
شهد النفوذ الإيراني في أمريكا اللاتينية خلال العقدين الماضيين تطورًا نوعيًا قادته شراكة إستراتيجية مع فنزويلا تُساعد طهران على تجاوز الضغوط الغربية، فقد استفادت إيران من البيئة السياسية المناهضة للولايات المتحدة في كاراكاس لبناء موطئ قدم خارج محيطها الإقليمي التقليدي، وبناء شبكات نفوذ تعتمد على أدوات متداخلة تشمل الطاقة، والتعاون الصناعي والعسكري، والعلاقات الثقافية، إضافةً إلى قنوات مالية وتجارية غير تقليدية، وقد مكن هذا التوسع طهران من تعزيز حضورها في نصف الكرة الغربي، وامتلاك قدرة -محدودة- على المناورة الدبلوماسية والاقتصادية بعيدًا عن مناطق الصراع المباشر في الشرق الأوسط.
ولكن هذا النفوذ يواجه اختبارًا غير مسبوق في ظل التصعيد العسكري والسياسي القائم بين الولايات المتحدة وفنزويلا في نهاية عام 2025، الذي ألقى بظلال مباشرة على قدرة إيران الاحتفاظ بنفوذها الإقليمي في أمريكا اللاتينية؛ فاندلاع صراع مفتوح في الكاريبي يعرض ركائز الشراكة الإيرانية الفنزويلية للاختبار، ويطرح عددًا من الأسئلة تبدأ من كيفية تطور العلاقات بين إيران وفنزويلا منذ مطلع الألفية، وما التحولات التي شكّلت الأساس لنفوذ طهران في أمريكا اللاتينية؟ وما الدوافع الإستراتيجية التي تجعل فنزويلا نقطة ارتكاز مهمة في السياسة الخارجية الإيرانية؟ وما الأدوات التي استخدمتها إيران لترسيخ نفوذها في فنزويلا اقتصاديًا، وعسكريًا، ولوجستيًا، وثقافيًا؟ وكيف تكاملت هذه الأدوات لتشكيل شبكة تأثير مستدامة؟ وهل تنجح طهران في الحفاظ على مكتسباتها من خلال تطوير أدوات أكثر مرونة وسرية؟ أم أن التصعيد بين الولايات المتحدة وفنزويلا سيعيد رسم حدود تأثيرها، ويحصره في نطاقات رمزية لا ترقى إلى مستوى التمدد الذي تحقق خلال العقد الماضي؟
قبل بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت العلاقات بين إيران وفنزويلا محدودة، تقتصر على التبادل الدبلوماسي الرمزي والتعاون في المحافل الدولية، ولم يكن هناك اهتمام كبير بتطوير شراكات اقتصادية أو سياسية فعلية، إذ كانت كل دولة منشغلة بالسياسات الإقليمية والمحلية؛ فبينما كانت إيران تخطط لخطوات الإصلاح الداخلي وتحسين علاقاتها بالغرب خلال فترة محمد خاتمي، سعت فنزويلا إلى توطيد سلطة هوغو تشافيز داخليًا بعد صعوده إلى الرئاسة عام 1999.
لكن عقب تنامي التوتر بين فنزويلا والولايات المتحدة، بدأ تشافيز بالبحث عن شركاء إستراتيجيين من خارج الدائرة التقليدية للنفوذ الأمريكي. في المقابل، كانت إيران تبحث عن شركاء دوليين لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي في مواجهة العقوبات الغربية. هذه المرحلة شهدت توقيع أولى مذكرات التفاهم في مجالات الطاقة، والثقافة، والدبلوماسية، مع زيارات رسمية متبادلة بين الرئيس هوغو تشافيز والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد؛ ما أسس لبنية تحالفية سياسية قائمة على مواجهة الهيمنة الأمريكية، وهذا التقارب التاريخي يشير إلى أن العلاقة لم تنشأ على أساس مصالح اقتصادية فورية فقط؛ بل كانت مرتبطة برؤية أيديولوجية وإستراتيجية طويلة المدى، تهدف إلى إعادة تشكيل التحالفات الدولية خارج نطاق النفوذ الأمريكي الغربي.
ثم بدأت مرحلة التعمق الاقتصادي والإستراتيجي التي شهدت توسيع التعاون ليشمل مجالات اقتصادية وإستراتيجية ملموسة، أبرزها قطاع النفط والطاقة، حيث استثمرت إيران خبراتها في تطوير مصافي النفط الفنزويلية، وتسهيل تجارة الوقود، وتقديم قروض مالية للحد من تأثير العقوبات الأمريكية. كما بدأت مؤشرات التعاون تظهر في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية؛ ما عزز مكانة كل طرف كداعم إستراتيجي للآخر، خاصةً في المحافل الدولية، ورفع قدرة البلدين على مواجهة الضغوط الاقتصادية والسياسية الخارجية.
ومع تصاعد العقوبات الأمريكية على فنزويلا بعد 2015، بعد تدهور الوضع الاقتصادي الداخلي، وتكثيف الضغوط على إيران بسبب برنامجها النووي في الفترة نفسها، تحولت العلاقة بين البلدين إلى ما يشبه التحالف الإستراتيجي الشامل، الذي تضمن التعاون السياسي، والدعم في المحافل الدولية، والاقتصاد والطاقة، بالإضافة إلى التعاون في مجالات البنية التحتية والخدمات، مع تعاون أمني محدود، وأصبحت فنزويلا بمنزلة بوابة إيران إلى أمريكا اللاتينية، وعززت طهران قدرتها على مواجهة العزلة الدولية من خلال دعم حليف يشاركها أهداف مقاومة النفوذ الأمريكي.
تتميز العلاقات الإيرانية- الفنزويلية بخصوصيتها، حيث تجمع بين عدة أبعاد -جيوسياسية، واقتصادية وأيديولوجية- في إطار مواجهة النفوذ الأمريكي الغربي. وفي هذا السياق يمكن الوقوف على أبرز محفزات إيران لتوثيق علاقتها بدول أمريكا اللاتينية، وعلى رأسها فنزويلا، فيما يلي:
منذ عهد تشافيز، وعلى نحو أوضح في عهد نيكولاس مادورو، ارتكز التعاون الإيراني الفنزويلي على أدوات مركبة لاستعراض التضامن ضد الضغوط الأمريكية، وسعت الجمهورية الإسلامية إلى تبني نهج شامل تجاه أمريكا اللاتينية عبر فنزويلا من خلال ما يلي:
تمثل المواجهة العسكرية المتصاعدة بين الولايات المتحدة وفنزويلا منعطفًا إستراتيجيًا تتجاوز آثاره حدود أمريكا اللاتينية لتطول البنية الأوسع للتوازنات الإقليمية والدولية، بما فيها مصالح إيران وحساباتها الخارجية؛ فطهران تُعد أحد أبرز الداعمين السياسيين والتقنيين والاقتصاديين لكاراكاس خلال العقدين الماضيين، وقد استثمرت في بناء شراكات في مجالات الطاقة، والتعاون العسكري، وتطوير شبكات لوجستية موازية للالتفاف على العقوبات الأمريكية؛ ومن ثم فإن الاحتكاك العسكري الأمريكي الحالي مع فنزويلا يعرض الشبكات البحرية واللوجستية التي استُخدمت سابقًا لتسهيل تبادل النفط والسلع بين طهران وكاراكاس لخطر المصادرة والمراقبة المتزايدة؛ ما يحد من قدرة إيران على استخدام فنزويلا قناةً لتصدير نفط، أو استيراد تقنيات حساسة.
وبما أن دعم إيران لفنزويلا شمل إمدادات طاقة وتقنيات، فإن تقييد القدرة الفنزويلية الاقتصادية نتيجة عمليات بحرية أمريكية، وخطر فقدان صادرات النفط، يقلص المساحة التي تتحرك فيها إيران في أمريكا اللاتينية، مع تراجع حوافز حلفاء آخرين في المنطقة لتقوية الشراكة علانية مع طهران خوفًا من تبعات عقوبات أو إجراءات انتقامية من الولايات المتحدة. وفي حالة تصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة وفنزويلا، ستعمد واشنطن إلى استهداف خطوط الإمداد والتوريد التقنية؛ ما قد يوقف أو يعوق نقل قطع غيار وخبراء إيرانيين، ويقلص أثر طهران في قدرات كاراكاس العسكرية، وهو ما يضع طهران أمام خيارين؛ تعميق السرية، أو تحويل دعمها إلى قنوات أبطأ وغير مباشرة.
كما أن الاحتكاك مع فنزويلا يضع ضغوطًا على الولايات المتحدة وحلفائها لاستخدام أدوات اقتصادية لتعطيل تمويل أي تعاون إيراني؛ ما يؤدي إلى تقييد قدرة طهران على تحويل موارد نقدية عن طريق شبكات لبنانية- لاتينية، أو شركات وسيطة، ويفتح باب زيادة الاستهداف الاستخباري للكيانات المالية المتورطة. وبفقدان نافذة نفوذ فعالة على شريك محوري لإيران في نصف الكرة الغربي، قد تُعجل إيران تعميق تنسيقها مع روسيا والصين لتوفير ستار دبلوماسي، وإمدادات بديلة، أو دعم لوجيستي، غير أن هذا يحمل تكلفة تظهر في تعميق الاعتماد على قوى دولية؛ ما يضيق على إيران مجالها للمناورة الإستراتيجية، ويربط تحركاتها بمصالح تلك القوى.
ولعل التصعيد في الكاريبي يُغري طهران لاستخدام أدوات الرد غير التقليدية من خلال دعم وكلاء إقليميين، وأنشطة بحرية مضادة، أو عمليات سيبرانية في دول أمريكا اللاتينية كرد رمزي على الولايات المتحدة، ما قد يؤدي إلى حلقة تصعيدية تمتد إلى الشرق الأوسط، أو مسارات بحرية أخرى خاصة في باب المندب، ما قد يفضي إلى تدويل النزاع وتحوله من أزمة إقليمية إلى حرب ذات آثار أمنية دولية، ولكن على جانب آخر من الصورة، يمكن لإيران استثمار الهجوم الأمريكي على حليفها في أمريكا اللاتينية كأداة دعائية لخطاب المقاومة ضد الإمبريالية؛ ما يساعد على تعبئة قواعد داعمة داخليًا وإقليميًا، خاصةً لدى الحركات المسلحة في محور المقاومة، أو دول ترى المواجهة مع الولايات المتحدة في صالحها. تلك المكاسب لا تُعوض الخسائر الاقتصادية، لكنها قد تتيح لإيران بناء تحالف رمزي إقليمي ودولي مؤقت.
لا تنظر طهران إلى انفجار الصراع في الكاريبي على أنه حدث منفصل وبعيد عن طموحها الإقليمي؛ بل اختبار مباشر لقدرتها على الحفاظ على نفوذها في نصف الكرة الغربي، وعلى صلابة شبكاتها البحرية والمالية العابرة للقارات، وعلى حدود إمكاناتها على تحدي الضغوط الأمريكية دون الانزلاق إلى مواجهة غير مرغوبة، إذ إن أدوات نفوذ إيران في فنزويلا أثبتت فعاليتها في الحفاظ على قدرة النظام على الصمود اقتصاديًا وعسكريًا إلى حد ما، لكنها ليست حلًا مستدامًا. كما أن تعميق البُعد العسكري قد يزيد احتمالات التصعيد الإقليمي، ويجذب رقابة استخباراتية دولية. بالإضافة إلى ذلك، تظل قدرة إيران على تحويل النفوذ السياسي إلى مؤسسات مستقرة داخل فنزويلا محدودة بسبب الضغوط الداخلية، والأزمات الاقتصادية المزمنة لكلا البلدين؛ ومن هنا يمكن القول إن تداعيات هذا الصراع على إيران لا تقتصر على الخسائر المحتملة في العلاقات الثنائية مع فنزويلا فحسب؛ بل تمتد إلى إعادة تشكيل خياراتها الإستراتيجية في أمريكا اللاتينية، وهندسة تحالفاتها الإقليمية والدولية، ودرجة انكشافها أمام أدوات القوة الأمريكية التقليدية وغير التقليدية، ليعكس هذا حقيقة أن نفوذ الجمهورية الإسلامية البعيد يتطلب بنية أمنية ولوجستية مستدامة، وما لم تُبنَ دعائم راسخة لتلك البنية فإن محاولات النفوذ الخارجي لطهران ستظل هشة على المدى المنظور.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير