أبحاث ودراساتالقضايا الاقتصادية

بين الاستدامة الإستراتيجية والمخاطر الجيوسياسية

طريق الحرير الكوري في آسيا الوسطى


  • 9 أغسطس 2025

شارك الموضوع

مثّلت آسيا الوسطى أحد أهم الفضاءات الجغرافية التي يمكن أن تعكس طموحات كوريا الجنوبية  لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في عالم ما بعد الحرب الباردة. وفي سياق عالمي يشهد تحولات متسارعة في موازين القوى، فإن الحضور الكوري في آسيا الوسطى لم يعد خيارًا تنمويًّا فحسب؛ بل ضرورة إستراتيجية لتعزيز الاستقلالية الإستراتيجية لكوريا الجنوبية، وتحقيق أمنها الاقتصادي البعيد المدى، وفي ضوء تلك الرؤية أعلنت كوريا الجنوبية موعد عقد أول قمة رسمية تجمعها مع دول آسيا الوسطى الخمس في العاصمة سيول عام 2025، في إطار مبادرة “طريق الحرير الكوري” (K‑Silk Road)، لكن في نهاية يونيو (حزيران) المنصرم، أعلن نائب وزير الخارجية بارك يون‑ جو رسميًّا تأجيل القمة إلى عام 2026؛ نظرًا إلى الظروف السياسية الداخلية في كوريا الجنوبية، ليثير هذا جدلًا بشأن مستقبل العلاقات بين كوريا الجنوبية والجمهوريات الخمس، ومصير مبادرة الحرير الكوري الطموحة التي جاءت في توقيت دقيق تعيد فيه كوريا الجنوبية رسم خطوط علاقاتها الخارجية من موقعها بين القوى الكبرى، في حين تواجه تحديات داخلية متصاعدة شملت اضطرابات سياسية، واستقطابًا حزبيًّا، وتغيرات في هيكل القيادة بعد أزمة إقالة الرئيس يون سوك يول في يونيو (حزيران) 2025؛ ما يطرح تساؤلًا جوهريًّا يتمثل في: هل تستطيع سيول أن تتحول من شريك تنموي ناعم إلى فاعل محوري في مستقبل آسيا الوسطى -على المدى المنظور- دون أن تُستدرج إلى لعبة التوازنات الخطرة بالمنطقة؟

ديناميات تطور العلاقات الكورية الجنوبية مع دول آسيا الوسطى

تعود أولى الروابط البشرية بين كوريا وآسيا الوسطى إلى حقبة ما قبل الاستقلال الكوري، حين رحّلت السلطات السوفيتية في ثلاثينيات القرن العشرين عشرات الآلاف من الكوريين من الشرق الأقصى الروسي إلى جمهوريات آسيا الوسطى، خاصةً أوزبكستان وكازاخستان؛ لأسباب أمنية وجيوسياسية، وقد أسهم هذا الشتات الكوري في تأسيس قاعدة اجتماعية وثقافية في الجمهوريات الخمس، لا تزال تضطلع بدور رمزي واقتصادي، وتمثل جسرًا تاريخيًّا وإنسانيًّا يربطها بشعوب آسيا الوسطى. ورغم غياب علاقات رسمية بين كوريا الجنوبية والجمهوريات السوفيتية قبل التسعينيات، فإن التفاعل بين الجانبين كان قائمًا ضمنيًّا في إطار الحرب الباردة، إذ كانت كوريا الجنوبية محسوبة ضمن المعسكر الغربي، في حين كانت دول آسيا الوسطى تحت الهيمنة السوفيتية، ومع ذلك، فإن بعض أوجه الاتصال التكنولوجي والتجاري غير المباشر بدأت بالظهور في الثمانينيات عن طريق الدول الوسيطة، مثل الصين، لا سيما في المجالات الزراعية والبحثية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، سارعت كوريا الجنوبية إلى الاعتراف بالدول الخمس المستقلة حديثًا، وكانت من أوائل الدول الآسيوية التي أقامت علاقات دبلوماسية معها، وشهدت العلاقات الاقتصادية بين كوريا الجنوبية ودول آسيا الوسطى تحولًا تدريجيًّا منذ استقلال تلك الجمهوريات، من علاقات قائمة على المساعدات والدبلوماسية التنموية إلى شراكات تجارية واستثمارية ذات طابع إستراتيجي. في البداية ركزت كوريا الجنوبية على دعم عمليات التحول الاقتصادي في جمهوريات آسيا الوسطى، من خلال برامج التدريب والمساعدات التقنية، وتأسيس البنى المؤسسية في قطاعات الاتصالات، والطاقة، والتعليم، وقد كانت أوزبكستان وكازاخستان في طليعة الدول التي أقامت معها كوريا شراكات اقتصادية مكثفة؛ نظرًا إلى موقعهما الجغرافي، ومخزونهما الكبير من الموارد الطبيعية، وقد اعتبرت كوريا الجنوبية هذه المنطقة أولوية في سياستها الجديدة تجاه أوراسيا بما يتجاوز بعدها الجغرافي، وفي هذا السياق اضطلع الكوريون المنحدرون من آسيا الوسطى بدور في تسهيل الاستثمارات والتبادل التجاري، إذ شكلوا شبكة بشرية تتمتع بفهم مزدوج للسياقين الثقافي والإداري؛ ما سهل دخول الشركات الكورية إلى أسواق المنطقة، حيث انخرط أبناء الشتات انخراطًا أكبر في مؤسسات دول آسيا الوسطى؛ مما عزز الحضور الرمزي لكوريا في السياسات العامة لتلك الدول.

