هذا هو المقال الختامي لعرض الكتاب المهم الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2020، من تأليف الدكتورة مكارم الغمري، أستاذة الأدب الروسي المقارن في كلية الألسن بجامعة عين شمس، بعنوان “الأدب الروسي.. شاهد عصر”. وسنعرض في هذا المقال للمسرح الروسي عند كل من فيكتور روزوف، وفالنتين راسبوتين.
شغل إنتاج فيكتور روزوف مكانة مهمة في المسرح الروسي ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما يعبر مسرحه عن سمات التطورات الجديدة التي طرأت على المسرح الروسي في العقود الأربعة التي تلت الحرب، وذلك حين بدأ المسرح يشق طريقًا جديدًا له في الحياة الثقافية، متجهًا إلى عالم الإنسان الفرد، بعيدًا عن الخط الدعائي الذي ميز تطور المسرح الروسي في الفترة المبكرة من العهد السوفيتي الذي بدأ بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917.
وتعد الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية وانقضاء حكم ستالين بداية مرحلة جديدة للمسرح والفن الروسي بعامة، الذي بدأ بالتحرر التدريجي من قيود مذهب الواقعية الاشتراكية. وشهدت الفترة من عام 1944 إلى عام 1953 اتجاه المسرح إلى محاولة شمول الجوانب المختلفة للحياة المعاصرة والوجود الإنساني، واهتمامه بالقضايا الأخلاقية المختلفة التي تتعلق بوجود الإنسان الفرد، مثل موضوعات الضمير والإخلاص والمسؤولية، وغيرها. واتسمت الأعمال الإبداعية لعدد من الكتاب (روزوف، وأريوزوف، وفولودين، وغيرهم) بالمقدرة على النفاذ العميق إلى العالم الداخلي لأبطال مسرحياتهم، والحماسة الكبيرة للقيم الأخلاقية.
تحتل المسرحية ذات الموضوع التاريخي مكانة مهمة في المسرح الروسي المعاصر، وقد اتجهت المسرحية التاريخية إلى وصف أحداث الحرب العالمية الثانية التي تجد انعكاسًا لها في كثير من المسرحيات المعاصرة. كما اهتم المسرح بالإطار الفني العالمي الأخلاقي للإنسان في الظروف القاسية للحرب التي كشفت بجلاء عن الجوهر الاجتماعي والنفسي والأخلاقي للطابع الإنساني؛ لذلك نجد أن الأعمال المسرحية التي تتجه إلى موضوع الحرب لا تهتم بتصوير البطولة العسكرية للإنسان المحارب فحسب؛ بل تعني بكشف الصورة الأخلاقية للإنسان في ظروف الحرب العصيبة، وترصد التأثير المتبادل بين أحداث الحرب ومصير الإنسان الفرد.
تمثلت أهمية مسرح روزوف في الكشف الدقيق للعلاقة المتبادلة بين الناس، وتقديم صورة للنفسية الإنسانية ونمط أفكارها. لقد ترك فيكتور روزوف كثيرًا من المسرحيات، من أهمها: “في البحث عن السعادة”، و”أصدقاؤها”، و”في الطريق”، و”معركة غير متكافئة”، و”في يوم العرش”، و”الجمع التقليدي”، “من المساء حتى منتصف الليل”، و”أحياء إلى الأبد”، وغيرها.
وتعكس مسرحية “أحياء إلى الأبد” كثيرًا من الخصائص الفنية المميزة لمسرح روزوف، فهي تعبر -على نحو فني- عن مبادئ مسرح روزوف، وتجسد القضية المركزية في إنتاجه؛ ألا وهي الإنسان في علاقته بالعالم المعاصر، وقد ظل روزوف مخلصًا لهذه المبادئ في مؤلفاته اللاحقة.
يعد موضوع الحرب وثيق الصلة بإنتاج روزوف وبسيرته الذاتية، فقد أدت الحرب دورًا في دخوله عالم المسرح، فقد كان حلمه أن يصبح ممثلًا، وبالفعل نجح في اختبار استوديو مسرح موسكو، ودرس باجتهاد. وفي بداية الحرب استدعي روزوف إلى الجندية، وجُرح في الأيام الأولى للحرب جرحًا خطيرًا، ونجا من الموت بأعجوبة. وكان من الصعب أن يعود ممثلًا على خشبة المسرح بعد الإصابة، وبدأ بكتابة المسرحيات في أثناء علاجه في المستشفى العسكري في نهاية الأربعينيات.
ومع أن المسرحية تتطرق إلى موضوع الحرب، فإن الكاتب لا يورد وصفًا للمعارك الحربية التاريخية؛ لأن موقف الكاتب يتجه إلى وصف الموقف الأخلاقي من الحرب التي يجعل من علاقة الشخصيات بأحداثها محك اختبار للجانب الأخلاقي لهذه الشخصيات، والكاتب لا يهتم بتصور عمليات التشكيل الداخلي لهذه الشخصيات قدر اهتمامه بوصف الشخصية.
إن ظروف الحرب المتأزمة تضع شخصيات المسرحية في موقعين متباينين؛ ففي جانب يقف شباب شجاع مستعد للتضحية والدفاع عن الوطن والفداء، وفي جانب آخر يوجد شاب متخاذل لا يكترث بمحنة وطنه، وتتغلب عليه مشاعر الأنانية والفردية واللا مبالاة. وتقف مسرحية “أحياء إلى الأبد” -كما وصفها النقاد- في صف أفضل مؤلفات المسرح السوفيتي تبعًا لقوة تأثيرها العقلي والعاطفي.
تعد قضايا البيئة من الموضوعات المهمة التي شغلت أذهان العلماء والأدباء، وهي تعكس في ثناياها العلاقة المتبادلة بين الإنسان والطبيعة من جهة، وبين الطبيعة والتطور التكنولوجي من جهة أخرى. وقد اختلفت مهام المنظر الطبيعي في إبداعات الأدباء الروس، فهي عند البعض رمز للوطن، وللقرية، وهي مستودع العادات والتقاليد والقيم، وهي خلفية لحياة الفلاح الروسي المعبر عن مجموع الشعب، وقد تكون أداة فنية تساعد الكاتب على الكشف عن المعاناة النفسية لشخصياته الأدبية، وعن العالم الداخلي لها، وقد تسهم في فهم الأحداث وتطور المضمون، فضلًا عن دورها الجمالي في النص.
وظهرت اتجاهات جديدة فيما يخص موضوعات الطبيعة ما بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول)، فقد اتجه بعض الأدباء إلى تصوير المشكلات البيئية المتعلقة بالطبيعة، التي من أهمها الاعتداء على الثروة الزراعية، والتضحية بها على حساب بناء الصروح الصناعية.
لقد جاءت الأعمال الروائية والقصصية لتتجاوز الشعر في التعبير عن التغيرات العميقة التي مست وجه الحياة في القرية الروسية في القرن العشرين، التي كان من أهمها الخسائر البشرية الفادحة التي منيت بها طبقة الفلاحين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم في الحرب الأهلية التي أعقبت ثورة أكتوبر (تشرين الأول)، حيث كان الفلاحون يمثلون الأغلبية الساحقة من الملقى بهم في أتون الحرب، أما طبقة الإقطاع وكبار المزارعين، فقد انتزعت أراضيها بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917.
يعد فالنتين راسبوتين (المولود في 1937 والمتوفى في 2015) ممثلًا للجيل الثاني من كتَّاب النثر بديلًا عن الشعر في التعبير عن القرية، وهو التيار الذي بدأ ظهوره في خمسينيات القرن العشرين، وتعد إبداعاته مثالًا واضحًا للتعبير عن عالم القرية والطبيعة، والمشكلات البيئية.
كما تطرح روايات فالنتين راسبوتين العلاقة المتبادلة بين زحف التكنولوجيا على القرية الروسية والتغيرات الجذرية بها، التي يتجسد من خلالها طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي. ويصور فالنتين راسبوتين في رواية “وداع ماتيورا” غمر قرية “ماتيورا” بالمياه لإقامة محطات العملاقة لتوليد الكهرباء. وقد اعتمد الكاتب على قصة واقعية، حيث عاش الكاتب نفسه في إحدى القرى التي غُمرت بالمياه، وهُجِّرَ سكانها إلى موقع آخر.
لا تبرز صورة الغمر بوصفها تعبيرًا عن الفناء المادي لفضاء القرية فحسب؛ بل بوصفها تجسيدًا للفناء الروحي للقرية بما تحمله من تقاليد ومقدسات وأعراف. ويعتمد فالنتين راسبوتين في كثير من أعماله على المقابلة بين الأجيال لإبراز أفكاره وتأملاته في أحوال القرية.
يقول النقاد إن الطرح الفني لموضوع البيئة والثورة التكنولوجية في الرواية يختلف عما سبق في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ويؤكدون أنه من ربع قرن مضى ونحن نقرأ عن الإنشاءات العظيمة، وكنا نسمع في الصحافة صوتًا قويًّا، هو صوت البناء والتغيير، ولم يكن هناك شك في صحة ذلك، لكننا في رواية فالنتين راسبوتين نسمع صوتًا مغايرًا مدويًّا، هو صوت العجوز “داريا” وجاراتها وصديقاتها.
وفي رواية “الحريق” يطرح فالنتين راسبوتين مشكلة الاستخدام غير الرشيد للتكنولوجيا، الذي لا يأخذ في الحسبان سلامة البيئة والحفاظ عليها وعلى ثرواتها الطبيعية؛ قطع الأخشاب في الغابة يتم على نحو خطأ، وتتجلى مهارة التحليل النفسي في الرواية في وصفها المعاناة النفسية لدى المهجرين، وحنينهم إلى قراهم القديمة. إن غمر القرى بالمياه من أجل حاجات الصناعة، وتهجير أهلها، لا يجلب الدمار البيئي للأرض الخضراء فحسب؛ بل يجلب أيضًا الحنين الدائم، والألم النفسي لأهل القرية المهجرين من موطنهم.
