يرى الجنرال والمؤرخ العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، أن الحرب ظاهرة تتكون من ثلاثة عناصر مركزية، أو اتجاهات مهيمنة. هذا الثالوث هو علاقة متناقضة تتكون من “العنف البدائي، والكراهية، والعداوة”. كما يرى أنه كلما كان الوضع أكثر كآبة ويأسًا؛ زاد احتمال “دمج المكر في الجرأة”، من أجل تركيز بصيص من الأمل “الذي قد يشعل نارًا”. هذه هي الطريقة الصحيحة لفهم الأحداث الأخيرة. والهدف هو فرض تغيير في الحسابات السياسية والعسكرية الحالية، التي كانت فعالة عام 1973، وعام 2006 في حرب حزب الله. وبغض النظر عن الصدع التكنولوجي بين الطرفين، فإن البعد الإنساني والمعنوي للحرب ستكون له الأولوية دائمًا.
والغرض هنا هو الحث على غزو بري لغزة بواسطة المدرعات الإسرائيلية. لدى حماس من مضادات للدبابات التي صنعت في غزة، وترغب في أن تكون عبرة من خلال تدمير الدبابات في الشوارع المزدحمة.
لقد حدث عبر التاريخ أن مجتمعًا متخلفًا على حافة الحضارة يقوده كهنة محاربون يفاجئ المجتمع المنحط المتقدم بهزيمة كارثية، وقد أنشأ ابن خلدون نظرية للتاريخ بناءً عليها. لقد أصبحت الأسلحة الصغيرة الجيدة منتشرة في كل مكان على مستوى العالم. الأسلحة الصغيرة أفضل بكثير، وأرخص، وأكثر انتشارًا بكثير. وفي كثير من الأحيان، لم يكن لدى الفلسطينيين أسلحة كلاشينكوف خلال الانتفاضات السابقة.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم حماس ما يسمى “الإستراتيجية الجماهيرية”، وهو نهج يستخدم فيه عدد كبير من السكان الشباب، والأقل تطورًا، التسامح مع الضحايا العسكريين والمدنيين كسلاح غير متماثل ضد السكان الأكثر تطورًا. إستراتيجية استخدمها كل جيوش حروب العصابات منذ مايكل كولينز. متوسط الأعمار والشجرة السكانية الفلسطينية، تمنحهم القدرة على تكبد خسائر فادحة بطريقة لا يمكن أن تتصورها المجتمعات المعاصرة، التي أصبحت أكثر نفورًا من تقديم ضحايا مع تقدمها التكنولوجي. ومع مرور الوقت، يصبح الأمر أكثر صعوبة على أي حكومة مركزية لقمع مجتمعات تنمو ديموغرافيًّا، وترغب في القتال.
وكلما زاد عدم التماثل في التنمية بين المتمردين والسلطة؛ زادت احتمالات فوز المتمردين.
بالكاد نجت الهيمنة الأمريكية (وعلى نحو غير متوقع إلى حد ما) من حرب الشرق الأوسط الأخيرة. لا أستطيع التفكير في طريقة أسرع لإنهاء الأمر من الانخراط في الجولة الثانية. حتى الآن لم تتضح الأهداف لحرب كهذه؛ مما يصعب الخروج بانتصار بعد القتال. فيما يتعلق بالأساسيات المطلقة، كنت متفائلًا بشأن آفاق أمريكا على المدى الطويل، وكتبت في هذا الاتجاه، لكن نشوب حرب إقليمية كبرى في الشرق الأوسط بمشاركة قتالية أمريكية هو السيناريو الأسوأ، فهي مصممة كطلقة قاتلة ضد الفيل الكبير. أصعب سؤال يمكن الإجابة عنه: كيف تبقى خارجًا؟ ولا يساعد أن الكونغرس الأمريكي مكتظ بأعضاء من الطوائف الذين يعتقدون أن إسرائيل سوف تجلب- بطريقة أو بأخرى- نهاية الأيام.
في الوقت الحالي، يعاني النظام السياسي الإسرائيلي من اختلال وظيفي عميق، ويعيش في حالة أزمة فكرية. لقد تسببت عملية حماس في وقوع خسائر في صفوف الإسرائيليين أكبر من تلك التي تكبدتها في الحروب السابقة، وهذا يعني أن الوضع الراهن في إسرائيل- الدولة الاستيطانية في صراع مع السكان الأصليين- يبدو قاتمًا. ومن أجل البقاء، تحتاج إسرائيل إلى أن تكون قادرة على التغلب عسكريًّا على “السكان الأصليين”، أو على الأقل ردعهم.
لقد دمرت حماس هذا الردع، ووضعت علامة استفهام ضخمة عما إذا كان جيش الدفاع الإسرائيلي قويًّا بما يكفي للتغلب فعليًّا على أعداء إسرائيل وجيرانها الذين وقعت معهم اتفاقيات “السلام”.
وهذا يعني أن الأولوية الآن هي أن يعيد نتنياهو ترسيخ الشعور بأن إسرائيل لا تقهر، أو على الأقل التفوق الكبير. إن “تدمير” حماس (ما يعنيه هذا من الناحية العملية ما زال علامة استفهام) هو ضرورة وطنية ونفسية. ومع ذلك، فإن إسرائيل وصلت إلى نقطة لا يمكنها فيها غزو قطاع غزة دون تكبد خسائر كارثية محتملة، وإظهار نقاط ضعف الجيش الإسرائيلي بشكل أكبر. القتال في المناطق الحضرية في حالة خراب هو كابوس، وجنود الاحتياط في جيش الدفاع الإسرائيلي غير متدربين على ذلك. والمشكلة هنا أيضًا هي أن الجبهة الشمالية لإسرائيل مكشوفة على نطاق عريض، وأن البلاد تنزف ببطء من الصواريخ الاعتراضية الباهظة الثمن “القبة الحديدية”. وفور نفاد هذه الصواريخ، ستصبح البلاد في وضع حرج.
لقد أراد الإسرائيليون “جيشاً صغيراً وذكياً”، لكنهم انتهوا بكاريكاتير. الإسرائيليون يعرفون ذلك، والعرب يرون ذلك. وتسعى إسرائيل بشدة إلى استعادة قوة الردع.
لم تنتصر إسرائيل في أي حرب برية منذ عام 1967، وحتى في ذلك الوقت، اعتمدت على الضربة الاستباقية. إنها تتمتع بخبرة كبيرة في الاحتلال العسكري وإسقاط القنابل من السماء على المدنيين، لكنها تخشى القتال وجهاً لوجه أو القتال في المناطق الحضرية وحرب العصابات.
علاوة على ذلك، فإن إسرائيل عالقة في ديناميكية متصاعدة مع حزب الله على حدودها الشمالية. ويتعامل الحزب مع الوضع بحذر شديد. وتتمثل أهدافها العسكرية في الاشتباك مع قوات كبيرة من جيش الدفاع الإسرائيلي في الشمال، والقضاء على قوة الردع الإسرائيلية، وتهديد إسرائيل بقوتها الباليستية الهائلة. لقد حقق حزب الله كل ما سبق.
واستدعت إسرائيل ما يصل إلى 380 ألف جندي احتياط حتى الآن. وهذا هو حجم الجيش الروسي الذي تنشره روسيا في أوكرانيا في الوقت الحالي. ومع ذلك، لا تستطيع إسرائيل أن تبقي الحرب إلى الأبد. البلاد مشلولة تماما. إسرائيل لم تُبنى لحروب طويلة. إنها تحتاج إلى نصر سريع وحاسم.
ولكن هناك مشكلة واحدة حاسمة. العرب يعرفون كل ذلك. حزب الله لن يتدخل عندما تحتاج إسرائيل. ومن الواضح أن أعداء إسرائيل أثبتوا أنهم أكثر تطوراً قليلاً من حكومة نتنياهو وقيادة جيش الدفاع الإسرائيلي. لقد قرروا إبقاء إسرائيل في حالة انتشار كامل في الشمال، في الضفة الغربية، في البلدات والقرى العربية الإسرائيلية. مثل هذه الإستراتيجية تجعل إسرائيل تنشر قواتها في 4 ساحات محتملة صعبة للغاية وفي حالة تأهب كامل. ولا تمتلك إسرائيل ما يكفي من الدبابات والقوات البرية في أي من ساحات القتال المحتملة هذه.
ولدى أعداء إسرائيل أسباب وجيهة للاعتقاد أن هذه الإستراتيجية ستكسر الإسرائيليين روحيًّا وستكسرهم سياسيًّا؛ لأن البلاد منقسمة إلى حد كبير في البداية.
لا تستطيع إسرائيل أن تهاجم؛ لأن القيام بذلك يعني كشف نفسها على جبهتين، هذا بجانب “الخطوط الخلفية” في الضفة الغربية وإسرائيل. ولا يجوز لها أن تمتنع عن الهجوم؛ لأن عدم الهجوم يعني تقبل حقيقة مفادها أن “روديسيا” الأمريكية لم تعد قادرة على الفوز على مواطنيها الأصليين. إن السبيل الوحيد أمام إسرائيل للبقاء هو تأسيس ديناميكية غير عدائية مع بقية المنطقة.
هذه هي الطريقة الوحيدة لإنجاحها. وحتى التقارب السعودي الإسرائيلي تضمن مطالبة السعوديين بحل القضية الفلسطينية.
ونتيجة لذلك فإن “الإستراتيجية” الإسرائيلية الآن هي حالة شلل إستراتيجي وتكتيكي. يستمر الهجوم على غزة في التوسع والتأجيل، في حين تحاول إسرائيل جاهدة منع وصول شحنات الغذاء إلى قطاع غزة. ومن الواضح أنهم يعتزمون الضغط على السكان. ومع ذلك، فإن هذا لن ينجح.
حماس لن تموت جوعًا؛ لأنها إذا استطاعت تخزين 5000 صاروخ في شبكة أنفاقها، فإنها تستطيع تخزين الماء والغذاء، بعد النقطة التي يموت فيها جميع المدنيين جوعًا؛ ومن ثم فإنه عليك أن تقتل الملايين من أجل تجويع حماس. ولكن من الواضح أن الخطة منذ البداية كانت تتمثل في تجويع حماس، ولهذا السبب كانت الجهود الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة مركزة على محاولة إقناع المصريين- أو أي طرف آخر- باستيعاب جميع سكان غزة.
باعتبارها مسألة أمن قومي، إذا هُجِّرَ مليونا فلسطيني إلى سيناء، فقد يكون ذلك نهاية لشرعية النظام المصري. وحتى هذا الخيار لن ينهي حماس. ولدى حماس بالفعل عدة طرق للحصول على ما يمكنها من استكمال القتال. وإذا أصبحت سيناء “غزة الجديدة”، فإن حماس ستبدأ بإعادة البناء على الجانب المصري، حيث ستتمتع أيضًا بميزة تجنيد الملايين من المصريين الغاضبين والعاطلين عن العمل.
وفق العديد من المحللين، شعرت مصر بأن “الممر الهندي- الشرق أوسطي- الأوروبي” يتجاهل ويتجاوز مصالحها، ويقلل من قيمة الاستثمارات الضخمة التي قامت بها في تحديث البنية التحتية الخاصة بها. بالإضافة إلى ذلك، أعادت القاهرة علاقاتها مع حماس في عام 2018، وفتحت حدودها مع غزة، وبعد وقت قصير تمكنت حماس من بناء صواريخ بأمدية تصل إلى تل أبيب والقدس، وكان المحفز الرئيس لذلك هو التدخلات الإسرائيلية المزعزعة للاستقرار في القرن الإفريقي والسودان، على الحدود الجنوبية لمصر.
ومن ثم، ليس من قبيل المبالغة أن يقال إن مصر سوف تمزق اتفاقيات كامب ديفيد، أو حتى تبدأ سرًا بتزويد حماس بالأسلحة بدلًا من قبول هذه المخرجات.
والأردن أيضًا لن يسمح بذلك أبدًا. وفي الأردن، هناك خوف من أنه إذا حدث نقل للسكان في غزة، فستكون الضفة الغربية هي التالية. وشهد الأردن بالفعل حربًا أهلية استمرت عشرة أشهر في السبعينيات عندما تمركز مسلحون فلسطينيون هناك لمحاربة إسرائيل. أبرمت مصر والأردن أطول معاهدات سلام دائمة مع إسرائيل. وتعرضهما لضغوط كهذه هو مؤشر على مدى تدهور العلاقات.
يمكنك أن تطلب من حلفائك أشياء كثيرة، ولكن لا يمكنك أن تطلب منهم أن يقطعوا شريانهم!
إذا أمكن إخلاء غزة من المدنيين، فيمكن تجويع حماس دون قتل مليون طفل، لكن جميع الدول المحيطة بإسرائيل رفضت ذلك رفضًا قاطعًا. وقالت مصر- على وجه الخصوص- إن محاولات التطهير العرقي في غزة ستؤدي إلى الحرب. من الناحية النظرية، يمكنك إعادة توطين هؤلاء الفلسطينيين في أوروبا، لكن مجرد اقتراح بذلك من شأنه أن يؤدي على الفور إلى تفجير أي نوع من الدعم المتبقي لإسرائيل الموجود في أوروبا. سيكون انتحارًا سياسيًّا واقتصاديًّا.
إذن، لدينا الآن الوضع الأساسي: على إسرائيل أن تهاجم، لكنها لا تعتقد أنها قادرة على الفوز. كما أنها لا تعتقد أنها تستطيع البقاء على قيد الحياة بدون الهجوم. إن إستراتيجيتها المفضلة، التجويع، من غير الممكن أن تنجح من دون التسبب في إبادة جماعية واسعة النطاق؛ لأن خيار تهجير المدنيين سقط. لا تستطيع إسرائيل أن تتوصل إلى قرار، ولا تستطيع المضي قدمًا، ولا يمكنها العودة إلى الوراء، وسوف تظل واقفة في مكانها وعدد القتلى المدنيين يرتفع، وهذا سيفرض نوعًا من التدخل من الدول المجاورة، بدءًا بلبنان.
بالإضافة إلى ذلك، كلما طال أمد هذا الصراع؛ زاد نزيف الدعم لإسرائيل، ولكن هذا ليس مثل حرب 2008، أو حرب 2014،، حيث تستطيع إسرائيل- ببساطة- العودة إلى الوضع الراهن. لقد تم الحفاظ على الوضع الراهن من خلال قوة الردع الإسرائيلية، وتفوق الجيش الإسرائيلي، وهما أمران ميتان. إن عمليات التطهير العرقي في الضفة الغربية هي السيناريو المرجح في الوقت الحالي. العنف المدني العشوائي ضد الفلسطينيين، بموافقة ضمنية أو علنية من الجيش الإسرائيلي. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى زيادة العزلة الدبلوماسية لإسرائيل، ويجعل من المرجح أن تتدخل الجهات المحايدة (الأردن، وتركيا، ومصر).
والنتيجة الأكثر ترجيحًا هي مناورة برية لحفظ ماء الوجه، دون أن تصل إلى غزو واسع النطاق، وإعلان النصر والانسحاب. ونتيجة هذه الجولة من القتال هي أن إسرائيل لم تعد أكثر أمانًا، وتضررت العلاقات مع الشركاء على المدى الطويل (مصر، والأردن)، وأصبح من المستحيل على السعودية التطبيع دون تنفيذ حل الدولتين. إن الضرر الذي لحق بسمعة الولايات المتحدة في المنطقة لا يمكن إصلاحه، بالإضافة إلى أن حماس تستطيع أن تدعي النصر لأنها لم تُدمر. وأسوأ من ذلك أن حماس رسخت نفسها كواقع سياسي لا يمكن تجاهله في أي قرار أو تسوية في المستقبل.
73% من اليهود الأمريكيين سيختارون إسرائيل ديمقراطية غير يهودية، على إسرائيل يهودية بدون مواطنة كاملة ومساواة لغير اليهود الذين يعيشون تحت سلطتها.
وعلى المدى الطويل، من المرجح أن تتجه إسرائيل بعد انتهاء هذه الحرب نحو نزوح جماعي، على غرار نزوح روديسيا. انتهى حكم البيض في جنوب إفريقيا عام 1994، لكن الكتابة كانت على الجدار فيما يتعلق بالرأي الدولي بالفعل بعد مذبحة شاربسفيل عام 1960. وبالمثل قد تستمر إسرائيل ٤٠ عامًا أخرى، لكن غزة 2023 هي شاربسفيل في تحول الرأي العام الدولي. لا أحد يتوقع أن ينتصر الفلسطينيون على إسرائيل. إنهم يتوقعون أن يتوقف النظام الصهيوني الإسرائيلي عن كونه كيانًا قابلًا للحياة، وأن يتغير النظام.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير