تشهد منطقة الشرق الأوسط تصعيدًا غير مسبوق مع اندلاع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران في يونيو (حزيران) 2025، وهي حرب تحولت من صراع بالوكالة إلى مواجهة مفتوحة تستهدف العمق الإستراتيجي لكلا البلدين. وسط هذا الصراع العنيف، تبرز غزة بوصفها واحدة من أكثر المناطق تضررًا، ليس بسبب استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية ضدها فحسب؛ بل أيضًا لأن التركيز الدولي والإقليمي تحول بعيدًا عن معاناتها المستمرة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023. يهدف تقدير الموقف هذا إلى تحليل تأثير الحرب الإسرائيلية- الإيرانية على غزة، وتوضيح كيف أصبحت غزة الخاسر الأكبر في هذا السياق؟
بدأت الحرب الإسرائيلية- الإيرانية في 13 يونيو (حزيران) 2025، عندما شنت إسرائيل سلسلة ضربات جوية واسعة النطاق على أهداف إيرانية، شملت منشآت نووية ومصانع صواريخ باليستية، بالإضافة إلى اغتيال قادة عسكريين ونوويين بارزين. هذه العملية، التي أطلق عليها اسم “عَم كِلافي”، كانت جزءًا من إستراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تحييد البرنامج النووي الإيراني، الذي تراه تهديدًا وجوديًّا.
ردت إيران بهجمات صاروخية استهدفت مدنًا ومواقع عسكرية إسرائيلية؛ مما أدى إلى تصعيد سريع. هذا التحول من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة يعكس تغييرًا جذريًّا في ديناميكيات الصراع، حيث أصبحت إسرائيل وإيران تستهدف كل منهما الأخرى علنًا. الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترمب، دعمت إسرائيل عسكريًّا، بما في ذلك ضربات على ثلاث منشآت نووية إيرانية في اليوم التاسع من الحرب. هذا الصراع، الذي يُعد تحولًا نوعيًّا من النزاع بالوكالة إلى المواجهة المباشرة، أعاد تشكيل ديناميكيات المنطقة.
مع أن غزة ليست طرفًا مباشرًا في هذه الحرب، فإنها عانت تداعياتها على نحو كبير؛ فمنذ هجوم “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، الذي قادته حركة حماس، تعرضت غزة لحملة عسكرية إسرائيلية مكثفة أودت بحياة عشرات الآلاف، ودمرت البنية التحتية تدميرًا شبه كامل. ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية- الإيرانية، تفاقمت معاناة غزة بسبب استمرار القصف الإسرائيلي، وتراجع الاهتمام الدولي.
تأثير الحرب على غزة.. أبعاد متعددة
- البعد الإنساني
منذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، عانى القطاع دمارًا كبيرًا نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت حركة حماس. بحلول يونيو (حزيران) 2025، أفادت وزارة الصحة في غزة بمقتل أكثر من (55,637) شخصًا، وإصابة (129,880) آخرين. ومع ذلك، فإن التصعيد الإسرائيلي- الإيراني أدى إلى تقليص الاهتمام الدولي بغزة؛ مما زاد عزلتها. تقارير من داخل القطاع تشير إلى أن القصف الإسرائيلي لم يتوقف، حيث سجلت (144) حالة وفاة، و(560) إصابة خلال (24) ساعة في منتصف يونيو 2025، نتيجة استهداف مناطق مكتظة بالنازحين.
إن انشغال وسائل الإعلام العالمية بالحرب الإسرائيلية- الإيرانية قلل من التغطية الإعلامية للأزمة الإنسانية في غزة. وهذا التحول أثار قلق سكان القطاع من أن يؤدي التركيز على إيران إلى إهمال قضية غزة تمامًا. كما أن استمرار الحصار الإسرائيلي وتقلص المساعدات الإنسانية، بسبب إعادة توجيه الموارد الدولية نحو الصراع الجديد، زادا خطر المجاعة. - التحول في الأولويات الإسرائيلية
تعتبر إسرائيل المواجهة مع إيران أولوية قصوى؛ لتصورها البرنامج النووي الإيراني تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. تصريحات القادة الإسرائيليين، التي أكدت أن الهدف هو “إضعاف إيران بشكل دائم”، تعكس هذا التوجه الإستراتيجي. العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي شملت ضربات جوية وهجمات سيبرانية، استهدفت إضعاف البنية التحتية العسكرية والاقتصادية الإيرانية؛ مما استنزف جزءًا كبيرًا من الموارد العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية.
