذبح كنيسة الدير حتى الآن.

 وما يدل على قدم الصلة التاريخية للرهبان الروس بدير سانت كاترين العثور فيه على رسوم وأيقونات روسية الأصل تعود إلى قرون بعيدة. ولا يمكن هنا إغفال الحديث عن فضل وأهمية شجرة العليقة المقدسة التي ورد ذكرها في “العهد القديم”.

ويروي المؤلف هنا تفاصيل رحلته للوصول إلى دير سانت كاترين وزيارة معالمه، فقد كانت الرحلة شاقة وطويلة، بدأت بتسلق الجبل في الثانية والنصف صباحًا؛ لضمان الصعود إلى القمة قبل شروق الشمس. وعندما نتساءل لماذا يحرص الناس على زيارة هذا المكان، ولو لمرة واحدة في العمر؟ سنجد أن تفسير ذلك ورد في كتاب “العهد القديم”، حيث جاء في “سفر الخروج” الحديث باستفاضة عن جبل سيناء، ويكفي القول إن الرب أعطى التشريعات والوصايا العشر لسيدنا موسى على جبل سيناء. يستطرد المؤلف فيقول: وبعد أن وصلنا إلى قمة الجبل، لم نكد نصدق أنفسنا، وكأنه حلم طال تحقيقه منذ وقت بعيد، اعتلت الفرحة أوجه جميع السياح من الأمريكان والألمان والروس، وشرعوا في التقاط الصور التذكارية في هذه اللحظة التي قلما تتكرر في عمر الإنسان، ثم بدأنا رحلة الذهاب إلى دير سانت كاترين، حتى أعلنت روسيا رسميًّا وصايتها على الدير عام 1689.

هل تعلم أن هناك مسجدًا داخل مقر دير سانت كاترين؟ ترجع قصة وجود ذلك المسجد إلى أنه بعد الفتح الإسلامي لمصر عام 642، أخذ بدو سيناء يعتنقون الإسلام تدريجيًّا، لكنهم لم يُغَيِّرُوا الدير الذي أعطاهم الفرصة للعمل. وفي عام 1000 م تقريبًا، عزم الخليفة “الحاكم بأمر الله”، الشهير بالقسوة والتعصُّب الديني، على القضاء على معقل (الكُفَّار) في سيناء، وكان البدو أول من شاهد جيش الخليفة وهو يظهر عند جبال سيناء . أبلغ الرُسل رئيس الدير، فأعطى قرارًا بسرعة تحويل أحد مباني الدير إلى مسجد، وانتهت عملية التحويل هذه في ثلاثة أيام. تراجع الخليفة عن هدم الدير بعد أن علم بوجود مسجد داخله؛ ما يعني أن هذا المكان مُقَدَّس للمسلمين، ثم بُنيت المئذنة له فيما بعد.

وتحوي مكتبة الدير آلاف المخطوطات والمطبوعات النادرة، في مقدمتها كتاب “دستور سيناء”، وهو عبارة عن صورة من  النسخة الأصلية المكتوبة بخط اليد لكتاب العهد القديم والجديد باللغة اليونانية، تعود إلى القرن الرابع الميلادي، وفي البداية كانت المخطوطة الأصلية موجودة لدى روسيا بعد أن قدمها الدير إهداءً لها مقابل حصوله على مبلغ مالي لاستكمال بعض الإنشاءات به، وبعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، لم تعد روسيا في حاجة إلى هذه الأيقونة النادرة؛ لأنها باتت في أمس الحاجة إلى الأموال من أجل استكمال عملية التصنيع، وفي عام 1933 باعت الحكومة السوفيتية مخطوط “دستور سيناء” للمتحف البريطاني في لندن، مقابل مئة ألف جنيه إسترليني.

سيمفونية المساء

يتطرق المؤلف إلى كثير من الموضوعات المرتبطة بوجود الروس في مصر، ويأتي بالأدلة الأكيدة لكل قصة يرويها. نعلم جيدًا أن فندق ” الكونتيننتال” كان في بداية القرن الماضي واحدًا من أفخم فنادق العاصمة، حيث يقف أمامه مبنى أوبرا القاهرة الذي شُيد عام 1869 بمناسبة افتتاح قناة السويس، وهو عبارة عن صورة مصغرة من مسرح ميلانو “لاسكالا”؛ ولذلك أطلق على الميدان اسم “ميدان الأوبرا”، وقد شهد هذا الفندق اجتماعًا في يناير (كانون الثاني) عام 1907 احتجاجًا على اعتقال ثلاثة من الثوار الروس في الإسكندرية، وقد سبَّب هذا الاعتقال ضجة كبيرة في مصر. كان بعض المصريين يعلمون عن تلك الأحداث التي وقعت في روسيا، ليس من خلال الصحف فقط؛ بل كان البحّارة في السفن الروسية يروونها، وفي الغالب كان معظم هؤلاء البحارة من أنصار الثورة. انتشرت في مصر حملة تضامن واسعة مع الثوار الروس، وأُسِّسَت المنظمات العامة، مثل “لجنة من أجل روسيا الحرة”، ولجنة “الصندوق الروسى للتعاون”، و”صندوق تقديم المساعدات للاجئين الروس”، ونظموا عملية جمع التبرعات، حيث أقاموا أمسيات خيرية، وحفلات، وعروضًا مسرحية. جمع أيضًا أعضاء “لجنة مساعدة ضحايا الإرهاب في روسيا” ألفًا وستمئة جنيه إسترليني، أُودع ألف جنيه منها في الصندوق المركزي في لندن، والباقي ذهب للإنفاق على اللاجئين الروس في مصر.

الثوار الروس في مصر

يحمل أحد فصول الكتاب عنوان “الهروب الخاسر”، وتدور أحداثه حول عودة النشطاء الروس المشاركين في الثورة الروسية الأولى من المنفى إلى أوديسا في نهاية عام 1910، وحاولوا تكوين اتحاد للبحارة التجاريين في البحر الأسود، ورتبوا لأجل إصدار صحيفة  “تشيورنوموريتس” غير الشرعية. غير أن وقت صدور مثل هذه الصحيفة في روسيا كان صعبًا جدًّا، وبالرغم من ذلك، فقد نجحوا في إصدار طبعة واحدة فقط من الصحيفة. كما فشل ذلك الإضراب الذي نظمه بحارة البحر الأسود في خريف عام 1911؛ ومن ثم تولدت فكرة نقل رئاسة الاتحاد إلى خارج البلاد. وفي نهاية عام 1911، تكونت في القسطنطينية هيئة جديدة للجنة الخارجية لاتحاد بحارة البحر الأسود. صدر العدد الأول لصحيفة “مورياك” الشهرية في أوائل شهر فبراير (شباط) عام 1912، لكن بدا الوضع في العاصمة التركية غير ملائم للروس. ومع انتهاء العام، انتقلت هيئة تحرير الصحيفة ومقر اللجنة الخارجية لاتحاد بحارة البحر الأسود إلى الإسكندرية. كان أعضاء الاتحاد زاروا جميع السفن الروسية القادمة إلى الإسكندرية تقريبًا للقيام بأعمال الدعاية الثورية. قررت السلطات السوفيتية اعتقال المواطن الروسي الثوري ميخائيل آداموفيتش حال ظهوره على السفن البحرية المتجهة إلى الإسكندرية، فاضطر آداموفيتش إلى العيش في مصر باسم ألماني مستعار، هو أليكسندر كورنيلسون، بحيث لا يجوز اعتقاله دون موافقة القنصلية الألمانية. وفي هذه الأثناء، في عام 1908، ظهر في مصر أول حزب أطلق على نفسه اسم الحزب الاشتراكي، ولكن سرعان ما حظره الإنجليز، الذين كانوا يحكمون قبضتهم على البلاد في ذلك الوقت، وسرعان ما اعتُقِلَ ميخائيل آداموفيتش في الإسكندرية، في السابع من مايو (أيار) عام 1913، وزُجَّ به في السجن.

ثم يتحدث الكاتب عن النصب التذكاري للبحارة الروس في مدينة بورسعيد، التي دُفن فيها بحارة السفينة الروسية “بيريسفيت”، والرحلة التي تعرضت لها هذه السفينة.

لينين الرملي

ويتحدث المؤلف عن الكاتب المسرحي والسيناريست المصري المشهور لينين الرملي، وكيف أن اسمه مُستمد من اسم الزعيم السوفيتي لينين، حيث كان والد السيناريست لينين الرملي ووالدته من أصحاب الفكر الاشتراكي. وفي لقاء صحفي لوالد الكاتب المسرحي، كان يتحدث عن سبب اختيار اسم لينين لابنه قائلًا: “لينين هو أول رئيس حكومة أجنبية يرفض الامتيازات من الدول الأخرى، وهو الرئيس الأول والوحيد لحكومة أجنبية الذي يوجّه رسالة إلى سعد زغلول يقترح فيها تقديم المساعدة بالسلاح والمال للثورة المصرية المعادية للإمبريالية. إنه أول حاكم روسي يتصدى للمناورات الإمبريالية، ويلغي المعاهدات السرية التي أبرمها النظام القيصري مع المتحالفين بشأن تقسيم تركيا. كما أنه أول حاكم روسي ينهى اضطهاد المسلمين في روسيا، ويعطيهم الحرية الكاملة في العقيدة؛ وانطلاقًا مما سبق، فأنا مواطن مصري مسلم قررت أن أسمّي ابني باسم هذا الإنسان العظيم”.

