في ظلّ توتر العلاقات بين الهند وباكستان، الخصمين النوويين، شكّل الحفاظ على سياسة خارجية محايدة وغير منحازة تحديًا كبيرًا لبنغلاديش. ومع أن دور الهند في تحرير بنغلاديش جعل نيودلهي شريكًا طبيعيًّا، وارتبطت مصالح بنغلاديش الاقتصادية والأمنية ارتباطًا وثيقًا بالهند نظرًا إلى موقعها الجغرافي، لكن هذه العلاقة لم تخلُ من التحديات، فقد كانت النزاعات النهرية، والتشدد عبر الحدود، والهجرة غير الشرعية قضايا مستمرة في هذه العلاقة. وفي السنوات الأخيرة، وخاصةً خلال عهد رئيسة الوزراء الشيخة حسينة، التي تولّت الحكم لعقود، تمتّعت دكا ونيودلهي بتعاون تجاري وأمني قوي .
مع ذلك، ومع احتدام المنافسة البحرية في المحيط الهندي، ازدادت أهمية بنغلاديش الجيوستراتيجية على نحو ملحوظ ، مما أتاح لدكا فرصًا للتعاون مع شركاء آخرين في المنطقة. وبعد إقالة حسينة في أغسطس (آب) 2024 ، قلبت الحكومة المؤقتة برئاسة محمد يونس الوضع الراهن في السياسة الخارجية لبنغلاديش، وذلك من خلال النأي بنفسها عن نيودلهي، وتوثيق تحالفها مع الإسلام وبكين .
هيمن الخطاب المناهض لباكستان على فترة حكم حسينة التي استمرت 16 عامًا. خلال هذه الفترة، اتُهمت إسلام آباد وجهاز استخباراتها، جهاز الاستخبارات الداخلية -مرارًا وتكرارًا- بالتدخل في شؤون بنغلاديش. وصلت العلاقات بين باكستان وبنغلاديش إلى أدنى مستوياتها عندما أقامت رابطة عوامي بزعامة حسينة تعاونًا لمكافحة الإرهاب مع الهند، وبدأت محاكمات جرائم الحرب ضد المتعاونين الموالين لباكستان من حرب عام 1971. نددت باكستان بالمحاكمات ووصفتها بأنها لا أساس لها، وذات دوافع سياسية، مما أدى إلى خلاف دبلوماسي كبير. وفي الآونة الأخيرة، صوّر نظام حسينة الانتفاضة ضدها على أنها مدفوعة بالأصولية الإسلامية، وزعم أن باكستان دعمت المتشددين الإسلاميين في البلاد. وعلى هذا النحو، حال خطاب رابطة عوامي المناهض لباكستان دون تطبيع العلاقات مع باكستان فترة طويلة، لكن سقوط النظام مهد الطريق لظهور واقع دبلوماسي جديد.
في أعقاب التحول السياسي الأخير في بنغلاديش، شهدت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين دكا وإسلام آباد تحسنًا ملحوظًا. منذ تولي محمد يونس منصب كبير مستشاري الحكومة المؤقتة، عقد عدة اجتماعات مع رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف. وتزايد تفاعل الدبلوماسيين الباكستانيين في دكا مع جهات محلية بعد تغيير القيادة في بنغلاديش.
برزت التجارة محورًا أساسيًّا بين بنغلاديش وباكستان في أعقاب هذا الانفراج السياسي، ففي شهري نوفمبر (تشرين الأول) وديسمبر (كانون الأول)، رست سفينتان تجاريتان باكستانيتان في ميناء شيتاغونغ، مستأنفتين تدفقات التجارة البحرية التي كانت معلقة منذ حرب عام 1971. وفي الفترة بين أغسطس (آب) وديسمبر (كانون الأول) 2024، ارتفعت التجارة الثنائية بنسبة 27 في المائة . ويستكشف البلدان الآن طرقًا لتنويع تجارتهما، وخاصة في قطاعات مثل مواد البناء، والمواد الغذائية، والأدوية، وتكنولوجيا البيانات. وتدفع الإدارة الباكستانية ومجموعات الأعمال من أجل توسيع التجارة الثنائية إلى 3 مليارات دولار خلال العام. وكجزء من هذا الجهد، وقعت غرف التجارة في كلا البلدين مذكرة تفاهم في 13 يناير (كانون الثاني) لإنشاء مجلس أعمال مشترك. ومع ذلك، وعلى الرغم من زيادة المشاركة، لا يزال ميزان التجارة يميل لصالح باكستان. وفي السنة المالية 2022- 2023، بلغ إجمالي حجم التجارة نحو 782 مليون دولار أمريكي، حيث تجاوزت صادرات باكستان واردات بنغلاديش بأكثر من 630 مليون دولار أمريكي.
من التطورات المهمة الأخرى في العلاقات الثنائية تخفيف قيود السفر. لا توجد حاليًا رحلات جوية مباشرة بين بنغلاديش وباكستان. ولسنوات، واجه الباكستانيون صعوبات كبيرة في الحصول على تأشيرات بنغلاديشية بسبب متطلبات التصريح الأمني الصارمة. مع ذلك، رفعت الحكومة المؤقتة في دكا هذه القيود، وأعلنت خططًا لتسيير رحلات جوية مباشرة، في حين استجابت باكستان بإعفاء المسافرين البنغلاديشيين من رسوم التأشيرات ومتطلبات التصريح الأمني.
إلى جانب التجارة والسفر، تعمل بنغلاديش وباكستان على تعزيز علاقاتهما الدفاعية. في يناير (كانون الثاني) من هذا العام، التقى مسؤولون دفاعيون كبار من باكستان وبنغلاديش في راولبندي لمناقشة القضايا الأمنية ذات الاهتمام المشترك، مع التركيز على الأمن الإقليمي. ووصفت القيادة العسكرية الباكستانية العلاقة بين البلدين بأنها شراكة راسخة، تجمع بينهما مصلحة مشتركة في ضمان الاستقرار الإقليمي.
أحد العناصر الرئيسة للتعاون العسكري المتنامي هو اهتمام بنغلاديش بالحصول على طائرات (JF-17 Thunder) التي طورتها باكستان والصين على نحو مشترك. يمكن لهذه المقاتلة النفاثة المحلية أن تعزز قدرات الدفاع الجوي لبنغلاديش مقابل جزء بسيط من تكلفة البدائل الغربية، بما يتماشى مع مبادرة دكا المستمرة لتحديث جيشها. ويمكن لهذا الشراء المحتمل أن يعزز العلاقات الدفاعية المزدهرة بين البلدين لسنوات قادمة. كما تنوي بنغلاديش الحصول على صواريخ باليستية قصيرة المدى من باكستان. هذه التطورات لا تزال تكهنات، لكنها تشير إلى إعادة تقييم إستراتيجي أوسع.
بالإضافة إلى ذلك، أرسلت بنغلاديش سفينة حربية بحرية كبيرة، وهي “بي إن إس سامودرا جوي”، للمشاركة في مناورات “أمان- 25” البحرية المتعددة الجنسيات، التي نظمتها البحرية الباكستانية في شمال بحر العرب بالقرب من كراتشي. وتُعد هذه أول مشاركة لبنغلاديش في هذه المناورات البحرية منذ أكثر من عقد، مما يُبرز تحولها نحو إستراتيجية دفاعية أكثر انخراطًا إقليميًّا ونشاطًا دبلوماسيًّا في المحيط الهندي. وبمشاركة أكثر من 50 دولة، منها قوى كبرى مثل الصين وروسيا، عكست مشاركة بنغلاديش في مناورات “أمان- 25” اهتمامًا متجددًا بسياسة خارجية مستقلة، والانخراط في الأمن البحري الجماعي.
تُعدّ إحدى النتائج الإيجابية للعلاقات المتطورة بين بنغلاديش وباكستان فرصةً لإنعاش منصات إقليمية، مثل رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (سارك)، التي ظلت -إلى حد كبير- غير فعّالة بسبب التوترات الطويلة الأمد بين الهند وباكستان. إذا أبدت كلٌّ من إسلام آباد ونيودلهي استعدادًا حقيقيًّا للمشاركة بمسؤولية، فقد تبرز دكا، الأكثر توازنًا ومرونة دبلوماسية، كجهة مُيسّرة؛ مما يُشجّع على توثيق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين أعضاء رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.