تاريخ

قراءة في كتاب “تاريخ آل رومانوف”


  • 9 يوليو 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: гааосо

صدر هذا الكتاب عام 1912؛ احتفالًا بذكرى مرور 300 عام على ملك أسرة رومانوف، من عام 1613 إلى عام 1913. في البداية، لا بد من الإشارة إلى مؤلف هذا الكتاب، وهو الأستاذ سليم قبعين، وهو مدرس، وكاتب، وصحفي، ومؤرخ ومترجم فلسطيني، وهو واحد من أهم الشخصيات الأدبية الفلسطينية والعربية في مجال الترجمة، وهو من أوائل المترجمين العرب الذين عرفوا القارئ العربي بالأدب الروسي، وكان يُلقب بـ”عميد المترجمين عن الروسية”.

وعلينا أن نقرأ هذا الكتاب بتاريخ تأليفه، ونشره في عام 1912، وأن نقرأه بموقف الكاتب الفلسطيني المؤيد لروسيا القيصرية.

يأخذ المؤلف القارئ في رحلة يجوب بها في تاريخ المملكة الروسية القديمة، ويقف فيها عند بعض المحطات المهمة الخاصة بتاريخ أسرة آل رومانوف، تلك الأسرة التي يراها المؤرخون في العهد ما قبل الشيوعي بأنها رفعت الإمبراطورية الروسية من حضيض الانحطاط إلى أوج العزة والمجد، هذا بالإضافة إلى ما قدمته هذه الأسرة من مساعدات مادية وأدبية للشرقيين عمومًا، والأرثوذكسيين خصوصًا، حيث شيدت لهم الكنائس، وأنشأت المدارس؛ لإرضاع أبنائهم لُبان العلوم والآداب منذ نعومة أظفارهم، وقد انتشرت مدارسهم في جميع أنحاء سوريا وفلسطين، وأقامت في كثير من البلاد المستوصفات الطبية لعلاج الفقراء بدون مقابل.

روسيا القديمة

احتفلت الأمة الروسية في 21 فبراير (شباط) 1913 احتفالات باهرة بمناسبة مرور ثلاثمئة عام على تملُّك أسرة آل رومانوف مقاليد الحكم في الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف. ففي 21 فبراير (شباط) 1613، حينما انقرضت أسرة ريوريك، انتخبت الأمة الروسية ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف ملكًا عليها. وهو واضع حجر الأساس لهذه الأسرة التي أصبحت أعظم الأسر المالكة في العالم وأقواها، وأخرجت ملوكًا عظماء، وقياصر حكماء، سجل لهم التاريخ صفحات مسطرة بالأعمال المجيدة لخير روسيا ومنفعتها.

يبحر الكاتب بنا في تاريخ روسيا القديم قبل تولي أسرة رومانوف مقاليد الحكم، ووقوعها تحت حكم ملوك بولونيا، وحالة الذل والمهانة التي عاناها الروس على أيدي البولونيين. ثم استقر الرأي على انتخاب ميخائيل ثيودوروفيتش ملكًا لروسيا، ولكنه ظل يرفض هذا العرض عدة مرات، حتى أقنعه وفد من كبار رجال الدين والسياسة بقبول المنصب لإنقاذ البلاد من الظلم والعدوان. ولما جلس على عرش الملك، كانت المملكة الروسية في حالة اضطراب عظيم؛ خزانتها خالية، في حالة فقر مدقع، عصابات القوقاز تعيث فسادًا في الأرض، تنهب القرى وتقتل الناس بلا رحمة. وبالرغم من كل هذه الأوضاع الصعبة، تمكن الملك من الثبوت على عرش المملكة، وتوطيد أركان الأمن والسلام في كل أنحائها، وشتت شمل العصابات القوقازية، وعزز الوضع الأمنى في أرجاء البلاد.

القضاء في روسيا القديمة

كانت الأحكام في روسيا القديمة بسيطة جدًّا، حيث كان الخصوم يحضرون إلى دار الأمير (الحاكم)، الذي كان ينظر في الخصومة ويعهد بحلها والحكم فيها إلى أشخاص منتخبين من الشعب (محلفين)، وكان الحكم يجري شفهيًّا؛ ولذلك كانت القضايا تُحل سريعًا بدون تأجيل، ولكن الرشوة كانت شائعة جدًّا، وقلما كان الإنسان ينهي قضيته بدون رشوة، وكانت الأحكام مختلة ومعتلة، وقلما يحصل الإنسان على حقه.

المرأة في روسيا القديمة

كانت المرأة الروسية في العهد القديم متمتعة بحرية تامة؛ تحضر الولائم والاجتماعات المختلفة، ولكن في مملكة موسكو كانت الأسر الشريفة تحجز النساء، ولا تسمح لهن بالخروج والاجتماع بالرجال؛ ولذلك لم تكن الملكة وبناتها يظهرن على أحد من الرجال إلاّ أقرب أهاليهن، وقبل زواجهن ما كانت عين رجل تقع عليهن، حتى إن العريس ما كان يستطيع رؤية عروسه إلا بعد الزواج.