إيفان بليبين والأنتكخانة

كما يروي الكاتب تفاصيل تلك العلاقة الساحرة التي جمعت الفنان والرسام الروسي إيفان بليبين بمعشوقته مصر الجميلة، حيث عاش واستقر فيها فترة ليست بالوجيزة، وكان يؤجر شقة صغيرة في شارع الأنتكخانة في وسط القاهرة، فيها ورشة عمل واسعة، وغرفتا معيشة، وأطلق على ورشته اسم “الأنتكخانة”، التي أفرزت لنا كثيرًا من الصور واللوحات الرائعة عن أحياء مصر القديمة والراقية.

عالم الآثار الروسي

ولا يفوتنا هنا الحديث عن حياة فلاديمير سيمينوفيتش غولينيشيف (1856 -1947)؛ الرائد المتميز والمتخصص في علم المصريات، الذي جمع المقتنيات المصرية القديمة ذات الشهرة العالمية على مدى ثلاثين عامًا، وهي محفوظة الآن في متحف بوشكين للفنون الجميلة في موسكو. ويأتي تصنيف مجموعة غولينيشيف في المركز السادس عالميًّا. ولا تنحصر قيمتها في كونها مجرد تحف، بقدرما هي على درجة فنية فائقة الجودة والدقة، حيث يتجسد فيها الفن المصري القديم لمختلف الأزمنة والعصور.

تاتيانا، الروح الروسية

ترى ما قصة تاتيانا نيكولايفنا؟ هي مهاجرة روسية أتت ضمن المهاجرين الروس إلى مصر، وجاءت والدتها إلى مصر مع أفراد عائلتها للبقاء في مخيم التل الكبير. كانت والدتها تعمل مربية لعائلة مصرية، وعمل والدها سائقًا لدى أحد النبلاء، وتزوج الأب والأم في هذه الأثناء لينجبا بطلة قصتنا تاتيانا نيكولايفنا. وتروي تاتيانا كيف كانت تعيش مع أسرتها في فيلا بمدينة الإسكندرية، بعد أن استقر بهم المقام للعيش في مصر مع مجموعة من المهاجرين الروس.

من القاهرة، مع حبي واعتزازي

يستطرد الكاتب في الحديث عن جولات آنا بافلوفا، وهي راقصة الباليه الروسية العظيمة الأولى في مسرح مارين الإمبراطوري في بطرسبورغ. وكانت أول جولة لها في دول الشرق هي مصر، حيث قدمت عروضًا عام 1921. وهناك أدلة كثيرة تؤكد وجود لقاءات جمعت كلا من بليبين وبافلوفا في مصر لأول مرة، في  مارس (آذار) عام 1923. وكانت الفنانة بافلوفا تعشق الفن المصري القديم كثيرًا، وقدمت عدة عروض كانت تجسد فيها أدوار الملكات المصرية من شدة ولعها بهن، حتى إنها عندما كانت تزور المتاحف العالمية، فإن أكثر ما كان يسترعي انتباهها هو الجزء الخاص بالمقتنيات المصرية القديمة. وفي أثناء رحلات بافلوفنا الفنية مع بيليبين في القاهرة للمرة الأولى عام 1923، كانت تدرس حركات المصريين القدماء ووقفاتهم من خلال الصور المنحوتة على جدار المعابد والمقابر المصرية القديمة.

وفي الختام، نشير إلى أن هذا الكتاب من تأليف فلاديمير فلاديميروفيتش بلياكوف؛ الأكاديمي والمؤرِّخ والصحفي، وأحد أبرز المستشرقين الروس المعاصرين، وأكثرهم شهرة. وقد صدر الكتاب الأصلي باللغة الروسية عن دار نشر فيتشي، عام 2008، في موسكو، ونقلته إلى العربية دار نشر “أنباء موسكو” في القاهرة، وترجتمه د. سامية توفيق، وراجعت الترجمة منى إبراهيم الدسوقي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع