أغلب التحليلات التي تتحدث عن غياب الدور الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء، وأنها خسرت قوتها الناعمة والخشنة في المنطقة، هي تحليلات منقوصة وغير دقيقة، وتتسم بالسطحية؛ لأن فرنسا ما زالت موجودة بقوة في تلك المنطقة، وتعمل على نحو دبلوماسي أقرب إلى المخابراتي خلال تواصلها مع كل الأطراف وممارسة إستراتيجيتها المعروفة بأن لكل “دعم مقابلًا ومصالح”.
كما أن الحديث عن تراجع الدور الفرنسي في ليبيا لحساب تعاظم الدور التركي والإيطالي والروسي هو حديث غير دقيق، وتنقصه الحقائق المتجددة عبر تنوع أدوات باريس في التعامل مع ملفات ليبيا، واختيارها التوقيت المناسب للتدخل والسيطرة على المصلحة.
والمتتبع للدور الفرنسي في ليبيا يتأكد له صفة “الديمومة” لهذا الدور، وإن قل في مرحلة، لكنه موجود، ورغم محاولات الولايات المتحدة الأمريكية تحجيمه، وجعله عبر بوابتها فقط، لكن باريس من وقت إلى آخر تتخذ خطوات تحمل دلالة أنها تعاند الدور الأمريكي “الأبوي” عليها، بل تحاول السير ضده أحيانًا.
وجاءت الزيارة المفاجئة وغير المعلنة لقائد القيادة العامة في ليبيا، المشير خليفة حفتر، إلى باريس، واستقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون له في قصر الإليزيه لتطرح تساؤلات عن أسباب عودة فرنسا إلى الرهان على حفتر والشرق الليبي، وأهدافها المرحلية الآن.
بعيدًا عن عنصر المفاجأة في الزيارة، فإن التوقيت كان مهمًّا ومدروسًا؛ لأنها جاءت بعد زيارة حفتر لبيلاروس، وتوقيعه اتفاقات عسكرية معها، وكذلك بعد زيارة ماكرون لواشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ ما يحمل دلالة وسياقات مختلفة للزيارة، تختلط فيها التوافقات مع التعليمات والرهانات والوعود.
وبخصوص ما نوقش بين ماكرون وحفتر، فتواردت الأنباء عبر الإعلام الفرنسي الرسمي بأن أهم المحاور بين الطرفين تلخصت في: طبيعة الاتفاقيات العسكرية التي وقّعها حفتر مع بيلاروس وتفاصيلها، والوجود الروسي المتعاظم في شرق ليبيا ووسطها، وملف آخر مهم، وربما يكون أهم عنوان للزيارة، وهو طرح باريس مقترحًا لحفتر تسعى من خلاله إلى الوجود في إحدى القواعد العسكرية بأقصى الجنوب الليبي على الحدود مع النيجر، وكذلك مطالبة حفتر بضرورة إطلاق سراح زعيم المعارضة النيجيرية محمود صلاح، الذي اعتقلته قوات حفتر مؤخرًا في منطقة “القطرون”، وفق إذاعة فرنسا الدولية.
لذا تلخصت الزيارة في “عرض وطلب” العروض جاءت من جانب فرنسا، التي أعطت لحفتر زخمًا لأنها تعرف أنه يهمه الشكل الظاهري في الاستقبال، والمبالغة في ذلك، وهو ما حققه له ماكرون من خلال استقباله في قصر الإليزيه على غرار استقبال رؤساء الدول، وهذه إشارة لحفتر بأنك قد تكون طرفًا مقبولًا لدى باريس حاكمًا لليبيا، سواء من خلال الانتخابات، أو بأدوات أخرى.
والعروض الفرنسية المقدمة للمشير الليبي تلخصت في: دور قوي لحفتر من خلال دعمه دوليًّا وأوروبيًّا، وتنظيف ملفاته الخاصة بحقوق الإنسان، ومشكلاته مع المحكمة الجنائية، وغيرها من الإشكالات الدولية معه، وكذلك الدعم العسكري من خلال اتفاقات جديدة تقدم له، وحمايته عسكريًّا مقابل أي انقلابات، أو هجوم، أو ضغوط، سواء في مناطق نفوذه، خاصة في الجنوب الليبي بعد أزمته مع الجنرال “الزادمة” هناك، وحماية حدوده من أي هجرة أو جماعات معارضة قادمة من تشاد، أو النيجر، أو السودان.
والطلبات الفرنسية تلخصت في: السماح بقاعدة عسكرية في الجنوب الليبي قريبة من النيجر وتشاد دون إحراج لحفتر مع حلفائه من المصريين أو الإماراتيين، وكذلك اعتبار فرنسا بديلًا موثوقًا به عن روسيا التي أصبحت إزاحتها من شرق ليبيا ووسطها توجهًا دوليًّا وإقليميًّا؛ لذا فإن باريس جاهزة لملء هذا الفراغ، لكن من خلال وجود رسمي، وليس مرتزقة على غرار “الفاغنر”.
وبالنظر إلى إستراتيجية “العرض والطلب” التي طرحتها فرنسا أمام حفتر، سنجد أن الأخير مستفيد، بل رابح جدًّا من هذه المعادلة، خاصة مع تراجع دعمه إقليميًّا ودوليًّا بعد تورطه في ملفات تصطدم مع حلفاء له، ومنها تقاربه الفج مع روسيا؛ ما أغضب الإدارة الأمريكية التي ترى أن التقارب مسموح لكن بشروط وتنسيق أمريكي، وصدامه مع أقوى حليف عربي له وهي دولة مصر؛ بدعمه قوات الدعم السريع في السودان بقيادة “حميدتي”، وهو ما أغضب القاهرة التي استقبلته منذ أقل من شهرين، ووجهت إليه انتقادًا يقترب من التوبيخ.
وربما يجد الجنرال الليبي فرصة في هذا التقارب للتخلص من كابوس الروس الذي كاد يخنقه ويضيع تحالفاته الدولية والأوروبية، ومؤكد هنا أن حفتر ليس من مصلحته التخلص من روسيا تمامًا، لكن تخفيف هذا التداخل الذي حاصره هو شخصيًّا، وحجّم تحركاته، وربما تكون فرنسا وقواعدها وقواتها بديلًا مقبولًا وخيارًا إستراتيجيًّا له؛ لأن فرنسا ما زالت محسوبة على القوى الغربية، وحليفة للولايات المتحدة، ومقبولة إقليميًّا لدى مصر وعدة قوى إقليمية، حتى تركيا التي تبدو في تنافس معها، لكن التنسيق بين هذه الدول هو سيد الموقف.
وجزء من التوجه الفرنسي النشط هو استكمال سياسة باريس التي تنتهجها مؤخرًا، وهي معاندة النفوذ الأمريكي عليها، ومحاولة إثبات أنها قوة بمفردها، وأنها تقود القوى الأوروبية كلها، ولا يمكن لواشنطن أن تستمر في ممارسة النفوذ وسياسة الأخ الأكبر عليها؛ لذا تحاول -من وقت إلى آخر- إحداث قفزات تظهر للعيان أنها ليست تابعة للولايات المتحدة؛ بل قوة أوروبية ذات قوة ومكانة.
وتحاول الولايات المتحدة معاقبة هذا التمرد الفرنسي بدعم التعاظم الروسي والتركي في ليبيا لتضيق الخناق على باريس، وتقلل حصتها في النفوذ هناك؛ لذا فإن التوجه الفرنسي الجديد مع حفتر يصب في منهجية باريس في الخروج من النفوذ الأمريكي، وتصدير صورة نمطية للجميع بأنها قوة مستقلة وستتحرك بكل أريحية، حتى لو كان في ذلك معارضة لواشنطن ومصالحها في المنطقة.
الخلاصة: الدور الفرنسي الجديد في ليبيا قد يكون خطوة لمحاولة ملء الفراغ الروسي، أو أي فراغ كان يعتمد عليه حفتر مع التغيرات الإقليمية والجيوسياسية في المنطقة، وتستغل فرنسا هنا تعطش حفتر للعودة بقوة إلى المشهد، بل السيطرة عليه في ليبيا، سواء من خلال ترشحه للرئاسة والفوز بها، أو السيطرة على مقاليد الحكم بدعم دولي وتوافقات وتوازنات؛ لذا من المتوقع أن يتماهى حفتر جدًّا مع الإغراءات الفرنسية الجديدة، خاصة السياسية والعسكرية منها، وربما يسمح لها فعلًا بوجود عسكري في الجنوب، خاصة أن المنطقة الجنوبية التي تعد من مناطق نفوذه تشهد حالة تمرد وخروج من تحت عباءة المشير، وهو في حاجة ماسة إلى ضبط الأمور هناك، وضمان نفوذه وسيطرته؛ لذا قد يكون الوجود الفرنسي هو الخيار الإستراتيجي لحفتر في هذه المرحلة، خاصة أن باريس تعاند وترفض التعاظم للدور الروسي في ليبيا، وتراها معطلًا لمصالحها، فهل سنرى قاعدة عسكرية فرنسية في الجنوب الليبي من خلال اتفاق جديد مع حفتر، أم سترفض القوى الغربية -وفي مقدمتها الولايات المتحدة- أي وجود فرنسي عسكري في مناطق نفوذها؛ لأن واشنطن تفضل روسيا على فرنسا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.