الفلاح في روسيا القديمة

كان الفلاحون في روسيا القديمة مستعبدين استعبادًا تامًا للأشراف، الذين كانوا يسومون الفلاحين شتى صنوف العذاب، ويعاملونهم معاملة الحيوانات، كما كان كثير من الفلاحين يهربون فرارًا من هذه المعاملة إلى الأقاليم القوقازية، حتى خلت البلاد منهم. ولم يكن من حق أي فلاح امتلاك شبر واحد من الأرض، وظل الفلاحون على هذه الحال حتى جاء القيصر إسكندر الثاني ليخلصهم من نير الاستعباد وظلمه، وقد سجل القيصر إسكندر الثاني فكرًا مجيدًا في صفحات التاريخ الروسي. أمّا اليوم، فقد تحسنت حالة الفلاح الروسي، وأصبح يشتغل في أملاكه التي وهبتها له الحكومة.

القيصر نيقولا الثاني

يتناول الكاتب الحياة اليومية للقيصر نيقولا الثاني، حيث كان يبدأ يومه مبكرًا، يتناول الفطور، ويمارس الرياضة، ثم يبدأ بالاهتمام بشؤون بلاط القصر، ويستقبل الوزراء وكبار المسؤولين يرفعون إليه التقارير، ومن الغريب أن القيصر نيقولا الثاني كان يتذوق أنواع الطعام الذي يقدم لجلالته في أوانٍ مغلقة بإحكام، ومختومة بختم موظف خاص، وتُفتح أمامه ليذوقها بنفسه، ويكتب ملحوظاته في دفتر للموظف المختص لمراعاتها في طهي الطعام في المرات اللاحقة. ثم يختتم يومه بكتابة مذكراته اليومية، وملحوظاته الإيجابية والسلبية على أحداث اليوم. وقد اشتهر عنه نشر روح البشاشة والمرح في أثناء تعامله مع رجال بلاطه. وبعد تناول طعام العشاء، يخصص القيصر ساعة ونصف الساعة للجلوس مع أفراد أسرته، ثم يعود مرة أخرى إلى العمل، ثم يخلد إلى النوم قبل انتصاف الليل أو بعده. كما كان القيصر نيقولا الثاني شخصية واسعة الاطلاع، يحب التاريخ الروسي، ويحسن الكتابة باللغات الأجنبية، وكان ماهرًا في السباحة، والرماية، وركوب الخيل، وكان يجيد الصيد مثل أجداده وأسلافه.

ارتقاء روسيا تحت آل رومانوف

اهتم مؤسس دولة رومانوف بتعزيز قوات روسيا الحربية، وقد أسهمت هذه القوات في توسيع الحدود الروسية من بحر البلطيق حتى المحيط الهادئ. كما اهتمت المملكة الروسية بالأسطول، وصنعت الحكومة أول مركب في الرابع من فبراير (شباط) 1866، وسُمّي “أريول”، أي “النسر”. وعندما ظهر بطرس الأكبر في سماء روسيا، رأى أن الأسطول للمملكة الروسية مثل الماء للسمك، ووضع قانونًا للبحرية ينص على الاهتمام بإنشاء الأسطول.

عندما جلس الملك الشاب على عرش المملكة الروسية، كانت تسودها حالة من الخراب والدمار، وكان القضاء في حالة منحطة جدًّا، واستطاع الملك ميخائيل إصلاح كثير من الأحكام القضائية حتى بلغت في هذه الأيام مبلغًا يضارع الأحكام عند أعظم الأمم المتمدنة، فقد كانت الأحكام القضائية والإدارية ممتزجة بعضها ببعض، إذ لم يكن هناك وجود للمحاكم، وأصدر الملك أمرًا بإنشاء 11 محكمة، وكانت تخضع لمحكمة عُليا، وأنشأ بعد ذلك محاكم الاستئناف، وغيرها من المنشآت القضائية. كما أنه أول من عيّن رجال النيابة (المدعي العام)، وألّف مجلس الشيوخ ليكون مرجعًا للقضاء.

وكانت الزراعة في العهد المظلم في درجة قصوى من الانحطاط، فقد كانت مساحات شاسعة من الأراضي بورًا، لم تكن هناك أيدٍ عاملة تستثمر خيراتها، ولم تكن تزرع إلا قطع أراضٍ صغيرة في أواسط روسيا، وكان الأهالي يفضلون الاشتغال بصيد الحيوانات والأسماك عن الزراعة؛ لأن الفلاحين كانوا في أغلب البلاد مُستعبَدين للأشراف.