على الرغم من هذا التركيز، لم تتوقف العمليات العسكرية في غزة. القصف اليومي، الذي يستهدف مواقع يُزعم أنها تابعة لحماس، يعكس إستراتيجية إسرائيلية تهدف إلى منع أي محاولات لإعادة تنظيم المقاومة الفلسطينية. ومع ذلك، فإن تقليص الموارد المخصصة لغزة، مقارنة بالجهود المبذولة ضد إيران، أدى إلى اعتماد إسرائيل على أنظمة دفاعية وهجمات جوية آلية، مما زاد الخسائر المدنية دون تحقيق تقدم إستراتيجي واضح في القطاع. هذا الوضع أثار انتقادات داخلية في إسرائيل، حيث يرى بعض المحللين أن استمرار الصراع في غزة يشتت الجهود عن المواجهة الرئيسية مع إيران. - إيران وحماس.. علاقة معقدة
تاريخيًّا، دعمت إيران حركة حماس بوصفها جزءًا من “محور المقاومة” ضد إسرائيل، من خلال تقديم الدعم العسكري واللوجستي. ومع ذلك، فإن الحرب الإسرائيلية- الإيرانية كشفت عن حدود هذه العلاقة، فإيران -في محاولة للحد من خسائرها الداخلية- سعت إلى التفاوض مع الولايات المتحدة وإسرائيل لإنهاء الأعمال القتالية بسرعة. هذه الخطوة تضمنت اتفاقًا لوقف إطلاق النار لم يتضمن ذكر غزة أو فلسطين، ولا شك أن هذا كان انحيازًا واضحًا إلى مصالح طهران على حساب حلفائها في حماس.
كما أن قرار حماس تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 دون تنسيق كامل مع إيران -بحسب تصريحات قيادات حماس وحزب الله- يعكس استقلالية الحركة في اتخاذ القرار. هذا الاستقلال جعل إيران مترددة في الانخراط في حرب شاملة لدعم غزة، خوفًا من استنزاف مواردها في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. نتيجة لذلك، وجدت غزة نفسها معزولة سياسيًّا، حيث لم تحصل على الدعم العسكري أو الدبلوماسي المتوقع من إيران. - الدور الدولي والإقليمي
على الصعيد الدولي، أدت الحرب الإسرائيلية- الإيرانية إلى تعقيد الجهود لمعالجة الأزمة في غزة. الولايات المتحدة، التي تقدم دعمًا مطلقًا لإسرائيل، واجهت معضلة بين منع اتساع الحرب وتلبية التزاماتها تجاه حليفتها. تصريحات ترمب، التي أكدت أن “صبره مع إيران قد نفد”، تعكس الضغوط الداخلية والخارجية لاتخاذ موقف حازم، لكن تحذيرات البيت الأبيض من “مخاطر حرب إقليمية شاملة” تشير إلى رغبة في احتواء التصعيد. هذا التوازن الدقيق جعل الجهود الأمريكية للتوسط في وقف إطلاق النار في غزة ثانوية مقارنة بالتركيز على إيران.
أما الاتحاد الأوروبي، الذي أعرب عن قلقه إزاء الوضع الإنساني في غزة، فواجه قيودًا في التأثير على الأحداث بسبب انقسامات داخلية وانشغاله بالحرب الإسرائيلية- الإيرانية. كما أن الأمم المتحدة، التي دعت مرارًا إلى وقف إطلاق النار في غزة، وجدت نفسها عاجزة عن فرض قراراتها في ظل “الفيتو” الأمريكي في مجلس الأمن. هذا الشلل الدولي زاد شعور سكان غزة باليأس، حيث يرون أن قضيتهم أصبحت رهينة الصراعات الإقليمية.
على الصعيد الإقليمي، تبنت دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، موقفًا حذرًا من الحرب الإسرائيلية- الإيرانية. هذه الدول، التي أدانت الهجمات الإسرائيلية على إيران، أعربت عن قلقها من أن انهيار النظام الإيراني قد يؤدي إلى فوضى إقليمية؛ مما يهدد مصالحها الاقتصادية والأمنية. أما حزب الله اللبناني، الذي يُعد الحليف الأقرب لإيران، فتبنى موقفًا داعمًا لطهران، ولكنه تجنب الانخراط في حرب شاملة، خوفًا من تدمير لبنان. هذا الحذر يعكس التحديات التي تواجه “محور المقاومة”، حيث تضع كل جهة مصالحها الخاصة فوق الأولويات الجماعية. أما غزة، فإن غياب دعم إقليمي فعال، سواء من إيران أو حلفائها، زاد شعور السكان بالعزلة؛ مما يهدد بتعميق الانقسامات داخل الفصائل الفلسطينية.
التداعيات المستقبلية على قطاع غزة
- تفاقم الأزمة الإنسانية: من المتوقع أن يستمر تدهور الوضع الإنساني في غزة، مع استمرار الحصار وتقلص المساعدات، وسيصبح خطر المجاعة والأوبئة أكثر حدة، خاصة مع انخفاض إمدادات الكهرباء إلى أقل من ساعتين يوميًّا، وتلوث (90%) من مصادر المياه. هذا التدهور قد يؤدي إلى أزمة ديموغرافية، مع احتمال هجرة جماعية إذا سمحت إسرائيل بفتح المعابر.
- عزلة سياسية متزايدة: غياب غزة عن أجندة المفاوضات الإسرائيلية- الإيرانية يشير إلى تراجع القضية الفلسطينية في الأولويات الإقليمية. حماس قد تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع دول مثل تركيا أو قطر، لكن خياراتها محدودة في ظل الضغوط الدولية.
- تصعيد عسكري محدود: على الرغم من تركيز إسرائيل على إيران، فإن أي هجوم كبير من حماس قد يعيد غزة إلى صدارة الصراع. ومع ذلك، فإن استنزاف قدرات المقاومة بعد عامين من الحرب يجعل هذا السيناريو غير مرجح في المدى القصير.
- تحديات دبلوماسية مستمرة: الجهود الدولية للتوسط في وقف إطلاق النار في غزة ستواجه عقبات، خاصة مع انشغال القوى الكبرى بالحرب الإسرائيلية- الإيرانية. دول مثل مصر والأردن قد تؤدي دورًا أكبر في الوساطة، لكن نجاح هذه الجهود يعتمد على الضغط الدولي على إسرائيل.
- إعادة تشكيل المنطقة: نجاح إسرائيل في إضعاف إيران قد يعزز هيمنتها الإقليمية، لكنه قد يؤدي إلى ظهور جماعات متطرفة جديدة تستغل الفراغ السياسي. بالنسبة لغزة، فإن هذا الوضع قد يعني استمرار الصراع مع إسرائيل دون دعم إقليمي كافٍ.
تُعد غزة الخاسر الأكبر في الحرب الإسرائيلية- الإيرانية؛ إذ تتحمل وطأة الصراع الإقليمي دون أن تكون طرفًا مباشرًا فيه. وتفاقم الأزمة الإنسانية، وتراجع الدعم الإقليمي، وتحول الأولويات الدولية، جعلت القطاع يواجه مصيرًا مأساويًّا. ولتجنب كارثة إنسانية غير مسبوقة، يتطلب الأمر تدخلًا دوليًّا عاجلًا يركز على وقف إطلاق النار، وفتح المعابر من طرف إسرائيل، وإعادة إحياء الجهود الدبلوماسية لدعم القضية الفلسطينية. دون ذلك، ستبقى غزة رهينة الصراعات الإقليمية، مع تداعيات تهدد استقرار المنطقة بكاملها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.