كما تشغل كتابات راسبوتين الاجتماعية والسياسية مكانة مهمة في إنتاجه. وقد كان له موقفه من الجدل الذي احتدم بشأن طريق تطور روسيا في الفترة التي أعقبت البيرسترويكا بعد تحول روسيا من النظام الشمولي إلى الديمقراطية وسياسة الرأسمالية في الاقتصاد الحر، وذلك حين شغل راسبوتين موقع المدافع عن خصوصية طريق روسيا المختلف عن الطريق الأوروبي الغربي، فبعد انهيار الشيوعية، طرح فالنتين راسبوتين أهمية الوعي القومي الذاتي، والاحتفاظ بالوجه الخاص لكل أمة، وأهمية التأمل في الثقافة القومية والماضي والتاريخ لحل مشكلات الحاضر والنظر إلى المستقبل، كما أولى أهمية لقضايا البعث الديني والأخلاقي، واستطاع أن يحافظ على أمانة الكلمة الأدبية وصوت المستقل رغم القيود التي فرضت على الكلمة الأدبية في الفترة السوفيتية.
يعد النقد الأدبي مصدر تأثير وتأثر في المنظومة الثقافية، والظروف الاجتماعية والتاريخية، وتحولات الواقع، وهو ما نلمسه من تجربة النقد في روسيا، لا سيما في القرن العشرين إبان الأحداث الجسام التي مرت بها روسيا في تلك الفترة: الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية، والقبضة الستالينية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، التي ألقت بظلالها على الحياة الثقافية والأدبية، ثم الحرب العالمية الثانية، وفترة ذوبان الجليد، والبيرسترويكا وما أعقبها.
لقد ارتبطت الإرهاصات الأولى للنقد الأدبي في روسيا بالقرن الثامن عشر، وقد سار طريق تطوره مرتبطًا بمراحل تطور التيار الأدبي، وكان ينطلق من التجربة الإبداعية لكل مرحلة، والاتجاهات الأدبية السائدة (الكلاسيكية، والعاطفية، والرومانتيكية، والواقعية النقدية، والحداثة، والواقعية الاشتراكية، وما بعد الحداثة، وغيرها). وكان للتيارات الاجتماعية والسياسية تأثيرها وبصمتها في مسيرة النقد الأدبي، وقد تنوعت الكتابات النقدية ما بين دراسات في الصحافة، والدوريات المتخصصة، والكتب، وغيرها.
اتجه النقد الأدبي منذ بدايته إلى محاولة المعالجة المنهجية للنص الأدبي، والظواهر الأدبية محل الدراسة، وقد اتضح هذا المنهج بجلاء في كتابات كثير من الأدباء. ويرى النقاد أن الميلاد الحقيقي لتاريخ النقد الأدبي في روسيا بوصفه اتجاهًا علميًّا مستقلًا يرتبط بفترة بداية القرن التاسع عشر، حين اتجه النقد الأدبي إلى التناول الفكري والمضموني للنص الأدبي. وعند نهاية الأربعينيات تدعم الاتجاه العلمي والبحثي في النقد الأدبي، وانطلق في تقييم الإبداع الأدبي من معايير تصويره للواقع والحياة الاجتماعية، والصدق الحياتي.
أما النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقد حمل بعض التغييرات في الواقع الاجتماعي، لا سيما في نهاية الخمسينيات في الفترة التي سبقت التحضير لإصلاحات الفلاحين (ألغي قانون الرق الخاص بالفلاحين في عام 1861 في روسيا).
وقد شغلت كتابات النقاد الممثلين للاتجاه الديني المثالي في نهاية القرن التاسع عشر مكانة مهمة في النقد، وذلك تحت تأثير أعمال دوستويفسكي المعروف بنزعته الدينية في الكتابة. وتجدر الإشارة إلى إسهام الأدباء الروس الكبير في النقد الأدبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وفي نهاية القرن التاسع عشر أسس النقد الحداثي منطلقاته النظرية على أرضية تجربة تيارات الحداثة التي بدأت بظهور الرمزية في روسيا.
وازدهرت في بداية القرن العشرين واتضحت ملامح النظرية الشكلية في النقد في السنوات من 1910 إلى 1920، واتجهت كتابات هذه المدرسة نحو التحليل البنائي الشكلي للنصوص الأدبية، بعيدًا عن أي خلفية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
وعارض أعضاء المدرسة الشكلانية التعامل مع القضايا الأدبية من منطلقات سياسية أو اجتماعية، ودافعوا بحرارة عن رؤية “الفن من أجل الفن”.
دار في النقد الأدبي في بداية القرن العشرين التي سبقت ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 جدال كبير بين أنصار الواقعية في الفن، وأنصار “الفن من أجل الفن”، ودافع النقاد الماركسيون عن أهمية “الواقعية” في الفن، ثم دخل النقد الأدبي في مرحلة الشيوعية وما بعدها من عصور أخرى مغايرة تستحق معالجة تفصيلية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.