في عام 1861 حدث إصلاح مهم للفلاحين؛ إذ وُزعت عليهم الأطيان الزراعية، ولكن دون أن يملكوها، حيث إنها كانت تحت رقابة الجمعيات، غير أن هذه الجمعيات لم يعمّ فيها المساواة، وكان القوي فيها يأكل حقوق الضعيف، مما أدى إلى خراب الفلاحين، الذين اضطروا إلى إشهار الحرب على تلك الجمعيات؛ لإصلاح الخلل الموجود فيها. ولما جاء بطرس الأكبر، عمل على تحسين الوضع كثيرًا، وكان يمنح أرباب الصنائع امتيازات عدة، وحسّن أجور العمال.

 أما الصناعة فقد ازدادت ارتقاء في عهد الإمبراطورة كاثرين الثانية. وكانت المواصلات في روسيا القديمة بدائية جدًّا؛ نظرًا إلى كثرة عدد المستنقعات، والأماكن الشاسعة المغطاة بالأحراش، وكان الناس ينتقلون على ظهور الحيوانات أو الزوارق لعبور الأنهار. كان ملوك روسيا وأباطرتها يهتمون بإصلاح الطرق البرية والبحرية، واستدعوا لهذه الغاية مهندسين من إسبانيا وفرنسا لإنشاء الترع والطرق. وبدأ العمل على إنشاء أول خطوط للسكك الحديدية عام 1838، ثم مشروع خط سكك حديدية بين موسكو وسانت بطرسبورغ.

سادت المدارس الدينية في روسيا عقودًا طويلة، وكانت تعتمد على الكتب المقدسة فقط، وقبضت هذه المدارس على زمام العلوم والآداب أكثر من قرن كامل. وفي أوائل القرن الثامن عشر كان الأوروبيون يؤلفون الروايات والكتب، في الوقت الذي لم يكن في روسيا أي صنف من هذه الصنوف. وبعد مرور 60 أو 70 عامًا، أخذت الآداب الروسية تتدرج في سلم الرقي حتى ضاهت الآداب الأوروبية. ومن أبرز الكتاب الروس الذين ظهروا في ذلك الوقت الكاتبان العظيمان دوستويفسكي، وتولستوي.

بطرس الأكبر

وتجدر الإشارة هنا إلى سيرة قيصر روسي لا يُنسى، وهو بطرس الأكبر، فلقد أنجب الملك ثيودور أليكسيفيتش ابنه بطرس الأكبر عام  1672 م، وتوفي الملك وابنه في الرابعة من عمره، وتولت والدته ناتاليا كيريللوفنا تربيته وتعليمه. وعندما أصبح بطرس شابًا راشدًا، كان يتمرن كثيرًا في المناورات العسكرية، بل كان ينزل إلى ميدان المعارك ويحارب أعداءه بنفسه. ومن أبرز السمات الشخصية للملك بطرس الأكبر أنه كان قوي الملاحظة، سريع البديهة، يميل إلى التعرف إلى الأجانب المقيمين في موسكو، وإلى السفر للخارج. كان يرغب في تحويل روسيا إلى دولة أوروبية على الطراز الغربي، وكان يُخصص وقته في زياراته لدول أوروبا لزيارة القلاع والحصون، ومخازن الأسلحة والمعامل، والكليات، والمكاتب، والمراصد الفلكية. في أثناء وجوده في هولندا متخفيًا، اشتغل عاملًا بسيطًا، وأتقن صناعة المراكب حتى استطاع صناعة مركب بيديه، كما كانت له جولات كثيرة في شتى دول أوروبا، وتعلم في كل دولة حرفة معينة.

إذا ما أراد الكاتب تعداد تلك الإصلاحات التي قام بها هذا المصلح العظيم، فإنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا، ونذكر منها نزرًا: بعد رجوعه من أوروبا، منع الروس من ارتداء الملابس الواسعة، التي تعوق حركتهم وتبعدهم عن الغربيين، وأمر في عام 1700 أن يكون ابتداء السنة الميلادية الجديدة من أول يناير، وقد كانت تبتدئ قبلًا من شهر سبتمبر، كما أصلح القضاء إصلاحًا عظيمًا، وقسم المملكة إلى ولايات، وأنشأ مجلس الشيوخ، وأنشأ أوسمة الشرف لمكافأة الموظفين، وأصلح الجندية والأسطول، وأصلح حال الفلاحين، وأرسل الطلاب في بعثات إلى أوروبا. خاض كثيرًا من الحروب، وكان الفوز فيها حليفه، ووسع أملاك روسيا، وأصلح عادات أهلها وتقاليدهم، ومهّد لها الطريق نحو المدنية والتحضر.

ويختتم المؤلف كتابه بالإشارة إلى أن الأمة الروسية أقامت احتفالات باهرة؛ تكريمًا لأسرة آل رومانوف نظير الخدمات الجليلة، والأعمال العظيمة التي قدمتها للبلاد. ويقدر حجم النفقات التي أنفقتها الحكومة على هذه الاحتفالات بنحو خمسين مليون روبل. وأقامت مجالس البلديات في كل الأنحاء الروسية تماثيل لأفراد الأسرة المالكة؛ احتفالًا بهذا اليوبيل العظيم.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع