توطئة
على مدار ما يقرب من قرن من الزمان، ظل العرب المضطهدون في إيران يحلمون بتشكيل دولة انفصالية مستقلة، أو على الأقل استعادة درجة من الحكم الذاتي، ربما في إطار شكل ما من أشكال الدولة الفارسية الفيدرالية، فبعد أن كانت عربستان (أرض العرب) إمارة تتمتع بالحكم الذاتي حكمتها القبائل العربية عدة قرون، غزتها القوات الفارسية عام 1925.
ومثل معظم دول الشرق الأوسط، يعد التعداد السكاني في إيران حساسًا جدًّا. فمع أن العرب يشكلون نحو 2 % فقط من سكان إيران، فإنهم لهم آثارًا أمنية وسياسية جلية في النظام الإيراني، خاصةً في ظل موقع عربستان الإستراتيجي؛ فهي تشترك في الحدود مع العراق، والمنطقة المحيطة بالخليج العربي وشط العرب عند التقاء نهري دجلة والفرات.
وفضلًا عن خصوصية تمركز عرب إيران في هذا الموقع الإستراتيجي، فإن هذه الأمة، التي تمتلك الأراضي التي تنتج حاليًا 80 % من النفط، و65 % من الغاز، و35 % من المياه في إيران، تعيش في فقر مدقع، حيث تنظر الأقليات العربية في عربستان، أو خوزستان- كما يسميه النظام الإيراني- إلى سوء إدارة النظام للإقليم باعتباره تمييزًا منهجيًّا، ومتعمدًا، ضدهم، ويعتقد كثير من العرب أن الحكومة تتعمد إهمال المشكلات البيئية في المحافظة لإجبارهم على ترك أراضيهم.
ولعل ما يجعل تجربة خوزستان جديرة بالملاحظة، كمقدمة وعلامة تحذير محتملة، هو تعدد خطوط الصدع في مقاطعة تمركز عرب إيران، والالتزامات الحكومية المتكررة بإصلاح مشكلات الإقليم، وفشلها في الوفاء بتلك الوعود، حيث تتضافر هذه العوامل الثلاثة لتشير إلى أن النظام قادر على قمع المعارضة العلنية في الوقت الراهن؛ ما يثير تساؤلًا عن مستقبل الأقلية العربية في إيران في ظل التطورات الداخلية والخارجية التي تحيط بالجمهورية الإسلامية.
بالإضافة إلى المجتمعات الأذرية والتركمانية والبلوشية والكردية الكبيرة في إيران، يعيش عدد كبير من العرب في إيران. ومع أن هناك اعتقادًا شائعًا بأن الوجود العربي في إيران لم يبدأ إلا مع الفتح الإسلامي عام 633 م، فإن الواقع يشير إلى أن العرب وُجدوا في إيران قبل قرون من هزيمة الإمبراطورية الساسانية، التي أدت إلى تحول الإيرانيين التدريجي إلى الإسلام، حيث كان للعرب روابط مع بلاد فارس، وفي بعض الأحيان وطّنَ الفرس القبائل العربية في أجزاء مختلفة من الهضبة الإيرانية لأسباب سياسية.
وفي القرن التاسع عشر، وفي اتفاق سياسي بشأن الحدود، ضمّت الإمبراطورية العثمانية عربستان إلى بلاد فارس، ولكن الإمارة احتفظت- إلى حد كبير- باستقلالها الذاتي إلى أن غزا الفرس عربستان، ونفذوا بالقوة إجراءات لمحو الهوية العربية لعربستان، وتغيير تركيبتها العرقية عام 1925. وفي عهد حكم بهلوي، الذي استمر منذ عام 1925 إلى عام 1941، أصبحت عربستان الغنية بالنفط، والممتلئة بشركات النفط ومصافي التكرير، من أكثر أقاليم إيران تطورًا وازدهارًا، لكنها وُضعِت بالقوة تحت السيطرة الإيرانية المركزية.
بعد الغزو الفارسي، قُسمت عربستان، أو الأحواز، كما يطلق عليها الشعب الأحوازي، عام 1936 إلى عدة مقاطعات؛ خوزستان، وعيلام، وبوشهر، وهرمزكان، وبدأ النظام في إيران برنامجًا لإعادة التوطين؛ مما حفز الفرس على الانتقال إلى الأحواز، واليوم، خوزستان هي المقاطعة الوحيدة التي لا تزال مأهولة بالسكان في الغالب من عرب الأحواز، وهم أحفاد القبائل العربية التي عاشت في هذه المنطقة عدة قرون.
عندما قامت الثورة الإسلامية في طهران قدمت فرصة ذهبية لمزيد من الحرية والحقوق لعرب الأحواز الذين دعموا الثورة من أجل الحصول على مزيد من التقدير، ولكن مع تزايد خيبة الأمل من تطورات الثورة، وما جلبته من قمع لعرب إيران، بدأت المظاهرات السلمية، حيث شهد يوم 29 مايو (أيار) 1979، المعروف باسم “الأربعاء الأسود”، تحول الاحتجاجات في خرمشهر إلى أعمال عنف، حيث أُطلقت النار على المتظاهرين العزل.
وبعد ثورة 1979، اتبعت القيادة الإسلامية خطى أسرة بهلوي من خلال الاستمرار في تقويض مطالب الأقليات العرقية، ومع ذلك، فقد أظهر عرب إيران ولاءهم للنظام الإسلامي خلال الحرب الإيرانية العراقية في الفترة من عام 1980 إلى عام 1988، مع أن للأهواز والسكان العرب في إيران أهمية رمزية كبيرة لصدام حسين، الذي حاول إغراء شعب خوزستان على أمل أن تنضم الأغلبية العربية هناك إلى الجيش الغازي، ولم يفعل معظمهم ذلك، وانضموا بدلًا من ذلك إلى القوات الإيرانية لمقاومة الغزو، بيد أن النظام الإيراني لم يقدر هذا الدعم الذي قدمه عرب إيران، وظلت النظم المتعاقبة في إيران تنتهج السياسات القمعية نفسها ضدهم، لكن مع بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، وتزايد التوترات الطائفية بين إيران وجيرانها العرب، أُعيدت قضية الأقليات العربية الإيرانية إلى جدول أعمال النظام الإيراني من جديد.
يُعرف المقيمون في خوزستان باسم “عرب الأحواز”، حيث يبلغ عدد سكان الأحواز ما بين 8 و10 ملايين نسمة، من العرق العربي، وهم أحفاد السكان العرب الأصليين للمنطقة التي أصبحت اليوم جزءًا من إيران، وكانت دولتهم تمتد على طول الجانب الإيراني من شط العرب وأسفل الشاطئ الشرقي للخليج، وهي منطقة تعادل تقريبًا مقاطعة خوزستان الإيرانية الحديثة، ولكنها تشمل أيضًا أجزاء من إقليم الأحواز، ومحافظات عيلام، وبوشهر، وهرمزكان.
ومع أن الأنظمة الإيرانية السابقة والحالية تدعي صورة المجتمع الإيراني الفارسي المتجانس، فإن هذه الصورة بعيدة كل البعد عن الواقع، إذ إن 40 % إلى 45 % من سكان إيران من غير الفرس، حيث يشكل الأذربيجانيون الأقلية العرقية الأكثر أهمية، يليهم الأكراد، والأهواز، والبلوش، في حين استقرت كثير من القبائل العربية بعد القرن السابع في أجزاء مختلفة من إيران، بما في ذلك فارس وخراسان، لكن القبائل العربية في خوزستان هي التي حافظت على بنيتها الاجتماعية ولغتها، حيث تتحدث هذه القبائل لهجات عربية مختلفة، مع أن كثيرًا منها تشترك في أوجه التشابه مع اللغة العربية العراقية، وتلتزم في الغالب بالإسلام الشيعي.
وعلى عكس الأقليات العرقية الأخرى في البلاد- الأكراد في الشمال الغربي، والبلوش في إقليم سيستان وبلوشستان الشرقي، وإقليم كردستان الغربي- فإن العرب في عربستان في الغالب من الشيعة، لكن قبل عقد من الزمن، وفي رد فعل على التمييز المنهجي ضد المواطنين العرب، والرغبة في أن تُرحّب بهم الحركة القومية العربية، تحولت موجة من الإيرانيين في المنطقة، خاصة في المناطق الساحلية، مثل بوشهر، وهرمزكان، إلى الإسلام السني، ولكن بالسرعة نفسها تبدد هذا الاتجاه، وربما يرجع ذلك إلى أن الهوية القبلية تسود على النزعة الدينية في التركيبة الاجتماعية لمجتمع عرب الأهواز.
وفي هذا السياق، تعد خوزستان– المقاطعة الأشهر لعرب إيران- محركًا للاقتصاد الإيراني، حيث اكتُشِف النفط في خوزستان عام 1908، وأصبح فيما بعد مرادفًا لصناعة الطاقة الإيرانية، وتشير التقديرات إلى أنها تنتج ما يقرب من 15 % من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتمتلك المقاطعة القسم الأعظم من احتياطيات النفط الإيرانية التي تبلغ 137 مليار برميل، وتضم أكثر من 80 % من احتياطيات البلاد من النفط والغاز، ويوجد أكثر من ثلث مصانع البتروكيماويات الإيرانية هناك.
كما أنها تنتج ما يقرب من 14 % من الإنتاج الزراعي للبلاد، وخاصة القمح، أكثر من أي مقاطعة أخرى. وفضلًا عن احتوائها على نحو 33 % من المياه السطحية في إيران، فهي تستضيف ثاني أكبر صانع للصلب في البلاد، وأحد أهم المراكز التجارية، وهو ميناء الإمام الخميني، وقد ساعدت هذه الأصول على جعل المحافظة عالمية.
ومع ذلك، فإن الحقائق القاسية تكمن وراء كل تلك الثروات؛ أن ما يقرب من ثلث سكان خوزستان يعيشون في فقر مدقع، حيث تتجاوز معدلات البطالة 12%، ويعود هذا إلى أن الكمية الضخمة من الثروة النفطية التي تُنتَج في المنطقة ليس لها تأثير يذكر في الحياة الاقتصادية لسكانها العرب، وتعد ندرة المياه بسبب عوامل مثل الجفاف المستمر، وسوء إدارة الموارد، مشكلة خطيرة في خوزستان، كما تعاني المحافظة عواصف ترابية متكررة، حيث إن تلوث الهواء في الأهواز مرتفع إلى حد مثير للقلق، ليس فقط بالمعايير الوطنية، بل أيضًا بالمعايير العالمية؛ ما جعل منظمة الصحة العالمية تصنف الأهواز- عاصمة المقاطعة- بأنها المدينة الأكثر تلوثًا في العالم.
ومن ثم جعلت المشكلات الاقتصادية الملحة، وتلوث الهواء، وسياسات الهوية العابرة للحدود الوطنية، جعلت خوزستان تحديًا مهمًّا للجمهورية الإسلامية، ويضاعف التحدي تشابك هذه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية مع المظالم السياسية القديمة تجاه الأقلية العربية الكبيرة في خوزستان، التي تشكو من التمييز من السلطات المركزية والمحلية.
تعد خوزستان نموذجًا مصغرًا لكثير من التحديات المتقاطعة التي تواجه الجمهورية الإسلامية، حيث تقع خوزستان على الشواطئ الشمالية للخليج، متاخمة للعراق، تعج بالموارد الطبيعية، ولكنها تعاني تحديات مالية، وتنموية، وبيئية، واقتصادية، حيث مهد اكتشاف النفط في خوزستان عام 1908 الطريق لوصول مجتمعات إيرانية أخرى، فارسية وغير فارسية؛ مما أدى إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة.
ومثل كثير من المجتمعات العرقية الأخرى، تأثرت القبائل العربية في خوزستان بالسياسات الفارسية التي انتهجها الشاه البهلوي خلال القرن العشرين، والتي تضمنت حظرًا على استخدام لغات الأقليات في المدارس والصحف، وعملت إيران في ظل النظام الملكي، والنظام الثوري الذي حل محله عام 1979، على القضاء على الثقافة الأحوازية، وحظر اللغة العربية في المدارس، وتجريد المنطقة من مواردها الطبيعية، ومحاولة إضفاء الصبغة الفارسية على السكان، حيث عانى عرب إيران التمييز العنصري، والإبادة الجماعية، والاعتقالات التعسفية، والإعدامات، والتجويع، والتهجير القسري ضد الشعب الأحوازي.
ومن هذا يمكن القول إن أدوات الاضطهاد التي تمارسها الدولة الإيرانية ضد العرب تنوعت بين القهر السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إذ يُعامَلون على أنهم مواطنون من الدرجتين الثانية والثالثة، ويأتي هذا في سياق خطة ممنهجة للنظام الإيراني لمحو الهوية العربية للأحواز من خلال فرض قيود تمييزية على الحقوق الثقافية واللغوية، فاللغة العربية محظورة، ولا يستطيع عربي أحوازي أن يطلق على طفله اسمًا عربيًّا، بل يجب أن يكون إما فارسيًّا وإما اسم أحد أئمة الشيعة.
ورغم الحقوق السياسية التي ينص عليها الدستور الإيراني، فإن عرب خوزستان مُنعوا من إنشاء أحزاب سياسية، أو مجموعات مناصرة خاصة بهم، فضلًا عن تضييق الحكومة على نشطاء المجتمع المدني في الإقليم، واتهامهم بأن لهم صلات بالحركات الانفصالية، أو الإرهابية، كما تُقمَع الاحتجاجات السلمية بوحشية، ويقبع عشرات الآلاف من المدنيين الأحوازيين في السجون، إذ يتعرض كثير منهم للتعذيب والإعدام دون محاكمة عادلة، وارتكبت قوات الأمن الإيرانية جرائم بشعة في الأحواز، منها اختطاف زوجات الناشطين السياسيين وأخواتهم، وفي عدة مناسبات، زرع النظام الإيراني قنابل في أماكن عامة حتى يتمكن من الدعاية للنظام الحاكم الذي يحارب إرهاب عرب إيران.
تتمتع خوزستان بتاريخ طويل من الاحتجاج الشعبي ضد النظم السياسية المتعاقبة؛ ففي عام 2000، تجمع المتظاهرون في عبادان للتنديد بنقص مياه الشرب، وردت السلطات المحلية بقوة، مما أدى إلى مقتل واعتقال ما لا يقل عن 150 شخصًا. وفي عام 2005، أفادت التقارير أن قوات الأمن قتلت العشرات من عرب إيران، واعتقلت المئات في اشتباكات عقب نشر رسالة نسبت إلى رئيس أركان الرئيس السابق محمد خاتمي تحدد الخطوط العريضة لخطط تغيير ديموغرافيا المحافظة، من خلال نقل العرب إلى الخارج، وغير العرب إلى الداخل.
في السنوات التالية، استمرت الاضطرابات في عربستان بانتظام تقريبًا، خاصة بسبب المخاوف البيئية والاقتصادية؛ ففي عام 2015 على سبيل المثال، احتج الناس على فشل الحكومة في الاستجابة للمخاطر الصحية الناجمة عن العواصف الترابية المتكررة. وفي عام 2017، خرج الطلاب إلى الشوارع في الأهواز للتعبير عن إحباطهم بسبب انقطاع التيار الكهربائي على نحو متكرر. وفي عام 2018، تظاهر سكان عبادان وخرمشهر بسبب نقص المياه، مما أدى إلى اشتباكات دامية مع الشرطة.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، والتي أشعلها الارتفاع المفاجئ في أسعار الوقود، وقع ما يقرب من 324 حالة وفاة في خوزستان. ورغم كون خوزستان واحدة من أكثر المحافظات الإيرانية غنى بالموارد، فإنها تعاني تدهورًا بيئيًّا، مما أدى إلى انخفاض إمدادات المياه، الأمر الذي أثارت ندرته احتجاجات في منتصف عام 2021، لسوء إدارة الدولة، والفساد، وعدم اليقين الاقتصادي والبطالة، والاستياء العرقي بين عدد كبير من سكانها العرب، وفي المقام الأول من الأهمية، إهمال الحكومة، على الرغم من التعهدات المتكررة بمعالجة المشكلات المتنامية.
وفي صيف عام 2021، في أعقاب فوز إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، شهدت مقاطعة خوزستان الجنوبية الغربية انتفاضة استمرت أسبوعين، رجعت جذورها إلى الإحباط المكبوت بسبب الركود السياسي، والضائقة الاقتصادية، وحرص رئيسي، الذي تولى منصبه في 5 أغسطس (آب)، على زيارة خوزستان في أول رحلة له بصفته رئيسًا، برفقة مجموعة من الوزراء، حيث تزامنت حملة القمع مع تصريحات التعاطف، والوعود بالإصلاح من جانب النظام الجديد.
وبعد عام واحد، تفاقمت حالة الاستياء بين المواطنين، ليس فقط في خوزستان، بل أيضًا في مختلف أنحاء إيران، إذ كشفت الاحتجاجات المناهضة للحكومة، التي اندلعت على مدى أشهر بسبب وفاة الشابة الكردية ماهسا أميني، في سبتمبر (أيلول) 2022، في أثناء احتجاز شرطة الأخلاق في طهران لها، عن عدم رغبة النظام، أو عدم قدرته على معالجة السخط الوطني؛ بسبب ثقافته القمعية، والممارسات والقيود الخانقة على الحريات الشخصية تجاه الشعب الإيراني.
كانت الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي اندلعت في جميع أنحاء إيران عام 2022، هي الحلقة الأخيرة في دورة مألوفة في النظام الإيراني، فعندما يتصاعد السخط في الاضطرابات، تعترف الجمهورية الإسلامية- على نحو غامض- بالمخاوف الشعبية، وربما تشير إلى تدابير لتهدئتها، لكنها تشرع بعد ذلك في قمعها؛ من خلال التعبير عنهم بالقوة الغاشمة، لكن الفشل في معالجة المظالم الأساسية، يمهد الطريق لمواجهة دموية بين الدولة والمجتمع.
وتتجلى هذه الدورة بوضوح أكبر في المحافظات التي أسيء إدارتها تاريخيًّا من جانب العاصمة، التي تعاني مشكلات اجتماعية وبيئية محلية، مثل خوزستان في الجنوب الغربي، حيث تكررت الاحتجاجات، كجزء من الحركة الوطنية، أواخر عام 2022، حيث عكست الاحتجاجات التي عصفت مرارًا وتكرارًا في خوزستان، استياءً واسع النطاق من الظروف المحلية، وانتهاكات النظام، وسوء الإدارة المزمن.
وفي السياق نفسه، أثار انهيار مبنى متروبول التجاري قيد الإنشاء في وسط مدينة عبادان، الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 43 شخصًا وإصابة أكثر من ثلاثين، أثار احتجاجات مرة أخرى في عام 2022، حيث كان الغضب الشعبي نابعًا من الشعور بأن الإهمال الجسيم والفساد المستشري كانا السبب وراء هذه المأساة، وما زاد تأجيج نار الغضب العام هو استجابة الدولة للكارثة؛ من إدارة الأزمات البطيئة، والنشر الفوري لشرطة مكافحة الشغب تحسبًا للاحتجاجات، إلى تأخير المرشد الأعلى لمدة ثلاثة أيام في إصدار التعازي وإعلان يوم حداد وطني بعد أسبوع من الحادث.
وهنا، يمكن أن نرى أن آيات الله قد ربطوا كل جانب من جوانب الحياة في إيران بالمذهب الشيعي، فأي شيء يهدد الدولة الفقهية، أي المذهب الشيعي، أو نظام ولاية الفقيه أو المرشد الأعلى لإيران، أو أيًّا من مؤسساتها، ومنها الحرس الثوري الإيراني، سيُواجَه ويُعاقَب؛ فأي شيء يهدد بقاء آيات الله يُطلق عليه اسم “محاربة”، وهي كلمة فارسية تعني “العداء لله”، فالمحاربة ليست جريمة في حق شخص، بل في حق الله، ويمكن أن تصل عقوبة المحاربة إلى الإعدام، وقد دلل على هذا النهج تقرير لمنظمة العفو الدولية بأن السلطات الإيرانية أعدمت ما لا يقل عن 94 شخصًا في يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 2023، وكان من بين الضحايا ستة رجال من عرب الأحواز متهمين بالمحاربة.
ومن ثم يسلط تكرار الاحتجاجات في خوزستان إلى الآن، وخاصة بعد وفاة إبراهيم رئيسي، الشهر المنصرم، الضوء على الانفصال الكبير بين الدولة الإيرانية والمواطنين، في حين يشير التكرار المتزايد للاضطرابات إلى أن الفجوة آخذة في الاتساع؛ لأن مظالم العرب في إيران متجذرة في نفس السخط الاجتماعي والسياسي الذي نراه في أماكن أخرى في إيران، ولكنها تتفاقم بسبب العوامل المحلية.
العلاقة بين العرب الإيرانيين الذين يتركزون- إلى حد كبير- في خوزستان وعرب المنطقة، يمكن تفسيرها في إطار العلاقة القبلية التاريخية بين عرب خوزستان وعرب محافظة البصرة المجاورة في العراق، والواقع أن الحدود التي رُسمت في القرن العشرين قسمت كلا من قبائل الغابيل والقبائل الفرعية، مثل بني كعب، وبني سعيد، وبني طروف، وبني خالد، وبني تمين، وبني أسد، والكنانة. وعلى مدى العقد الماضي، سهل فتح الحدود توسيع التفاعلات والعلاقات داخل العائلات والقبائل؛ مما خلق بدوره مخاوف أمنية للحكومة الإيرانية.
يتجلى هذا على نحو خاص من خلال قدرة العناصر المناهضة للحكومة، مثل مجاهدي خلق، والجماعات السلفية، على العبور إلى البلاد. بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا إلى مكانة البصرة بوصفها مركزًا تاريخيًّا للمذهب الشيعي الأخباري، فإن العرب في خوزستان يميلون إلى عدم الثقة بالمؤسسة الدينية الشيعية الرسمية، فالأخباريون لا يشاركون آراء المدرسة الأصولية المهيمنة في إيران، ولا يؤمنون بشرعية الاجتهاد، وليس لديهم مصدر للتقليد كما تتطلب الأصولية الشيعية، وتعزز الروابط القبلية والانتماءات الدينية المشاعر المناهضة للحكومة بين عرب خوزستان والمشاعر المناهضة لإيران داخل المجتمع الشيعي في جنوب العراق.
فضلًا عن هذا، تمثل النخب العربية الإيرانية التي نشأت نتيجة للتحديث في عهد بهلوي، وتميل إلى العلمانية والدعوة إلى القومية العربية مصدر قلق أمني للنظام، وظهر هذا بوضوح في أثناء الحرب الإيرانية العراقية وما رافقها من ظهور الجماعات المؤيدة لصدام حسين، حيث أدت الوحدة العربية المتشابكة مع الطموحات الانفصالية إلى ظهور جماعات معارضة منظمة، وصدام مستمر بين الحكومة والناشطين العرب، الذين يتهمون الجمهورية الإسلامية بتنفيذ سياسات تمييزية معادية للعرب، وتعمد إبقاء المحافظة متخلفة وفقيرة، ومنع المواطنين العرب من شغل مناصب حساسة أو رفيعة المستوى في المكاتب الحكومية الإيرانية.
ومثل المناطق الطرفية الأخرى في إيران، التي تضم أقليات عرقية كبيرة، ولا سيما المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية في الغرب، والأراضي البلوشية على طول الحدود الجنوبية الشرقية مع أفغانستان وباكستان، توجد في خوزستان جماعات مسلحة تطالب بمزيد من الحكم الذاتي، والاستقلال كذلك. ومع أن المشاعر الانفصالية لدى عرب إيران تولد من الظروف المحلية، فإنه يبدو أن الحكومات الأجنبية قد شجعت هذه المشاعر في بعض الأحيان، ففي يونيو (حزيران) 2005 على سبيل المثال، انفجرت أربع قنابل في مبانٍ حكومية وخاصة، منها مقر إقامة حاكم محافظة خوزستان، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن هذه الهجمات، لكن المجلس الأعلى للأمن القومي أرجعها إلى جماعات مدعومة من الخارج.
وبعد أربعة أشهر، عندما أدى تفجير في أحد أسواق الأهواز إلى مقتل ستة أشخاص، وإصابة 100 آخرين، زعمت حكومة الرئيس أحمدي نجاد أن المملكة المتحدة دبرت العملية، دون تقديم أي أدلة موثوقة، لكن الحادثة الأهم جاءت في سبتمبر (أيلول) 2018، حين ادعى الجناح المسلح لحركة النضال العربي لتحرير الأهواز الانفصالية أنه نفذ هجومًا على عرض عسكري أدى إلى مقتل 25 شخصًا، وإصابة العشرات، لكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أصدر إعلانًا منافسًا عن مسؤوليته عن الهجوم.
ونتيجة لذلك، يرى بعض الأحوازيين أنفسهم جزءًا من صراع أكبر بين إيران الشيعية والدول العربية التي يحكمها السنة في منطقة الخليج، والتي تدعم أطرافًا متعارضة في الحرب الأهلية السورية، فمع أن الأغلبية الساحقة من الأحوازيين هم من الشيعة، فإنهم متهمون بالتعاطف مع المعارضة السورية السنية التي تقاتل الرئيس السوري بشار الأسد المدعوم من إيران. كما يتضح اهتمام الدول السنية في المنطقة بقضية الأحواز، فعلى سبيل المثال، في البحرين، غُيّرَ اسم أحد شوارع العاصمة المنامة إلى شارع الأهواز العربية. وفي سوريا، أطلق الجيش السوري الحر اسمًا رمزيًّا على إحدى كتائبه باسم “لواء الأهواز”.
وبغض النظر عن نظرية المؤامرة الخارجية التي يتبناها النظام الإيراني، فقد أدت المظالم العرقية في خوزستان إلى ظهور أشكال من الإسلام السني، ففي السنوات الأخيرة، تحول الآلاف، وأغلبهم من المناطق الحضرية والريفية ذات الدخل المنخفض، إلى الإسلام السني، وخاصة نسخته السلفية؛ لذا ربط النظام الإيراني صعود السلفية بـالتطرف الديني لعرب إيران، وألقى باللوم على الطوائف الوهابية في السعودية؛ لذا تعول طهران بشدة على الاتفاق الذي توسطت فيه الصين في مارس (آذار) 2023 بين إيران والمملكة العربية السعودية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، أن يؤدي إلى تآكل الدعم السعودي لهذه الجماعات.
لقد عالجت الحكومات الإيرانية المتعاقبة مشكلات خوزستان العميقة بأسلوب رد الفعل في المقام الأول. ومع أن الحركات الانفصالية العربية لا تزال ضعيفة، فإن الوضع الراهن، إذا تُرك دون تغيير، سوف يوفر أرضًا خصبة لمزيد من تسييس الهوية العرقية العربية في إيران، وسوف تؤدي المظالم العربية الداخلية إلى مزيد من العنصرية، وهو ما يجعل إيران عُرضة للأمراض نفسها التي تسببت في صراعات أهلية في بعض بلدان الشرق الأوسط.
إن تجربة خوزستان تثبت أن أزمة عرب إيران لن تنتهي في المستقبل القريب، وربما تراجع الاضطرابات منذ أواخر عام 2022، سمح للجمهورية الإسلامية بالاعتقاد بأن القمع قد أزال التهديد المباشر لحكمها، غير أن الأحداث في خوزستان وغيرها من المناطق الهامشية تظهر أن دوافع السخط تتراكم وتتقاطع، لكن المشكلة الأكبر لعرب إيران في الوقت الحالي تكمن في حالة عدم اليقين التي تحيط بالنظام الجديد بعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث مروحية، الشهر الماضي، وهل سيسير النظام الجديد على خطى الجمهورية الإسلامية الممتدة عقودًا من التغيير المحبط، وسوء الإدارة، والفساد المستشري، فضلًا عن التمزق بين الدولة والمجتمع الذي ظهر عقب الاضطرابات الأخيرة؟
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.