يكشف ما سبق أن العلاقات الكورية مع دول آسيا الوسطى تميزت بأنها لا تحمل إرثًا استعماريًّا أو دينيًّا مشتركًا، بل إن جذورها التاريخية قائمة على روابط إثنية وإنسانية فريدة، وتقاطعات جيوسياسية ناعمة مهدت لانطلاقة إستراتيجية قوية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، هذه الجذور شكلت الأساس الذي بُنيت عليه المبادرات الاقتصادية والثقافية اللاحقة، ففي يونيو (حزيران) 2024، خرجت كوريا الجنوبية عن نمطها التقليدي الهادئ في التعامل مع فضاء آسيا الوسطى، معلنةً مبادرة طموحة حملت اسم “طريق الحرير الكوري” (K Silk Road)، خلال جولة رئاسية شملت كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، في إطار جديد لتعزيز الشراكة الشاملة مع الجمهوريات الخمس في آسيا الوسطى، ولم يكن الإعلان مجرد بيان خارجي؛ بل إشارة رمزية إلى عزم سيول دخول سباق النفوذ في قلب أوراسيا، حيث مثلت هذه المبادرة جزءًا من رؤية أشمل لرئيس كوريا الجنوبية السابق يون سوك يول، تهدف إلى توسيع نطاق الحضور الكوري في أوراسيا، بعد إطلاق إستراتيجيتين مماثلتين تجاه المحيطين الهندي والهادئ، ورابطة دول جنوب شرق آسيا، وتندرج المبادرة ضمن محاولة كورية لإعادة تموضعها بوصفها فاعلًا تنمويًّا وتكنولوجيًّا في بيئة جيوسياسية مشحونة بتنافس القوى الكبرى.

وفي إطار السعي إلى بناء شراكة متعددة الأبعاد مع دول آسيا الوسطى، ارتكزت المبادرة على تبادل القدرات التكنولوجية الكورية مقابل الموارد الطبيعية والمعادن الإستراتيجية المتوافرة في جمهوريات المنطقة، وتُقدم هذه الشراكة بوصفها نموذجًا للتنمية المشتركة، بعيدًا عن الأنماط التوسعية أو الهيمنة السياسية، حيث تحاول كوريا الجنوبية توظيف خبراتها في الصناعات الذكية والطاقة والبنية التحتية لدعم مشروعات التنمية الاقتصادية المحلية في آسيا الوسطى، مقابل تأمين استدامة سلاسل التوريد لموارد حيوية لصناعاتها؛ لذا شملت المبادرة عدة مجالات تعاون مثل الموارد الإستراتيجية، إذ وقعت كوريا الجنوبية مذكرات تفاهم مع أوزبكستان وكازاخستان لتطوير التعاون في مجال التنقيب عن المعادن الحرجة، خاصةً الليثيوم واليورانيوم والكروم، بما يدعم الصناعات الكورية الفائقة التقنية، وفي مجال البنية التحتية والنقل كان أبرز المشروعات توقيع عقد بقيمة 196 مليون دولار لتصدير تكنولوجيا القطارات الفائقة السرعة الكورية  إلى أوزبكستان؛ ما يُعد أول عملية تصدير من هذا النوع. وفي قطاع الطاقة وقعت كوريا الجنوبية شراكات إستراتيجية مع تركمانستان لتطوير مشروعات في مجال الغاز الطبيعي والطاقة الحرارية، كما وُقّعت اتفاقات لإعادة تأهيل محطات الطاقة الكازاخية.

ورافقت المبادرة جهود دبلوماسية مكثفة، تمثلت في توقيع اتفاقيات إستراتيجية على المستوى الرئاسي، وإعلان نية كوريا الجنوبية استضافة أول قمة كوريةوسط آسيوية في سيول عام 2025، وكان من شأن هذه القمة أن تؤطر التعاون الإقليمي ضمن آلية مؤسسية مستدامة، تسمح بالتخطيط الجماعي للمشروعات الكبرى، ومراقبة تنفيذ المبادرات الموقعة، واستكشاف فرص جديدة في إطار متعدد الأطراف، لا سيما في إطار التعاون الثقافي والإنساني من خلال توسيع برامج التبادل الأكاديمي والثقافي، مع التركيز على استثمار الجالية الكورية بوصفها جسرًا بشريًّا وثقافيًّا للتقارب بين الطرفين، والتزام كوريا الجنوبية بتوفير مساعدات إنمائية رسمية تركز على الصحة العامة، والمناخ، والتعليم الرقمي.

أبعاد مصالح كوريا الجنوبية في آسيا الوسطى

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي بدأت كوريا الجنوبية تفتح آفاقًا جديدة للتعاون مع جمهوريات آسيا الوسطى الخمس، ومع تصاعد المنافسة الجيوسياسية في أوراسيا، أصبحت المنطقة اليوم تحظى بأهمية متزايدة في الحسابات الإستراتيجية الكورية، ليس فقط بوصفها مصدرًا للموارد، بل أيضًا منصة لتعزيز نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي بعيدًا عن التوترات المتصاعدة في شرق آسيا، ويبرز ملامح تلك المكاسب الإستراتيجية فيما يلي:

  • الموارد الطبيعية والمعادن النادرة: تمثل آسيا الوسطى خزانًا إستراتيجيًّا من الموارد التي تحتاج إليها الصناعات الكورية المتقدمة، خاصةً المعادن الحرجة، مثل الليثيوم والكروم واليورانيوم، حيث تُعد كازاخستان وأوزبكستان من أبرز الشركاء في هذا السياق، لا سيما مع سعي كوريا الجنوبية إلى ضمان استقلالية سلاسل التوريد بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية في أوكرانيا. كما تسعى كوريا إلى تنويع مصادر الطاقة من خلال التعاون في الغاز والموارد الحرارية، خاصة مع تركمانستان؛ بهدف تأمين مصادر طاقة بديلة لتقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط.
  • توازن المحاور الكبرى: تمنح آسيا الوسطى كوريا فرصة لتعزيز حضورها في بيئة جيوسياسية لا تخضع لقطب واحد، فدول المنطقة تنتهج سياسة خارجية قائمة على تعدد المحاور، وتُرحب بمساهمات من قوى غير استعمارية. يسمح هذا الانفتاح لكوريا ببناء تحالفات إستراتيجية، وتقديم نفسها بديلًا ثالثًا بين روسيا والصين، وهو ما يعزز من مكانتها بوصفها دولة ذات سياسة خارجية مرنة ومستقلة، إذ إن تعزيز الحضور في هذه المنطقة يُحقق عدة مصالح لسيول، على غرار إظهار قدرة كوريا على أداء دور دولة وسطى بين المحاور الكبرى، وتأمين حضور استباقي في مناطق التنافس المستقبلية، فضلًا عن الإسهام في صياغة النظام الإقليمي الأوراسي من خلال الحضور الاقتصادي والتقني.
  • دعم الأجندة الكورية على الساحة الدولية: من خلال تعميق العلاقات مع دول آسيا الوسطى، التي تشكّل كتلة تصويتية مؤثرة في المحافل الدولية، حيث تسعى كوريا الجنوبية إلى كسب دعم دبلوماسي لترشيحاتها في المنظمات الدولية، من خلال حشد دعم دول آسيا الوسطى في صراعها مع كوريا الشمالية داخل الأمم المتحدة، وتقديم نموذج بديل للتنمية السياسية والاقتصادية قائم على التدرج والحداثة.
  • التعاون في التكنولوجيا والبنية التحتية: أصبحت كوريا الجنوبية شريكًا مرغوبًا فيه في آسيا الوسطى في مجالات التكنولوجيا الذكية، والمدن المستدامة، والتعليم الرقمي، والبنية التحتية المتقدمة، فضلًا عن تطوير مشروعات الطاقة والبنية الملاحية الذكية؛ ما يمنح كوريا الجنوبية فرصًا استثنائية لعقد شراكات اقتصادية متنوعة بهدف توسيع صادراتها إلى أسواق جديدة غير مشبعة، وجذب استثمارات إستراتيجية في مشروعات البنية التحتية والطاقة؛ ما يخفف اعتمادها على السوق الصينية.
  • توسيع نطاق الدبلوماسية التنموية والنفوذ الناعم: ترى كوريا الجنوبية في آسيا الوسطى فرصة لتوسيع نفوذها من خلال أدوات القوة الناعمة، والدبلوماسية التنموية، لا سيما في أوزبكستان التي تضم أكبر جالية كورية في آسيا الوسطى، عن طريق تقديم مساعدات تنموية في مجالات مثل التعليم والتكنولوجيا والصحة، وتعزيز تعليم اللغة الكورية والثقافة الكورية، بالإضافة إلى دعم برامج التبادل الأكاديمي والتقني، خاصةً في أوزبكستان وكازاخستان. هذه المقاربة تُرسخ صورة كوريا بوصفها شريكًا موثوقًا به، مما يُعزز موقعها في بيئة تنافسية تسيطر تقليديًّا عليها روسيا والصين.
  • تأمين سلاسل التوريد وتنويع الشركاء: تشكل دول آسيا الوسطى جزءًا من الرؤية الكورية لتأمين سلاسل التوريد، لا سيما بعد الأزمات العالمية التي كشفت هشاشة الاعتماد على مصدر واحد، كما تتيح آسيا الوسطى فرصة لتنويع الشركاء التجاريين والاستثماريين؛ ما يُقلل من الاعتماد المفرط على الصين أو الأسواق الغربية؛ ولهذا تمثل آسيا الوسطى محورًا مهمًّا لمشروعات النقل والطاقة العابرة للقارات، ومنها الممرات التي تربط بين الصين وأوروبا والشرق الأوسط؛ لذا تسعى سيول إلى تطوير ممرات السكك الحديدية والمواني الجافة، وربط شبكة طرقها التجارية بالمبادرات الأوراسية، مثل الممر الأوسط، والمبادرات التركية، أو الصينية.

آليات كوريا الجنوبية لتعزيز نفوذها في الجمهوريات الخمس

تكشف الأدوات الكورية في آسيا الوسطى عن مقاربة تجمع بين القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية والتفوق التقني، وهي مقاربة قائمة على الشراكة وليس التبعية، فمن خلال التنسيق الوثيق بين الدولة والقطاع الخاص، استطاعت كوريا الجنوبية بناء نفوذ مرن ومستدام في بيئة أوراسية معقدة، من خلال ما يلي:

  • الدبلوماسية الاقتصادية: إحدى أبرز أدوات كوريا لتعزيز حضورها الإقليمي هي توظيف الدبلوماسية الاقتصادية عن طريق توقيع اتفاقيات شراكة إستراتيجية، وتسهيل تدفقات الاستثمار الخارجي المباشر، حيث وقعت كوريا الجنوبية وكازاخستان في يونيو (حزيران) 2024 اتفاقيات تتعلق بالتعدين الأخضر والتكنولوجيا النووية، شملت استثمارات مشتركة في مشروعات الليثيوم والطاقة النظيفة، مما يمثل نموذجًا للتحالف الاقتصادي المستدام، كما تضطلع الشركات الكورية العملاقة بدور مباشر في تعزيز النفوذ الاقتصادي والسياسي لكوريا في المنطقة، من خلال الدخول في مشروعات البنية التحتية والطاقة والنقل، مثل بناء مجمع غاز ضخم في تركمانستان. تلك المشروعات الاقتصادية لا تعزز الاقتصاد فحسب؛ بل تخلق علاقات نُخبوية عابرة للقطاعات مع الحكومات المحلية.
  • القوة الناعمة التنموية: تستغل كوريا برامج التعاون التنموي أداةً إستراتيجية لنشر نفوذها، وتثبيت علاقات طويلة الأمد مع الكوادر الحكومية والنخب الفنية في دول آسيا الوسطى، من خلال الوكالة الكورية للتعاون الدولي التي موّلت مشروعات لتحسين نظم التعليم والتدريب المهني في قرغيزستان وطاجيكستان، ودعم الجامعات التقنية ومراكز الابتكار الزراعي.
  • التعليم والتبادل الثقافي: تهدف كوريا إلى زرع نفوذها الاجتماعي والثقافي من خلال توفير منح دراسية، ومراكز لتعليم اللغة الكورية، فقد افتتحت فروعًا للجامعات الكورية في أوزبكستان، لتكون نموذجًا للتعليم الكوري في الخارج، كما توسعت معاهد King Sejong لتعليم اللغة الكورية في جميع عواصم آسيا الوسطى.
  • التحول الرقمي: تقدم كوريا نموذجًا بديلًا للتنمية، قائمًا على التكنولوجيا الذكية؛ ما يجعلها شريكًا جاذبًا لدول تبحث عن التحديث دون مشروطية سياسية، فقد دشنت مشروع الحكومة الإلكترونية في أوزبكستان بالتعاون مع شركات وخبراء كوريين، كما أطلقت مشروعات تجريبية للمدن الذكية في ألماتي بكازاخستان بالتعاون مع الشركات التكنولوجية الكورية.
  • بناء منصات مؤسسية: تسعى كوريا إلى إنشاء أطر مؤسسية للتنسيق الدائم مع آسيا الوسطى على غرار النموذج الياباني أو الأوروبي، حيث انعقد “منتدى كوريا- آسيا الوسطى” منذ 2007 ليكون مظلة حوار سنوية تشمل وزراء خارجية الدول الست، وأداة لبلورة رؤية مشتركة في مجالات الطاقة والصحة والتعليم.

مستقبل علاقات كوريا الجنوبية بدول آسيا الوسطى في ضوء مبادرة طريق الحرير الكوري

تعيش آسيا الوسطى تحولات عميقة منذ 2022، خاصةً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتراجع الاعتماد على موسكو بوصفها مركز نفوذ أوحد، وقد أدى ذلك إلى انفتاح هذه الدول على شركاء جدد، خاصة من شرق آسيا؛ ما يخلق فرصة أمام كوريا الجنوبية لتقديم نموذج تنموي بديل وغير استعماري. كما تسعى دول الجمهوريات الخمس إلى تحديث اقتصاداتها من خلال الرقمنة، وتحلية المياه، والطاقة المتجددة، والتعليم العالي التقني، حيث تمتلك كوريا خبرة نوعية في هذه المجالات، وقد بدأت بالفعل بتنفيذ مشروعات تعليمية ومجمعات صناعية في أوزبكستان وكازاخستان، ما يمنح توثيق العلاقات بين كوريا والجمهوريات الخمس أساسًا عمليًّا للتوسع. وبعكس الصين التي ترتبط بأهداف مبادرة “الحزام والطريق”، أو روسيا التي تواجه عقوبات دولية، فإن كوريا الجنوبية لا تثير حساسيات سياسية في آسيا الوسطى، وهذا يعزز قبولها  بوصفها شريكًا حياديًّا يُمكن الوثوق به لبناء شراكات مستدامة.

ولكن رغم الطابع الطموح لمبادرة طريق الحرير الكوري، فإن ثمة عدة تحديات جوهرية تعترض مستقبلها، أبرزها ما يرتبط بالقدرة التمويلية المحدودة للمبادرة الكورية مقارنة بمبادرة الحزام والطريق الصينية، ومبادرة البوابة العالمية الأوروبية، اللتين تمتلكان قدرة تمويلية ضخمة، ووجودًا راسخًا في البنية التحتية الإقليمية. كما أن البُعد الجغرافي لكوريا عن المنطقة يفرض تكاليف لوجستية وسياسية أعلى مقارنة بجيران آسيا الوسطى، فضلًا عن أن المرونة السياسية لدول آسيا الوسطى، التي تنتهج سياسة متعددة المحاور، وترغب في الحفاظ على توازن بين الصين وروسيا وتركيا والغرب، دون الارتهان لأي طرف، قد تعرقل تقدمها في المبادرة الكورية، بالإضافة إلى تعقيدات البيئة المؤسسية في بعض دول آسيا الوسطى من حيث البيروقراطية، أو الفساد، أو ضعف الشفافية، التي قد تعوق تحويل الخطط الكورية إلى نتائج ملموسة.

ولعل العقبة الأكثر تهديدًا لمستقبل الطموح الكوري في دول آسيا الوسطى تتعلق بالأزمة السياسية التي تعرضت لها سيول منتصف 2025 بعد إخفاق الرئيس يون سوك يول في فرض قانون الطوارئ، ثم قرار البرلمان إقالته، ما تلاه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة فاز بها لي جاي ميونغ من الحزب الديمقراطي، وهو ما جعل الحكومة الكورية تقرر تأجيل القمة الرسمية الأولى بين كوريا الجنوبية والجمهوريات الخمس، ما  قد يحمل دلالات تعاكس مسار التقارب ترتبط بضعف القاعدة المؤسسية للمبادرة التي لا تزال تعتمد في غالبيتها على الدعاية المؤسسية، وليس على بنية مؤسسية مستقرة، ولكون إرجاء القمة جاء من دون خطاب سياسي واضح، أو خطة تنفيذية؛  وهو ما من شأنه دفع زعماء دول آسيا الوسطى إلى إعادة النظر في  دور كوريا الجنوبية  بوصفها فاعلًا مؤثرًا ومتعدد الأبعاد في ظل البيئة التنافسية في تلك الدول.

تأسيسيًا لما سبق طرحه يمكن القول إن مبادرة طريق الحرير الكوري تُشكل خطوة جريئة لتعزيز تموضع كوريا الجنوبية بوصفها فاعلًا اقتصاديًّا وتنمويًّا في آسيا الوسطى، وهي مبادرة ترتكز على الشرعية التنموية بدلًا من النفوذ التقليدي. ورغم محدودية إمكاناتها مقارنةً بالمشروعات الصينية والروسية والغربية، فإن رهانها على التكنولوجيا والثقة والمرونة قد يجعلها نموذجًا بديلًا للتعاون الإقليمي المستدام في القرن الأوراسي الجديد، لكن يبقى مستقبل المبادرة مرتبطًا بمدى قدرتها على ترجمة الاتفاقيات إلى مشروعات ملموسة، والتعامل الذكي مع العقبات السياسية للمحاور الكبرى، واستثمار البيئة الإقليمية المستقرة حديثًا في آسيا الوسطى؛ لذا فإن القمة المؤجلة لعام 2026 قد تكون محطة حاسمة لتقييم ما إذا كانت كوريا الجنوبية ستُصبح قوة أوراسية فاعلة ومؤثرة على مسرح متعدد الأقطاب؟

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع