أدبتاريخ

قراءة رفعت سلَّام لمصرع بوشكين (2- 2)


  • 15 سبتمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: russian7.ru

رأينا في المقال السابق سردية الشاعر المصري الكبير رفعت سلام عن مصرع الشاعر الروسي العظيم ألكسندر بوشكين، ونكمل في المقال الحالي قراءة ما عرضه رفعت سلام في مقدمة ترجمته لقصائد بوشكين في الكتاب الذي يحمل عنوان “الغجر وأعمال أخرى”.

لقد جاء مصرع بوشكين رد فعل للظروف المأساوية على المستويين الإنساني والوطني، وسنعرض لهذه الظروف في العناصر التالية.

أولًا: نظام العبودية الروسي “القنانة”

 كان هناك مصير رهيب كئيب ينتظر كل شخص يتجرأ ويرفع رأسه إلى مستوى أعلى مما خطه له الصولجان الإمبراطوري، سواء أكان شاعرًا، أم مواطنًا، أم مفكرًا. كان مصيرًا لا يرحم، يدفعهم جميعًا إلى القبر.

وكان أمرًا معتادًا أن يلعب المالك العقاري القمار على مصير فلاحه بدلًا من النقود، أو يبادل الفلاح بكلب؛ فلم يكن الفلاح الروسي يتمتع بغير حقوق الميت. كما كان معتادًا أن نقرأ في إحدى الصحف عن بيع فتاة تجيد خياطة الملابس الداخلية، والكي، والتنشية، كما تجيد طبخ الطعام، فمنذ منتصف القرن الثامن عشر، كان نظام القنانة قد بدأ بالانحلال، وبدأت العلاقات الجديدة- الرأسمالية- تنمو في صلبه. كانت طبقة النبلاء هي الطبقة المسيطرة؛ إذ تملك أهم ثروة في البلاد؛ الأرض، وكان أكثر من نصف الفلاحين مملوكين للملاك العقاريين، الذي يتصرفون بأشخاص الأقنان بحرية مطلقة. أما القسم الباقي من الفلاحين، فكانوا في التبعية الإقطاعية للدولة، وأطلق عليهم “الفلاحون الحكوميون”، واضطلعت القيصرية بدور مهم في الإبقاء والدفاع عن مصالح النبالة وامتيازاتها، والحفاظ على أسس نظام القنانة، فيما توطد أسلوب الإنتاج الرأسمالي، والعلاقات الاجتماعية البرجوازية في بلدان أوروبا الغربية.

شهدت هذه الفترة الانتقالية في روسيا أهوال المخاض الأليم، التي كشفت فيها النبالة والقيصرية عن آخر أنيابهما؛ تشبثًا بالبقاء في مواجهة الشعب. كما شهدت الملاحقة والقمع الشديدين لكل بادرة تمرد. وتعرض الأدب الروسي للاضطهاد والمطاردة، وفرضت مراقبة صارمة على المطبوعات؛ فكان كل مؤلف يمر على رقيبين أو ثلاثة، يشطبون كل ما يخيل إليهم أنه مشكوك فيه. وكان الرقباء مهددين بالسجن والطرد من الخدمة، إذا ما مرت مقالة “مشاغبة”.

ثانيًا: تمرد بوغاتشوف

كان الاستياء يتعاظم في كل مكان مع تزايد الاضطهاد، وانتشرت الانتفاضات الشعبية في أنحاء روسيا، وكان أخطرها الحرب الفلاحية عام ۱۷۷۳ بقيادة “بوغاتشوف”، فقد شملت الانتفاضة، وهي أقوى حركة معادية للإقطاع في تاريخ روسيا، مساحات كبيرة من الدون تي الأورال، وأعالي أنهار الفولغا، وكاما. ومنح بوغاتشوف الفلاحين والقوزاق في المناطق المحررة “الحرية الدائمة”، و”الأرض والعشب، والمرتبات النقدية، والرصاص، والبارود، والخبز”.

وهزت الانتفاضة كيان القيصرية ونظام القنانة حتى الجذور مع أنها انتهت بالهزيمة والتنكيل الدموي، لكونها تعبيرًا عن الاحتجاج العفوي للجماهير المسحوقة المفتقرة إلى الوعي السياسي.

وعلى إثر الانتفاضة، ضاعفت القيصرية من توجهها الرجعي، وإجراءات الإرهاب.

ثالثًا: جهود التنويرين الروس

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بدأ في روسيا نشاط المنورين البارزين، الذين دافعوا عن مصالح الجماهير الشعبية في مواجهة القنانة، ففضح “نوفيكوف” قسوة نظام القنانة، وأوضح كيف أن كل ثروات الأرض هي نتاج عمل الفلاحين. وقد عرف القراء الروس عن طريق مطبوعات “نوفيكوف”- لأول مرة- مؤلفات “شيكسبير”، و”ثيرفانتيس”، و”موليير”، و”بومارشيه”، كما عرفوا منوري القرن الثامن عشر الفرنسيين: “فولتير”، و “ديدرو”، و”روسو”.

أما “راديشييف”، فكان أول من دعا في التاريخ الروسي إلى القضاء على عبودية الأقنان والحكم المطلق، وإقامة الجمهورية في روسيا. وأدّى كتابه “رحلة من بطرسبورغ إلى موسكو”، وقصيدته “الحرية”- التي دعا فيها الشعب إلى الثورة والانتقام من القيصر، وغيرها من مؤلفاته- دورًا بالغ الأهمية في تكوين الأيديولوجيا المعادية للقنانة، وتطور الأفكار الاجتماعية في روسيا.

رابعًا: الجماهير الروسية تدافع أمام نابليون

أدت حرب ۱۸۱۲ دورًا رئيسًا في يقظة الوعي القومي؛ فقد تحدت كل الجماهير الروسية في المقاومة والدفاع عن الأرض في مواجهة الغزو النابليوني، بما أسهم في تشكيل وعى الجماهير بنفسها وبأوضاع اضطهادها .

خامسًا: انتفاضة الديسمبريين

وفي 14 ديسمبر (كانون الأول) 1825، كانت انتفاضة الديسمبريين. كان الديسمبريون أوائل الثوريين الروس الذين أسسوا تنظيمات سرية، ونظموا انتفاضة ثورية سافرة ضد القيصرية. لقد رأوا- منذ الطفولة- أهوال نظام القنانة، وأدّت أفكار التنوير الروسية، واطلاعهم على أعمال منوري القرن الثامن عشر الفرنسيين وآداب أوروبا الغربية، دورًا كبيرًا في تكوين نظريتهم.

وقد حدثت الانتفاضة عقب موت ألكسندر الأول، وفور اعتلاء “نيقولا الأول” العرش في سانت بطرسبورغ، وتجمع في ساحة مجلس البرلمان نحو ثلاثة آلاف جندي وبحار؛ لمنع أعضاء المجلس من أداء اليمين للإمبراطور الجديد، وإرغامهم على التوقيع على البيان الذي أعدوه لتوجيهه إلى الشعب.

وفي بيانهم، طرح الديسمبريون برنامجًا هو من أكثر البرامج تقدمية في ذلك الوقت؛ برنامج إصلاح شامل لكل النظام الاجتماعي: إلغاء الحكم السابق، وإطلاق حرية النشر، وإلغاء الرقابة، وإطلاق حرية ممارسة الأديان كافة، وإلغاء حق الملكية فيما يخص البشر، وتساوى جميع الفئات أمام القانون، وعلنية المحاكمات، إلخ.

وقد سحقت القوات القيصرية الانتفاضة، كما سحقت الانتفاضة التي هبت في أوكرانيا بعد ذلك بأسبوعين، ونكل النظام القيصري بالديسمبريين بوحشية؛ فحكم على خمسة منهم بالإعدام، وأكثر من مئة بالأشغال الشاقة والنفي إلى سيبيريا .

وهكذا فشلت الانتفاضة؛ لأن الغالبية العظمى من النبلاء- بحكم مصالحها- كانت تقف في صف “نيقولا الأول”، كما أن الديسمبريين كانوا عاجزين عن تحقيق أي ارتباط حقيقي بمن قاموا من أجلهم، مع أن برنامجهم كان يمثل طموحات الشعب وأحلامه.

سادسًا: انعكاسات ذلك على حياة بوشكين وموته

وسط هذه العواصف التي كانت تهز المجتمع الروسي من الجذور، ولد ألكسندر سيرجيفيتش بوشكين في السادس والعشرين من مايو (آذار) ۱۷۹۹ في موسكو. كان والده “سيرجي لفوفيتش بوشكين” ينتمي إلى أسرة عريقة من طبقة النبلاء، لكن أسرته فقدت في الفترة التي ولد فيها عزها ونفوذها السابقين. وهكذا تركت الأسرة أمر تربية “ساشا” (اسم التدليل لألكسندر) للخدم والمربين الأجانب. وتكفل تعليمه الفرنسي بإدخاله وهو بعدُ صبي صغير في الحادية عشرة من عمره عالم الكلاسيكيين الفرنسيين وموسوعيي القرن الثامن عشر.

أما مربيته القنة “إرينا روديونوفنا”، فتكفلت بأن ينسل إلى ذلك العالم الباهر السحري عالم الخيال والقصص الشعبي والأساطير والأغاني القديمة؛ هذا العالم الغامض الذي يفيض بالينابيع الحية، وطيران الساحرات، والقصور الممتلئة بالنوافذ الموشاة بالهياكل العظمية المتكلسة، والرماح الصدئة.

وطاف الوصيف “نيكيتا كوزلوف” به شوارع موسكو وأحياءها، والأعياد الشعبية، حيث الممثلون، والأقنعة الزائفة، والشعور المستعارة، والتهريج الروسي، وضحكات الجمهور العريضة، وحيث الحياة ولغة الشارع التي كاد ينساها في صالونات أبيه الأرستقراطية.

التحق بمدرسة الليسيه المخصصة لذوي الامتيازات الطبقية، وتوطدت العلاقات الحميمة بينه وبين كثير من الطلبة، ممن أصبحوا- فيما بعد- ديسمبريين. ونمت موهبة “بوشكين” الأدبية وتطورت بفضل اطلاعه على كلاسيكيات الأدب الأوروبي والروسي المعاصر. وبفضل بيئة الليسيه التي كانت تموج فيها الاهتمامات الأدبية، شارك بوشكين بنشاط في الجدالات الأدبية التي ثارت في ذلك الوقت. وفى مواجهة جمعية المائدة المستديرة لمحبي الآداب الروسية- التي توحدت فيها القوى الأدبية الرجعية المقاومة لإصلاح اللغة الأدبية- انضم “بوشكين” إلى جمعية “إرزاماس”، التي ضمت أنصار المبادئ التقدمية الجديدة في الأدب، وقد مهد نشاط “إرزاماس” الأرض للواقعية الروسية في الأدب.

أما تقييمات مدرسي الليسيه لمواهب “بوشكين”، فلم تخلُ من تقرير أنه كسول جدًّا، وغير منتبه في الفصل، وغير متواضع، وذو قدرات إلى حد ما، وذكى- وهذا هو الأسوأ- في الثرثرة الفارغة، ويحقق تقدمًا ضعيفًا جدًّا.

عين “بوشكين”- بعد تخرجه من الليسيه- في وزارة الشؤون الخارجية. وخلال الفترة التي قضاها في سانت بطرسبورغ أوقف كل وقته على المشاركة في الحياة الاجتماعية والأدبية الصاخبة في العاصمة، وانضم إلى جمعية “المصباح الأخضر” الأدبية التي نظمها الديسمبريون لنشر أفكارهم، بعد أن انهارت جمعية “إرزاماس”.

وكانت قصائد بوشكين في هذه الفترة تبشيرًا بالقيم الثورية التي طرحها الديسمبريون، دون المشاركة في تنظيماتهم، أي إن بوشكين كان داعمًا في إدانة الأوتوقراطية ونظام القنانة، والدعوة إلى الانتفاضة، وتقويض أسس الظلم السائد.

وفي عام ۱۸۱۷ كتب قصيدته “أغنية إلى الحرية”، وجاء فيها:

آهِ فَلْتَهْتَزُوا وَلتَرْتَجِفُوا يَا طُغَاةَ الْعَالَمِ

 وَأَنْتُمْ أَرْهِفُوا السَّمْعَ أَيُّهَا الْعَبِيدُ السَّاقِطُونَ

 تَسَلَّحُوا بِالشَّجَاعَةِ، وَهُبُوا .

وكان للقصائد والأقوال الساخرة، التي انتقد فيها بوشكين الأوتوقراطية ونظام القنانة، وتغنت بالحرية، التي كتبت منها مئات وآلاف النسخ بخط اليد، كان لها نفس تأثير بيانات الديسمبريين السياسية، بل استخدمها الديسمبريون أنفسهم لنشر آرائهم على نحو عريض.

وخلال الفترة نفسها أنهى بوشكين أول مؤلف أدبي كبير له، هو “روسلان ولودميلا”؛ الملحمة الشعرية التي أكدت ازدياد استقلاله الأدبي، وكانت أولى القذائف التي أطلقتها واقعية بوشكين المقبلة. وأثارت الملحمة الهياج بين المؤيدين والحانقين بروحها الأسطورية المعتمدة على قصص الجنيات، ولغتها غير العادية في دقتها وبساطتها بالمقارنة مع لغة الشعر السائدة، الثقيلة.

 ولم تكن قصائد بوشكين، ولا تعليقاته، لتمر دون عقاب، فقد استدعاه الحاكم العسكري لسانت بطرسبورغ. وبعد الاستجوابات، ومن خلال دفاع صديقيه “كارامزين” و”جوكوفسكي”، ذوي النفوذ، تقرر الاكتفاء بنفيه إلى الجنوب تحت مراقبة الجنرال “إينزوف”، المشرف على المستعمرات العسكرية في الجنوب، بدلًا من نفيه إلى سيبيريا.

ويغادر بوشكين سانت بطرسبورغ إلى إيكاتيرينوسلاف في الجنوب في ٦ مايو (آذار) ۱۸۲۰.

وفي القرم بدأ- مع أبناء “راييفسكي”- بمعرفة أعمال الشاعر الإنجليزي “بايرون”، الذي ذاعت شهرته في أوروبا في ذلك الحين، ولم يلبث أن ارتحل إلى “بيسارابيا”، وطاف سهولها مع إحدى القبائل الغجرية التي سيكتب عنها قصيدة رائعة.

وفي منفاه الجنوبي، تعرف بوشكين وازداد احتكاكه بالديسمبريين، لكنهم أخفوا عنه حقيقة وجود تنظيم لهم.

تابع بوشكين- باهتمام شديد- الأحداث الأوروبية التي كانت تناقش بحماسة بين أصدقائه الديسمبريين: الحركات الثورية في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وروسيا في ۱۸۲۰، وبلغت إيقاعات الثورة التي رددتها قصائده درجة عالية من الرفعة والحدة؛ فقد كان ينتظر- بحماسة- اندلاع ثورة ظافرة.

وانتقل إلى أوديسا للعمل تحت إمرة الكونت “فورونتزوف” الحاكم العسكري الجديد. وردًا على اضطهاد “فورونتزوف” له، كتب عدة أبيات شعرية تسخر منه، فطلب الحاكم العسكري نقله من “أوديسا”. وفي الوقت نفسه، ضبطت السلطات خطابًا له ينكر فيه وجود الله، وخلود الروح، فأمر ألكسندر الأول بطرده من الخدمة الحكومية، ونفيه إلى قرية “ميخايلوفسكوي” في القوقاز، ليصبح تحت رقابة السلطات المدنية والكهنوتية.

وفي أثناء إقامته في منفاه الجنوبي، كتب بوشكين “سجين القوقاز”، و”نافورة  بختشيساراي”، وأنجز معظم قصيدة “الغجر”، وبدأ تأليف “يفغيني أونيغين”، وأنهى “غافريليادا”، بالإضافة إلى كثير من القصائد الغنائية.

ويغادر بوشكين أوديسا في ٣٠ يوليو (تموز) ١٨٢٤ إلى منفاه الجديد، عاش في “ميخايلوفسكوي” حياة متفردة. وأبدى اهتمامًا كبيرًا بالفولكلور، وطريقة حياة العامة، وأصغى بابتهاج إلى القصص الشعبية، وكان يزور الأسواق، وأضرحة القديسين، ويتحاور مع الفلاحين.

وفي منفاه الجديد، أنهى “الغجر”، و”بوريس غودونوف”، و”الكونت نيلين”، وأضاف أربعة فصول أخرى إلى يفغيني أونيغين، وحين سحقت انتفاضة الديسمبريين، ونكّل “نيقولا الأول” بهم شنقًا ونفيًّا إلى سيبيريا، أصابته الصدمة الشديدة، “فالشنق هو الشنق، أما الأشغال الشاقة لمئة وعشرين صديقًا، لمئة وعشرين أخًا ورفيقًا، فهو أمر فظيع”.

وأصبح واضحًا لدى الحكومة أن شعر بوشكين أدى دورًا تحريضيًّا كبيرًا في الحركة الديسمبرية، لكنها لم تجد في أوراقهم السرية سوى قصائده فحسب، ولم يجد “بوشنياك”- رجل الشرطة السرية الذي أرسلته الحكومة للتجسس عليه- أي دليل على مؤامرة أو تمرد أعده بوشكين، وقرر “نيقولا الأول” ألا يحاكمه، ولكنه عزم على اتباع أسلوب مختلف.

وفي ١٤ سبتمبر (أيلول) ۱۸۲٦ ، استدعت السلطات بوشكين على عجل إلى موسكو؛ للمثول أمام القيصر.

قابل القيصر بوشكين بود زائف، وسأله عما كان سيفعله لو كان موجودًا في سانت بطرسبورغ في ١٤ ديسمبر (كانون الأول)، فأجاب بوشكين بلا تردد: “كنت سأنضم إلى صفوف المتمردين”. وأعلن القيصر له أنه سيأخذ على عاتقه شخصيًّا مهمة مراقبة أعماله. واضطر بوشكين إزاء ذلك- في بعض الأحيان- إلى أن ينشر أعماله باسم مستعار، أو دون توقيع.

واستمر القيصر على عدم ثقته به رغم تعهده له بأن يسلك نحو الحكومة مسلكًا مواليًا؛ فاستجوب بوشكين عدة مرات على قصيدته “أندريه شينييه”؛ للشك فيما حوته من تعبيرات تشير إلى التعاطف مع الديسمبريين، وانتقاد العقاب الذي أنزله القيصر بهم، ووضع أخيرًا تحت رقابة الشرطة السرية.

لم يكن لبوشكين الحق في الانتقال من مكان إلى آخر دون تصريح من “بنكندورف”، واضطر إلى توقيع تعهد كتابي بعدم قراءة أعماله الجديدة على أي شخص قبل مرورها على الرقابة، بل لم يكن في مقدوره أن يتزوج دون إذن من القيصر والشرطة.

وفي ربيع ۱۸۳۰، قبلت ناتالي غونشاروفا وعائلتها طلب بوشكين الزواج بها، واضطر بوشكين إلى التوجه إلى القيصر للحصول منه على الموافقة على زواجه، فتلقى الموافقة مقرونة بأنواع جارحة من التوبيخ، والتحذيرات المتغطرسة، والأكاذيب. وفي هذه الفترة، أسهم بوشكين بنشاط كبير في الإشراف على “الصحيفة الأدبية” التي كان صديقه الشاعر “دلفيغ” يصدرها.

أقام بوشكين في سانت بطرسبورغ بعد الزواج، وأدرجه نيقولا الأول في سلك موظفي الحكومة مرةً أخرى؛ فقد كان يريد أن تتردد “ناتالي”- زوجة بوشكين الفاتنة- إلى البلاط القيصري، ولم يسمح له القيصر بمغادرة المدينة. وخلال السنوات القليلة التي أعقبت زواجه، كتب بوشكين مؤلفًا تاريخيًّا عن تمرد بوغاتشوف بعنوان “تاريخ بوغاتشوف”، ورواية “دوبروفسكي”، و”الفارس البرونزي”، و”ملكة البستوني”.

ولم يوافق القيصر على نشر “الفارس البرونزي”، واعتبر وصف تمرد يفغيني وتهديداته للفارس البرونزي بطرس الأكبر- أمورًا غير مسموح بها.

وفى عشية رأس السنة الجديدة ۱۸۳٤، أنعم القيصر عليه برتبة نبيل من نبلاء الحضرة القيصرية، مستهدفًا إذلاله من ناحية؛ لأنها كانت تمنح لشبان الأرستقراطية الصغار، ومنح زوجته المبرر في التردد إلى بلاط القيصرية بحرية، من ناحية أخرى.

وازداد اضطهاد الحكومة الذي لا يُحتمل، وفقد حرية تبادل الخطابات مع زوجته: “لم أكتب إليك؛ لأن تصرف سلطات البريد- الذي لا يخرج عن كونه تصرف خنازير- نفرني من الكتابة إلى درجة جعلتني لا أستطيع أن أمسك بالقلم في يدي”.

وفي أواخر يونيو (حزيران) ۱۸۳٤ ، قدم طلبًا للتقاعد، لكنه اضطر- تحت التهديد- إلى سحبه، وظل مقيدًا في سانت بطرسبورغ، وازداد اضطهاده، وشدد النقاد والصحافة الحكوميون هجومهم عليه.

وكانت أحواله المالية قد تفاقمت، فقد وصلت ديونه إلى ستين ألف روبل، وكان عليه أن يتحمل عبء إعالة أطفاله الأربعة، واثنتين من شقيقات زوجته، وشقيقته، والإسهام في معونة والديه، فضلًا عن النفقات التي تتطلبها رتبته في البلاط وزوجته، ولم يستطع مواصلة الكتابة.

لكنه استطاع مع كل ذلك إصدار مجلة “المعاصر” عام ١٨٣٥، ونشر فيها أعماله ومذكراته، وكان أحد الأوائل الذين تنبهوا لعبقرية غوغول القادمة، وشجعوه.

ضيقت حلقة الشائعات المبتذلة خناقها حوله. وعقب تسلّم أحد الخطابات التي تُعرّض بالعلاقة بين زوجته والقيصر- والخالي من التوقيع- أرسل إلى “دانتس”، وهو مهاجر فرنسي يعمل ضابطًا بالحرس الإمبراطوري الروسي، يطلبه للمبارزة. وخروجًا من المأزق، تقدم “دانتس” بطلب الزواج بشقيقة بوشكين، حتى يصبح أكثر اقترابًا من زوجة بوشكين التي لاحقها طويلًا.

واستأنف المجتمع “الراقي” تلطيخ سمعة بوشكين بأوحال النميمة، فأرسل خطابًا مهينًا إلى “هيكرن”- السفير الهولندي في سانت بطرسبورغ الذي يتبنى “دانتس”- سُدّت به جميع سبل التراجع، وقَبِلَ “دانتس” التحدى، وقتل بوشكين.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع