
في العقد الأخير، شهدت أوراسيا تحولات متسارعة أعادت رسم خرائط النفوذ الإقليمي والدولي، إذ تبرز التحركات الجديدة للدول الصغيرة والمتوسطة بوصفها أدوات فاعلة في إعادة توازن القوى. ومن بين أبرز تلك التحولات يأتي انضمام أذربيجان، في السادس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، إلى الآلية التشاورية لدول آسيا الوسطى الخمس -رسميًا- كخطوة تحمل في طياتها إشارات دقيقة بشأن إعادة ترتيب الأولويات الإستراتيجية والجيوسياسية للمنطقة؛ فالدولة التي لطالما كانت جسرًا بين القوقاز وتركيا وشرق المتوسط، باتت اليوم جزءًا من تجمع إقليمي يطرح تساؤلات عن قدرته على إعادة تشكيل التحالفات، وفتح مسارات جديدة للطاقة والتجارة، وإعادة تأكيد الهويات الثقافية المشتركة بين شعوب تركية اللغة، ومن ثم يثير هذا الانضمام جدلًا واسعًا بشأن دلالاته وأهدافه الحقيقية، وهل يمثل خطوة عملية لتعزيز التكامل الاقتصادي والأمني في فضاء آسيا الوسطى، أم أنه مجرد تكتيك رمزي لإعادة تعريف الدور الجيوسياسي لأذربيجان؟ وكيف يمكن أن تؤثر الأبعاد الثقافية لهذا الانضمام في صياغة سرديات جديدة للانتماء الإقليمي، لا سيما في ضوء تاريخ العلاقات المعقدة بين دول القوقاز وآسيا الوسطى؟ وهل يمكن أن يعيد هذا الانضمام توزيع مراكز النفوذ في المنطقة بين روسيا والصين وتركيا، أم أنه سيظل محدود الأثر نتيجة التوازنات التقليدية؟
وفي هذا السياق، بدأت اللقاءات التشاورية في عام 2018 بين قادة كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان، بهدف تعزيز الحوار السياسي بين الدول الخمس بعيدًا عن الأطر الأمنية والاقتصادية التقليدية التي تهيمن عليها روسيا والصين، وقد جاءت فكرة الآلية التشاورية كصيغة غير رسمية للتعاون تتيح للدول الأعضاء إمكانية صياغة أولوياتها الإقليمية دون قيود مؤسسية ملزمة في ظل التحولات الجيوسياسية التي خلفتها التنافسات الكبرى في أوراسيا، فطبيعتها غير الرسمية تمنحها مرونة كبيرة في معالجة ملفات الأمن العابر للحدود، وتسهيل تنقلات التجارة والطاقة، وتعزيز الربط اللوجستي، كما تتيح آلية القمم الدورية وضع خطوط عريضة للتعاون، في حين تُنفذ من خلال اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف بصورة عملية، وبذلك تمثل نموذجًا جديدًا من التكامل المرن الذي يناسب بيئة آسيا الوسطى ذات المخاوف السيادية، وعدم رغبتها في تأسيس مؤسسات إقليمية مُلزمة، أو واسعة النفوذ على شاكلة الاتحاد الأوروبي.
يتأسس الدور الإقليمي لأذربيجان على موقعها الجغرافي الفريد الممتد بين بحر قزوين وسلسلة جبال القوقاز، ما يجعلها حلقة وصل طبيعية بين آسيا الوسطى وأوروبا، حيث تمثل نقطة العبور الغربية الرئيسة لثروات آسيا الوسطى من النفط والغاز والموارد إلى الأسواق الأوروبية عبر البنية التحتية الحيوية التي طورتها خلال العقدين الماضيين، بما في ذلك خط باكو- تبليسي- جيهان، وخط الغاز العابر للأناضول (TANAP)، وصولًا إلى ممر الغاز الجنوبي.
هذا الموقع يجعل أذربيجان دولة ذات قيمة إستراتيجية لدول آسيا الوسطى الباحثة عن منافذ بديلة للأسواق العالمية بعيدًا عن محور روسيا والصين، وإلى جانب دورها كممر للطاقة، تمثل أذربيجان مركزًا لوجستيًا متناميًا من خلال تحديث ميناء باكو، وتحويله إلى محور أساسي في مشروع الممر الأوسط الذي يربط الصين وأوروبا عبر كازاخستان- بحر قزوين- أذربيجان- تركيا، كما تمتلك باكو روابط ثقافية ولغوية عميقة مع معظم دول آسيا الوسطى، ما يعزز قدرتها على القيام بدور الوسيط الحضاري بين فضاءي القوقاز وآسيا الوسطى.
وبالنظر إلى مكانتها السياسية المستقرة نسبيًا، وقدراتها العسكرية المتنامية، أصبحت أذربيجان مصدر توازن إقليمي مهمًا، يسهم في إعادة تشكيل خرائط التحالفات في أوراسيا؛ ومن ثم ترتبط محفزات أذربيجان لتوثيق تحالفها بدول آسيا الوسطى بمجموعة من الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، يمكن تحليلها على النحو التالي:
يُعد دخول أذربيجان رسميًا إلى الآلية التشاورية لدول آسيا الوسطى تطورًا نوعيًا في هيكل الترتيبات الأمنية داخل المنطقة الأوراسية، فلطالما اتسمت البنية الأمنية في آسيا الوسطى بالهشاشة بسبب ضعف القدرات العسكرية لبعض الدول، وهشاشة الحدود، وتهديدات ضغوط الإرهاب والتهريب؛ ومن ثم فإن انضمام أذربيجان، بوصفها دولة ذات قدرات عسكرية وخبرة قتالية حديثة، يضيف إلى دول آسيا الوسطى عنصرًا جديدًا من القوة والفاعلية، ما يسهم في تحسين قدرة الجمهوريات الخمس على التعامل مع التهديدات العابرة للحدود، خاصةً تنامي نشاط الجماعات المتطرفة وشبكات المخدرات، والتوترات الحدودية بين دول آسيا الوسط.
إضافةً إلى ما سبق، فإن أذربيجان تمثل حلقة الوصل بين تركيا وآسيا الوسطى، وهو ما يمنح أنقرة منفذًا أمنيًا غير مباشر إلى دول آسيا الوسطى، وهو ما قد يعيد تشكيل الخريطة الأمنية للمنطقة عن طريق زيادة النفوذ العسكري التركي من خلال التعاون الدفاعي المشترك، وإعادة توزيع أدوار القوى التقليدية التي كانت تهيمن على أمن آسيا الوسطى، لا سيما روسيا والصين، إلى جانب تعزيز الروابط العسكرية بين الدول الناطقة بالتركية، بما يشمله ذلك من تدريبات مشتركة، وتطوير العقيدة القتالية، وتبادل الخبرات؛ ومن ثم فإن وجود أذربيجان داخل المنظومة الأمنية لدول آسيا الوسطى يمهد لظهور “محور أمني تركي- أذري- آسيوي” قادر على موازنة النفوذ الروسي، ومنافسة النفوذ الصيني، والحد من الاختراق الإيراني.
وفي هذا الصدد، يساعد انخراط أذربيجان على رفع قدرة الجمهوريات الخمس على مواجهة التهديدات الأمنية القادمة من أفغانستان، خاصة فيما يتعلق بتمدد الجماعات المتطرفة على غرار داعش خراسان، وتهريب الأسلحة والمخدرات، وعدم الاستقرار المرتبط بالفراغ الأمني، فوجود أذربيجان بخبرتها في مكافحة الإرهاب، وبنيتها الأمنية المتطورة، يمكن أن يدعم بناء آليات إقليمية أكثر فاعلية لدول آسيا الوسطى، قد يكون في مقدمتها إنشاء فرق عمل أمنية مشتركة، وتبادل المعلومات الاستخبارية، فضلًا عن تطوير أنظمة مراقبة الحدود، ودعم برامج بناء القدرات الأمنية.
ولعل أبرز دلالة أمنية لانضمام أذربيجان ترتبط بتنامي الدور العسكري والدفاعي لأذربيجان عن طريق توسيع أنشطة صناعاتها الدفاعية، وتصدير خبراتها العسكرية لدول آسيا الوسطى، وهو ما يعزز مكانتها بوصفها قوة إقليمية قادرة على أداء دور الوسيط الأمني بين القوقاز وآسيا الوسطى، من خلال المشاركة في تدريبات ومشروعات دفاعية مشتركة تعزز حضورها العسكري. ومع دعم تركيا، يمكن أن لأذربيجان تتحول إلى أحد أعمدة الأمن الإقليمي في أوراسيا.
يمثل انضمام أذربيجان إلى الآلية التشاورية لدول آسيا الوسطى تطورًا لافتًا في هندسة التوازنات الإقليمية داخل الفضاء الأوراسي، إذ يعكس تحولًا استراتيجيًا متعدد المستويات يرتبط بإعادة رسم حدود النفوذ بين القوى الكبرى والفاعلين الإقليميين، فلطالما اعتُبرت آسيا الوسطى جزءًا من المجال الجيوسياسي الخاضع للهيمنة الروسية منذ الحقبة السوفيتية، لكن دخول أذربيجان، وهي دولة تقع في القوقاز وتمتلك علاقات متشابكة مع تركيا وأوروبا، يرمز إلى انتقال الآلية من كونها إطارًا داخليًا بين دول آسيا الوسطى إلى منصة أوسع تضم فاعلين من خارج المنطقة. كما يشير هذا التطور إلى رغبة الدول الأعضاء في تنويع علاقاتها بعيدًا عن موسكو، وإعادة تعريف الهوية الإقليمية للآلية التشاورية بحيث لا تبقى محصورة في الفضاء السوفيتي السابق، ومن شأن هذا التحول أن يقلّص نفوذ روسيا على آليات التشاور الإقليمي، ويفتح الباب أمام ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة تستبعد موسكو جزئيًا، أو تقلل مركزيتها.
يشكل حضور أذربيجان -الحليف الأقرب لتركيا- داخل آسيا الوسطى خطوة تعزز ما يمكن تسميته بـ”المجال التركي الموسع”، فالآلية التشاورية على هذا النحو تتحول تدريجيًا إلى منصة داعمة لمشروع التكامل التركي العالمي الذي تُشرف عليه أنقرة من خلال منظمة الدول التركية، بما يخلق حالة من التداخل المؤسسي بين الآلية والمنظمة، وهذا التداخل يمنح تركيا نفوذًا غير مباشر داخل آسيا الوسطى، ويعزز قدرتها على التأثير في ملفات الطاقة والأمن والربط اللوجستي في مواجهة النفوذ الروسي والصيني والإيراني، كما يمنح أذربيجان دور الوسيط التركي الذي يربط الفضاءين الآسيوي والقوقازي.
وفي هذا السياق، يرفع انخراط أذربيجان في الآلية التشاورية قيمة الممر الأوسط الذي يربط الصين بأوروبا عبر كازاخستان- بحر قزوين– أذربيجان- تركيا، فأذربيجان تمثل العقدة الأهم في هذا الممر، وتعميق علاقاتها مع دول آسيا الوسطى سيعزز التنسيق السياسي واللوجستي بين دوله الأساسية، ويزيد جاذبيته بوصفه بديلًا عن الممر الروسي الشمالي المتأثر بالعقوبات الغربية، والممر الجنوبي البحري الذي يمر عبر إيران، وطريق الحرير البحري الذي تواجهه تحديات أمنية وسياسية.
وإضافة إلى ما سبق، يمنح الانضمام باكو قدرة على أداء دور سياسي أكبر بكثير من حجمها الجغرافي أو الديمغرافي، عن طريق تحويلها إلى فاعل مضاعف التأثير في ملفات آسيا الوسطى، خاصة الطاقة والأمن، كما أنه يعزز صورتها بوصفها دولة ذات نفوذ ثلاثي الاتجاهات، نحو جنوب القوقاز، ونحو آسيا الوسطى، ونحو تركيا والشرق الأوسط؛ ومن ثم تشكل الخطوة جزءًا من مشروع أوسع لإعطاء أذربيجان عمقًا جيوسياسيًا جديدًا.
غير أن تعزيز وجود باكو في عمق آسيا الوسطى يمثل تحديًا مباشرًا لإيران، خاصة في ضوء المشروعات العابرة لبحر قزوين والممر الأوسط، التي تتجاوز الأراضي الإيرانية تمامًا، كما أنه يضع الصين أمام واقع إقليمي تتقاطع فيه مصالح باكو- أنقرة- آسيا الوسطى مع مشروع الحزام والطريق؛ ما يدفع بكين إلى إعادة حساباتها لتأمين عدم خسارة النفوذ في المنطقة.
يمتد تأثير انضمام أذربيجان إلى الرابطة إلى عمق اقتصادي واسع يرتبط بالطاقة واللوجستيات والتجارة، والتكامل الإقليمي، فقد يسمح الانضمام بتطوير آليات مشتركة لتصدير النفط والغاز من كازاخستان وتركمانستان عن طريق الأراضي والبنية التحتية الأذرية المرتبطة بخطوط النفط العابرة لباكو وخطوط الغاز ضمن شبكة TANAP وTAP، ونقل النفط عن طريق مواني بحر قزوين إلى باكو، وبذلك تصبح أذربيجان البوابة الغربية لمنتجات الطاقة الآسيوية؛ ما يزيد قيمة خطوط الممر الجنوبي. كما سيسهم الانضمام في تسريع مشروعات الربط، خاصة تحديث ميناء باكو، وتحويله إلى مركز لوجستي إقليمي، وتكامل خطوط السكك الحديدية بين كازاخستان- أذربيجان، فضلًا عن إنشاء ممرات جديدة للعبور البري والجوي؛ ما قد يعزز قدرة التعاون بين دول آسيا الوسطى وأذربيجان على تقديم نفسها بوصفها بديلًا تنافسيًا فعالًا للممرات العالمية الحالية.
ارتباطًا بهذا، من المرجح أن يؤدي التعاون مع أذربيجان ذات الاقتصاد الأكثر انفتاحًا وتكاملًا مع الأسواق الأوروبية إلى فتح قنوات جديدة لتسويق المنتجات الآسيوية في الخارج، مع تخفيف الاعتماد على روسيا بوصفها ممرًا رئيسًا للتجارة، حيث توفر أذربيجان بوابة للتقارب مع المؤسسات الغربية والاتحاد الأوروبي، ما يسمح بإعادة تشكيل السياسات الاقتصادية والطاقوية لدول آسيا الوسطى. يخدم هذا التوجه خطة أذربيجان في تطوير مشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر بالتعاون مع شركات عالمية؛ ومن ثم قد يتيح الانضمام إلى الآلية التشاورية توسيع هذه المشروعات لتشمل مزارع رياح مشتركة في بحر قزوين، وخطوط تصدير الهيدروجين نحو أوروبا، وشبكات كهرباء إقليمية متكاملة؛ ما يجعل هذه المشروعات تشكل جزءًا من التوجه العالمي نحو التحول الطاقوي.
يأتي انضمام أذربيجان إلى الآلية التشاورية لدول آسيا الوسطى في سياق إعادة تشكيل خرائط الهوية في الفضاء الأوراسي، حيث تحاول الدول الناطقة بالتركية إعادة بناء شبكاتها الحضارية بعيدًا عن المراكز الإمبراطورية التقليدية المتمثلة في روسيا وإيران؛ ومن ثم تمثل الآلية التشاورية إطارًا مرنًا يسمح بإحياء الوعي التركي المشترك دون الالتزام بترتيبات مؤسسية، ما يجعلها منصة مثالية لأذربيجان لترسيخ الانتماء إلى المجال التركي الآسيوي بدلًا من الاكتفاء بهويتها القوقازية المحدودة، ويُعد هذا التحول جزءًا من إستراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تعريف الشخصية الجيوسياسية لأذربيجان بوصفها فاعلًا ينتمي إلى ثلاث دوائر؛ القوقاز، والعالم التركي، وآسيا الوسطى.
على المستوى الثقافي، يعزز الانضمام عملية تدوير رأس المال الرمزي التركي المرتبط باللغة والتراث المشترك من خلال الانتقال من التعاون الثنائي مع تركيا أو كازاخستان إلى إطار متعدد الأطراف، يتيح صياغة سردية ثقافية جديدة؛ ما يساعد أذربيجان على تثبيت مكانتها بوصفها فاعلًا ثقافيًا مستقلًا قادرًا على الإسهام في صياغة أجندة العالم التركي، لا مجرد متلقٍ لها. أما على مستوى الهوية السياسية، فيسهم الانضمام في تصحيح اختلالات تاريخية ناجمة عن الفصل الجغرافي الذي فرضه الاتحاد السوفيتي بين القوقاز وآسيا الوسطى، حيث تعبر هذه الخطوة عن رغبة أذربيجان في إعادة لحمة المجال التركي الآسيوي بما يشمل أنماطًا من التفاعل الهوياتي، على شاكلة الاعتماد على أدوات تعليمية مشتركة، وتعزيز التبادلات الشبابية، وتنسيق السياسات المتعلقة بالحفاظ على التراث المشترك؛ ما يدعم سردية الوحدة الحضارية التي تُعد عنصرًا مهمًا في الدبلوماسية الثقافية الأذربيجانية.
ومن ناحية أخرى، يحمل الانضمام دلالات تتعلق بتنافس السرديات الحضارية في المنطقة، فبينما تطرح روسيا سردية الفضاء الأوراسي الروسي، وتروج الصين للحزام الحضاري لطريق الحرير، تستثمر أذربيجان في تعزيز سردية العالم التركي الواسع، ما يمنحها قدرة على المناورة بين مشروعات الهوية الكبرى في المنطقة، حيث تطمح باكو لتوسيع نفوذها الثقافي اعتمادًا على مزيج من القوة الناعمة على غرار المنح التعليمية، والإنتاج الثقافي المشترك، والفعاليات الشبابية، والقوة الرمزية المرتبطة بتاريخ القبائل التركية، والإرث اللغوي المشترك. بالإضافة إلى هذا، يعزز الانضمام مكانة أذربيجان داخل منظمة الدول التركية عن طريق منحها شرعية إضافية بوصفها دولة تربط بين فضاءات ثقافية متعددة، وتستطيع أداء دور حلقة الوصل، وتمثل هذه المكانة رصيدًا هوياتيًا يمكن توظيفه في الدبلوماسية العامة، وفي تعزيز صورة الدولة بوصفها فاعلًا قادرًا على قيادة مشروعات ثقافية في فضاء أوسع من حدودها الجغرافية.
جاء انضمام أذربيجان إلى الآلية التشاورية للجمهوريات الخمس في لحظة تشهد فيها المنطقة صراعاً بين مشروعات نفوذ كبرى؛ الروسي، والصيني، والتركي، والأوروبي، والأمريكي، ما يمنح الخطوة طابعًا يتجاوز التعاون الإقليمي إلى إعادة توزيع مراكز الثقل الجيوسياسي داخل الفضاء الأوراسي، ويمثل الانضمام إشارة إلى صعود محور جديد يعتمد على التكامل التركي الآسيوي بوجه أنماط النفوذ التقليدية، ويعيد رسم خريطة التحالفات في منطقة تُعد من أكثر ساحات التنافس الدولي شديدة التعقيد.
فعلى مستوى العلاقة مع روسيا، يشكل الانضمام تحولًا إستراتيجيًا يقلل قدرة موسكو على الاحتفاظ بآسيا الوسطى كمجال نفوذ حصري، خاصة أن الآلية -بطبيعتها غير الرسمية- توفر بيئة أكثر استقلالية عن المؤسسات الخاضعة لنفوذ روسيا مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومن خلال هذا الإطار تستطيع أذربيجان الدفع باتجاه سياسات تنسجم مع مصالحها ومصالح تركيا، دون التعرض لضغط مؤسسي روسي مباشر.
أما فيما يتعلق بالصين، فإن وجود أذربيجان في عمق آسيا الوسطى يعزز تنافسًا غير صدامي مع مبادرة الحزام والطريق، إذ يمكن أن تمثل باكو بوابة بديلة أو مكملة لمسارات التجارة والطاقة التي تسعى بكين إلى تأمينها. وعلى الرغم من عدم رغبة الصين في مواجهة مباشرة مع الدول التركية، فإن تعزيز محور تركي- أذري داخل آسيا الوسطى قد يدفعها إلى زيادة استثماراتها، أو توسيع نفوذها الثقافي لتعويض هذا التحول، وبذلك تنتج دينامية جديدة من توازن ناعم بين المشروع الصيني والتموضع التركي- الآسيوي.
وعلى مستوى التوازن مع الغرب، خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فإن الخطوة توفر لطرفي الغرب فاعلًا جديدًا يمكن استثماره لإنشاء ممرات طاقة وتجارة بديلة عن روسيا وإيران، وباكتمال الربط بين جنوب القوقاز وآسيا الوسطى عن طريق بحر قزوين، تتشكل فرصة لتعزيز الممر الأوسط الذي يحظى باهتمام أوروبي متزايد، كما يعكس انضمام أذربيجان اتجاهًا متناميًا لدى دول آسيا الوسطى لتقليل اعتمادها على روسيا دون الانخراط المباشر في تحالفات غربية، وهو نموذج يتوافق مع رؤية الغرب لفضاء أوراسي أكثر تنوعًا في مراكز النفوذ.
وفيما يتعلق بتركيا، يرسخ انضمام أذربيجان إلى الآلية صعود نموذج المركز التركي الممتد الذي يعتمد على ربط آسيا الوسطى والقوقاز بشبكات اقتصادية وثقافية وأمنية ذات مرجعية تركية، يعزز ذلك قدرة أنقرة على أداء دور قيادي غير مباشر في الفضاء الأوراسي، ما يُضعف الاحتكار الروسي، ويحدّ التفوق الصيني في مجالات نوعية، مثل البنية التحتية والنقل، كما يمنح تركيا ذراعًا جيوسياسية مضاعفة عبر أذربيجان، التي تحظى بقبول واسع في آسيا الوسطى مقارنة بالدور التركي الأكثر حساسية لبعض الحكومات الخمس.
وفي السياق الإيراني، يمثل الارتباط المتزايد بين أذربيجان ودول آسيا الوسطى تحديًا لطهران؛ لأن الخطوة تُحجم دور إيران بوصفها معبرًا طبيعيًا بين القوقاز وآسيا الوسطى، وتقلل أهمية ممراتها الشمالية، كما يُضعف التكامل التركي- الأذري داخل الآلية قدرة إيران على التأثير في الملفات القومية واللغوية في الإقليم، خاصة تلك المتصلة بالهويات التركية- الآذرية داخل حدودها.
واستنادًا إلى ما سبق يمكن القول إن انضمام أذربيجان إلى الآلية التشاورية لدول آسيا الوسطى لتصبح C6 يُشكل خطوة مدروسة ضمن مشروع أوسع لإعادة صياغة مكانتها في الإقليم الأوراسي، مستفيدة من لحظة تاريخية يتراجع فيها النفوذ الروسي التقليدي، وتتصاعد فيها أهمية الممرات البرية والبحرية البديلة. وتأتي هذه الخطوة في إطار رغبة باكو في تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والطاقوي، وترسيخ هويتها الثقافية داخل الفضاء التركي الممتد، بالإضافة إلى تحقيق توازنات جيوسياسية في مواجهة الضغوط الإقليمية؛ وبذلك تتجاوز الخطوة طابعها الرمزي لتتحول إلى جزء من إستراتيجية توسيع المجال الحيوي الأذري، ما يُعيد ترتيب موازين القوى في آسيا الوسطى والقوقاز عن طريق فتح فضاء جيوسياسي مستقل نسبيًا عن القوى التقليدية، وتعزيز دور القوى الوسطى، وهو ما يؤدي إلى تعددية أكبر في مراكز القرار الإقليمي، ويقلل فعالية الأنماط التقليدية للهيمنة الإقليمية والدولية في قلب آسيا.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير