الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف عاطف معتمد عبد الحميد، ويتألف من 140 صفحة، يضم تمهيدًا وفصولًا ثلاثة. يضم الفصلان الأول والثاني أربعة مباحث لكل منهما، في حين يضم الثالث مبحثين فقط، بالإضافة إلى الخاتمة وتسعة أشكال توضيحية. وقد صدر الكتاب عام 2009 عن الدار العربية للعلوم، ومركز الجزيرة للدراسات.
يبدأ الكتاب بتمهيد أُشيرَ من خلاله إلى قدر روسيا الجغرافي والتاريخي الذي جعلها مفتونة بالتوسع والتمدد، وهو ما يجعلها أقرب إلى المفهوم المكاني لا القومي؛ نظرًا إلى مساحتها الشاسعة، وتنوعاتها الطبيعية والاقتصادية والبشرية، ويظهر ذلك من خلال رحلة قطار من شرق الدولة إلى غربها، أو من شمالها إلى جنوبها. وعلى الرغم من الزعم المتوالي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بظهور عالم متعدد الأقطاب تكاتفت فيه دول مثل ألمانيا واليابان وفرنسا والصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية، فإن ذلك لم يحدث، واستمرت روسيا الاتحادية في المواجهة، تستخدم أدواتها التي لطالما استخدمتها على مدى قرون، مثل المناورة، واستغلال موقعها الجغرافي وترسانتها وصناعاتها الحربية وقدراتها العسكرية، وتمكين نفسها في كثير من الصراعات العالمية.
أتى عنوان هذا الفصل ليدل على مكوناته ومباحثه الساعية إلى دراسة الجغرافيا السياسية الداخلية لروسيا الاتحادية، مع إشارة إلى حالة الاستخفاف والاستهزاء بدولة روسيا، إلى درجة أصبحت مثارًا للتندر حتى في الأفلام الأمريكية، كما في فيلم “أرمجدون”، من خلال الإشارة إلى محطة روسيا الفضائية المتهالكة.
المبحث الأول: “الطريق إلى القطبية الدولية”
وفيه عرفنا بداية دولة روسيا من مجرد اسم يطلق على مجموعة من القبائل التي اشتهرت في القرن التاسع كقبائل تشرف على طرق التجارة، مكنتهم جسارتهم من تأسيس قوة إقليمية في القرن الحادي عشر في شرق أوروبا ومشارف جبال أورال، مرورًا بتخوم البحر الأسود والقوقاز، وكان اعتناقها المسيحية الشرقية البيزنطية، بتعميد الأمير فلاديمير حاكم “كييف روس” عام 988، وسيلة لتوحيد الشعب، وبناء للهوية الروسية. وعلى مدى ثلاثة قرون استطاعت ” كييف روس” أن تستلهم دستورها المفقود “مملكة الرب”، كما استكشفت خريطتها النواة؛ كي تحقق نموها الإقليمي، وإن اختفت كدولة عام 1228 لمدة قرنين؛ لعدم قدرتها على صد الغزو المغولي، لتعود مع إيفان الثالث العظيم عام 1480 منطلقة من موسكو لتؤسس “روسيا الموسكوفية”.
ويعد القرن السادس عشر هو القرن الذهبي لروسيا، فمع “إيفان العظيم”، و”فاسيلي الثالث”، و”إيفان الرهيب” حققت روسيا أكبر خريطة عرفتها في تاريخها، لتولد من بعدها إمبراطورية آل رومانوف مع ميخائيل الأول عام 1613، وعلى مدى ثلاثة قرون اندفعت روسيا بقوة لتصبح واحدة من القوى العظمي، بمساحة قدرت بـ23 مليون كم2، خاضت خلالها عدة حروب لتحقيق أغراضها الجيوبوليتيكية، فمن أجل نافذة على الأطلسي خاضت حرب البلطيق لتؤسس سانت بطرسبورغ، ومن أجل ميناء مفتوح طول العام على المحيط الهادي حاربت الصين في الغرب لتحصل على ميناء فلاديفوستوك، وكانت الحروب من أجل المياه الدافئة أشد شراسة، فكانت حروبها مع الدولة العثمانية من أجل البحر الأسود وبحر قزوين، بل إنها عبرت المحيط الهادي على يد المستكشف فيتوس بيرنغ لتؤسس في غرب أمريكا الشمالية ما عُرف لدى الروس باسم “أمريكا الروسية”.
وبهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وانزوائها خمسة أعوام (1917- 1922)، ولدت مرة أخرى روسيا، ولكن هذه المرة بأيديولوجية مغايرة ممثلة في الماركسية والمذهب الشيوعي، الذي تمكنت من نشره في كثير من أقاليم العالم عبر أدوات سياسية واقتصادية، وتأكدت قوتها مع الحرب العالمية الثانية بحضورها واعتبارها أحد مراكز القوة، وصانعة النصر. وفي تلك المرحلة حتى عام 1991، كانت روسيا قوة عظمى في عالم ثنائي القطبية، لها كلمتها المسموعة في أرجاء العالم من خلال معوناتها الاقتصادية، وصادراتها العسكرية، وخبراتها الميدانية، بل كان لها تأثيرها في دول أوروبا الغربية من خلال الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، وفي عام 1991 انهار الاتحاد السوفيتي مخلفًا وراءه خمس عشرة دولة، ممثلة في جمهوريات القوقاز الثلاث، وجمهوريات آسيا الوسطى الخمس، ودول البلطيق الثلاث، وبيلاروس، وأوكرانيا، ومولدافيا، بالإضافة إلى جمهورية روسيا الاتحادية. وتسعى الآن روسيا الاتحادية إلى استرداد مكانة روسيا التاريخية، باعتبارها ما زالت تمثل الحجر الأكبر بين أحجار الاتحاد السوفيتي السابق 17.1 مليون كم2، والوريث الحقيقي لقدراته وإمكاناته الجغرافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.
المبحث الثاني: الخلل الديموغرافي
وفيه يشير المؤلف إلى الأخطار الديموغرافية التي تتهدد روسيا. ومع أنها تأتي تاسعة من حيث السكان عالميًّا، فإن ذلك لم يمنع القيادة السياسية من أن تعتبر تناقص السكان في روسيا أكبر الأخطار التي تهدد كيانها ومستقبلها. والأمر لا يتقصر على تراجع معدلات النمو السكاني بين الجماعة السكانية الرئيسة الممثلة في السلاف (بمعدل 4- 7 %) مقابل نمو الأقليات والإثنيات الأخرى من أصول قوقازية (بمعدل 13 %)؛ بل امتدت الخطورة إلى سوء توزيع السكان على تلك المساحة الضخمة، حيث تعاني روسيا تركزًا سكانيًّا في القطاع الأوروبي منها، في حين تعاني ندرة سكانية في سيبريا والشرق الأقصى منها؛ مما جعل بعضهم يطلق عليه الربع الخالي، وهو ما يمثل خطورة في ظل وجود نحو 130 مليون صيني يعيشون على الجانب الآخر من الحدود في مساحة مساحة مليوني كم2، مقابل 6 ملايين كم2 في الجانب الروسي تكاد تكون خالية من السكان، مما ظهر معه خطر الهجرة الصينية الصامتة.
ومن جوانب الخطر السكاني أن روسيا أصبحت من أكبر مقاصد الهجرة بعد الولايات المتحدة الأمريكية، سواء الشرعية أو غير الشرعية، وهو ما انعكس على ظهور نزعات يمينية متطرفة ضد هؤلاء الأجانب والوافدين. ويقدر أن هناك نحو 15 مليون مهاجر في روسيا يمتازون بمهارات عمل عالية تغرق السوق الروسية. والخطر لا يقتصر على الهجرة الوافدة؛ بل كذلك معدلات الهجرة الخارجية، حيث فقدت روسيا بين عامي 1991 و200 نحو سبعة ملايين روسي.
لقد كان التوزيع السكاني أحد جوانب قوة روسيا الجيوسياسية في الماضي، وهو ما فقدته الآن؛ ومن ثم فهناك خطورة من أن تستغل القوميات غير الروسية هذا الخلل، فتعيد تعزيز وجودها السكاني الذي فقدته على يد النظم السياسية السابقة.
المبحث الثالث: الهوية الروسية ومبدأ الكفاية
وفيه يظهر البون الشاسع في تعامل الدول الغربية الديمقراطية مع روسيا، فالخطاب الذي تتعامل معه تلك الديمقرطيات مع شعوب العالم الثالث وأمريكا اللاتينية لا تعيره روسيا أي اهتمام حينما يوجه إليها، ويرجع ذلك إلى مبدأ الكفاية الروسي الذي تدعي فيه روسيا أنها مكتفية ذاتيًّا، وليست مضطرة إلى تطبيق النموذج الغربي وتجربته حرفيًّا. كذلك فإن روسيا ترى في الغربيات الديمقراطية فضاءات وتنوعًا، وليس نموذجًا أحاديًّا، فدول أوروبا الشرقية لا تختلف كثيرًا في إطارها السياسي عن النموذج الروسي، كما أن الدول الديمقراطية حقًا في أوروبا لا تخرج عن فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وباقي الديمقراطيات، كالدول الإسكندنافية، لا وزن لها على الصعيد الجيوسياسي. كما أن روسيا تنظر إلى نفسها وإلى الدول الأوروبية بصفتها صاحبة فضل عليها؛ حيث خلصتها من النازية والفاشية، وحررت عواصمها، أما فيما يتعلق بالولايات المتحدة فإن الخبرة المخابراتية الطويلة معها أثبت لروسيا أنها ليست أكثر من مدعية، وأن سجلها الديمقراطي لا يزيد على كونها إمبريالية محترفة.
الروس يرون أن الديمقراطية والتعددية لا تحققان طموحاتهم؛ بل إنهما تزيدان خطر التشرذم الذي ظهرت آثاره عقب الانهيار السوفيتي؛ بأن سعت كل جمهورية إلى امتلاك مواردها، والتعامل مباشرة مع الشركات العالمية.
يبقى أمر آخر يعبر عن هوية روسيا، وهو علاقتها بالدين، ومكانة الكنيسة فيها، ومنذ تعميد فلاديمير، فإن الكنيسة كان لها مكانتها وجلالها في الدولة، فيما عدا فترة الشيوعية، ومع انهيارها استردت الكنيسة جزءًا كبيرًا من مكانتها، وإن كان على مراحل، ولكن تبقى علاقتها بالسياسة بعيدة، تراوح مكانها بين داعين لأن تبقى محافظة على تلك المسافة الفاصلة بينها وبين السياسة، ومَن يدعون إلى أن ترسم لنفسها خطًا مستقبليًّا يؤطر علاقتها السياسية.
ولكن رغم الاحترام والعلاقات الدورية بين الرئيس ورأس الكنيسة، فإن الدين في روسيا يقف موقفًا وسطًا بين وضعه في العالم الغربي وفصله تمامًا عن الحياة، ووجوده بقوة وتأثيره في مسار الحياة والأحداث في الشرق، فلا يزال الحجاب مسموحًا به في روسيا وجمهورياتها، على العكس من الغرب، وسبق أن عبر المسلمون في روسيا عن رفضهم الغزو الأمريكي للعراق، لكنَّ هناك خطوطًا حمراء لا يجب عبورها. تبقى في النهاية هوية روسيا التي تبدو عصية على نداءات “نهاية التاريخ”، و”انتصار النموذج الرأسمالي”، وتكرس روسيا فكرة “روسيا المقدسة”، وفي بعض الفترات تدعي أنها “شعب يحميه المسيح”، وأنها “أمة اختارها الرب”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.
