إن صعود السياسات الاقتصادية التي يحركها الأمن في البلدان الصناعية، يعطي مساحة للتفكير السياسي الرجعي المنغلق، وهذا الأمر يؤثر في صياغة إستراتيجيات التنمية في وقت حرج في البلدان التي تقف على أعتاب إنجازات تنموية كبرى، مثل الهند.
تعمل الجغرافيا السياسية على تغيير مشهد السياسة الاقتصادية العالمية. وقد شهدت خلفية المنافسة والصراعات الإستراتيجية اليوم عودة السياسة الصناعية في البلدان المتقدمة، مدفوعة بمنطق قائم على الأمن، ممزوج بنهج في التعامل مع تحول الطاقة لا يشترط فرض ضريبة على الكربون. لقد حدث انفجار في التدخلات التجارية، والسياسات الصناعية والإعانات؛ مما أدى إلى تفاقم التهديد الذي يواجهه الاقتصاد العالمي بسبب الانتقاص الواسع النطاق من قواعد التجارة العالمية.
فكيف ينبغي للاقتصادات النامية، مثل الهند، أن تبحر في هذه البيئة السياسية، حيث يجد الاكتفاء الذاتي وإستراتيجيات استبدال الواردات استحسانًا جديدًا قويًّا؟
لقد أحدثت اقتصادات شرق آسيا التحول المهم الوحيد من التخلف الاقتصادي إلى وضع الاقتصاد المتقدم في العصر الحديث؛ لذا فمن الحكمة أن نفهم الدروس المستفادة من معجزة النمو في شرق آسيا، التي لا تزال صحيحة حتى يومنا هذا. وينبغي للاقتصادات النامية، المقيدة بقدراتها المالية، أن تتذكر هدر وعدم جدوى السياسات الصناعية السابقة التي تجاهلت خلق المنافع العامة لإرساء أسباب النمو الصناعي الواسع.
إن التنمية الناجحة في شرق آسيا، استنادًا إلى الخبرة التاريخية لليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، وجنوب شرق آسيا، والصين، تأسست على النمو الموجه نحو التجارة (المرتكز على ضوابط المشاركة في الأسواق الدولية)، والاندماج مع الاقتصاد الدولي، وعدم الانغلاق أو الاعتماد على إحلال الواردات. وكان النمو التجاري السريع الذي تمتعت به هذه الاقتصادات مدفوعًا بالعرض، ومبنيًا على توسيع حصة السوق في الصناعات القديمة الراسخة، وليس توسيع التجارة في قطاعات جديدة عالية النمو في الاقتصاد العالمي. ووُجِّهَت الاستثمارات الحكومية نحو البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية في مجال السلع العامة، مثل الطرق، والمدارس، مع الانسحاب من مشاركة الدولة في المشروعات.
اليوم، يبدو أن صناع السياسات يعيشون عصرًا مختلفًا. إن الأحداث المحلية، والظروف الجيوسياسية تهدد باحتمال ركود النمو في الاقتصادات الصناعية الكبيرة، ويبدو أن العولمة قد بلغت ذروتها، والاقتصاد الدولي أصبح مجزأ، وتكتسح السياسات المرضية التي تفضل الاكتفاء الذاتي، والسياسة الصناعية البديلة للواردات، جميع أنحاء العالم.
إن القول المجاز بأن التوقعات الأقل تفاؤلًا لنمو السوق العالمية توصي الآن بأن تتجه الاقتصادات الناشئة إلى الاستعاضة عن الواردات بالتوجه إلى الداخل، لا ينسجم مع تجربة النمو الصناعي الناجح في آسيا. وفي السياق الاقتصادي الدولي، تعني التنمية جذب العمالة الوفيرة المنتجة، ورفع الإنتاجية والدخل الوطني؛ ومن ثم فإن الإستراتيجيات الداعمة للتنمية هي تلك التي تفضل التخصص في تصدير المنتجات الكثيفة العمالة، مما يجذب كميات كبيرة من العمالة إلى الإنتاج التنافسي دوليًّا، والتوظيف الأعلى إنتاجية. ومع تراكم رأس المال، تدفع الميزة النسبية الديناميكية هيكل تجارة التصدير الأكثر كثافة في مجال التكنولوجيا مع مرور الوقت.
إن الاتجاه الأخير نحو الاعتماد على الذات والأمن، جعل البلدان تؤكد إنتاج سلع ذات تكنولوجيا عالية وكثيفة رأس المال منذ البداية. ويتطلب التركيز على هذه القطاعات عمالة ماهرة، وهي نادرة مقارنة بوفرة العمالة غير الماهرة، ونفقات حكومية باهظة الثمن، تأتي على حساب توفير البنية التحتية الحكومية الأساسية؛ لذا فإن الفشل في خلق فرص العمل يخاطر بترسيخ عدم المساواة، واستنزاف الموارد العامة بشكل غير مستدام إذا تقدمت شعب دولة ما في السن قبل أن تصبح غنية.
إن النمو الناجح الموجه نحو التجارة يأتي من استيعاب العمالة في الصناعات القادرة على الاستفادة من وفرة العمالة، وترسيخ القدرة التنافسية الدولية. والقيام بهذا من شأنه أن يسمح للدول بالاستحواذ على حصص أسواق غيرها، مع تطور المزايا النسبية، وهي العملية التي يضمنها نظام سياسي يقوم على مبادئ عدم التمييز، والأسواق المفتوحة. حتى في فترة النمو البطيء، فإن منطق الميزة النسبية لا يزال قائمًا. وتعمل سياسات إحلال الواردات على تقويض هذا التحول من خلال تقييد القدرة على الوصول إلى رأس المال المنخفض التكلفة، والعالي الجودة، والوسائل التكنولوجية؛ مما يمنع الشركات من تحقيق القدرة التنافسية الدولية.
من المؤكد أن المعجزة الاقتصادية في شرق آسيا كانت قصة أكثر فوضوية وتعقيدًا مما صُوِّرَ في بعض الأحيان في السرد الذي يصف سماتها الرئيسة. وفي اليابان، وشمال شرق آسيا، وسنغافورة، والصين، وجنوب شرق آسيا، صيغت إستراتيجيات السياسات التي قادت النجاح في بيئات مؤسسية وسياسية مختلفة، وكان لكل منها طابعها الوطني المميز. ولقد أسهمت خصوصيات السياسات، والسياق التكنولوجي، والحجم الجغرافي، والموقع في تشكيل مسارات وأنماط وطنية معينة للتنمية في جميع أنحاء المنطقة.
لكن بعض العوامل كانت موجودة في كل مكان خلال تجربة شرق آسيا، وكان الانفتاح على المنافسة من الأسواق الأجنبية، واحتضان الاستثمار الدولي، عنصرين أساسيين في تحقيق النمو السريع، من خلال تمكين الوصول إلى المدخلات التي سهلت استيعاب العمالة المحلية الوفيرة في العمالة الإنتاجية في مجال التصنيع. وبالإضافة إلى الإصلاحات المحلية لدعم الانفتاح، فإن زيادة تعبئة استثمارات الدولة في التعليم، والصحة، والنقل، وشبكات الاتصالات، والبنية التحتية الصناعية الداعمة، وانخفاض حصص الدولة في المؤسسات الاقتصادية، وتخصيص رأس المال، كانت نموذجًا للسياسة الصناعية الناجحة في جميع أنحاء المنطقة، ولم تكن الصين استثناءً من هذه المبادئ، أو من هذه التجربة.
أخيرًا، تُعد الهند من أكثر الدول المرشحة الواعدة في آسيا للتصنيع التحويلي على مدى العقود القليلة المقبلة، وتقف عند منعطف حاسم في مسارات التنمية، كما أن سكانها الشباب، والأداء الاقتصادي القوي الأخير، يضعانها في مكانة ديموغرافية جيدة. ومع ذلك، فإن البلد معرض لخطر الوقوع تحت وطأة السياسة الصناعية التي تستهدف الداخل المحلي؛ لذا مِن المهم مواءمة إستراتيجياتها التنموية مع المبادئ المستمدة من تجربة شرق آسيا، وهذا يضعها في وضع أفضل، يسمح لها بتحقيق إمكاناتها الاقتصادية، وتجنب الخطر الذي يواجهها الآن، المتمثل في تباطؤ النمو، والبطالة.