في خضم التحوّلات الأمنية المعقّدة والمشحونة في العالم المعاصر، قررت روسيا الاعتراف بحكومة طالبان القائمة بالأعمال؛ بهدف تعزيز مستوى التعاون الأمني، وهذا ما استند إليه الدبلوماسي الروسي ممثل رئيس الجمهورية ضمير كابولوف، الذي كشف عن اقتراح وزير الخارجية سيرغي لافروف هذا القرار على الرئيس فلاديمير بوتين. وعلى هذا النحو، اقتربت الإمارة الثانية لطالبان بعد أربع سنوات من الجهود من وضعٍ يشبه فترتها الأولى. في الدورة الأولى، اعترف عدد محدود من الدول بحكومة طالبان، لكن ما يلفت الأنظار حاليًا هو مبادرة واحدة من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.
ولا يمكن في الوقت الراهن إصدار حكم باتٍ عما حدث بالفعل، ونوعية الاتفاق القائم بين الطرفين، إلا بعد نشر بيان رسمي من روسيا الاتحادية يوضح ما إذا كان هذا الاعتراف يشمل أحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961؛ فحينئذ فقط يمكن معرفة ما إذا كانت روسيا قد التزمت بالفعل بتمكين حكومة طالبان من نيل مقعدها في الأمم المتحدة.
ويتضح عند مراجعة مواقف الدبلوماسية الروسية خلال السنوات الأربع الماضية تجاه أفغانستان، أن أي خطوة لصالح طالبان من جانب الكرملين، لم تكن ممكنة دون الحصول على امتيازات. وخلال هذه الفترة، اشترطت روسيا “تشكيل حكومة موسعة”، و”ضمانات أمنية شاملة” يتعين تنفيذها لكي يُعترف بحكومة طالبان؛ لذا فالسؤال المطروح في المساحة الإعلامية حاليًا: أيّ من الامتيازات قدّمتها طالبان؟ وأي الضمانات قبلت بها للتوازن في معادلة علاقتها مع روسيا؟
في وقتٍ سابق، أي في أواخر مرحلة الجمهورية، تم توقيع اتفاق مماثل في الدوحة بين طالبان والولايات المتحدة، لكن بعد سقوط كابل في 15 أغسطس (آب) 2021، تبادل الطرفان الاتهامات بانتهاك بنود الاتفاق الغامضة. ومن هذا المنطلق، تطرح تساؤلات: هل نموذج الاتفاق الحالي مع روسيا يتضمن نفس قالب اتفاق الدوحة؟ والملاحق التي توجه الولايات المتحدة وطالبان الاتهامات كل منهما للأخرى بخصوص عدم تنفيذها؟ أم أن هذا التحرك الجديد لطالبان متأثر بتطورات مثل أحداث الأشهر الستّة الماضية التي وقعت بظهور الجولاني في سوريا، واستدارته من “الشريعة الإسلامية” إلى “الواقعية الغربية”؟
لا يساورني أدنى شك في أن وزارة الخارجية الروسية -مُدركةً تمامًا لتجربة اتفاق الدوحة- قد سلكت طريقًا شجاعًا في الحوار للتوصل إلى اتفاق يُجسّد أولوياتها، لكن حجم مساهمات الأطراف ونتائجها، وكيفية تنفيذ الالتزامات والتنازلات، ونموذج التحقق من كيفية إقرار الدبلوماسيين الروس لما جاء في تصريحاتهم الموجزة، ظلت -ربما عن قصد- غامضة.
ينبغي اعتبار قرار طالبان الموافقة على التوقعات التي طالبت بها روسيا جريئًا ومهمًّا بالقدر نفسه في سياق التطورات الراهنة. إن التوجه نحو روسيا في ذروة التوترات بين موسكو وواشنطن يعني انحراف كابل عن سياسة التوازن الإيجابي التي أمرت بها قيادة طالبان قبل عام تقريبًا. في إمارة قندهار، وجهت العاصمة كابل بأنه يجب أن ترتكز أولوية “الإمارة الإسلامية” على عملية إقليمية التوجه.
وفيما يتعلق بدول جوار أفغانستان، فقد تمسكت بمواقفها السابقة مع الصمت وضبط النفس، فضلًا عن احترام سياسة روسيا؛ وهنا يعتمد تنفيذ هذا التمسك على تطورات أخرى. على سبيل المثال، في آسيا الوسطى، لا يتوافر حتى الآن تحليل شامل لتأثير هذا التطور للحكم عليه بناءً عليه. ومع ذلك، تكشف المحادثات الشخصية أنه على الرغم من سعادة البعض بأن وضع الترانزيت والتأثير الاقتصادي لقبول روسيا لطالبان سيكون إيجابيًّا لدول آسيا الوسطى، فإن هناك أيضًا قلقًا من أن معارضة الحركات الإسلامية المتطرفة في هذه البلدان لما تراه “نفوذ الكافر الروسي” سوف تؤثر أيضًا في أمنها القومي.
لكن من خلال المحادثات الشخصية، يُفهم أن هناك ارتياحًا جزئيًّا من إمكانية تعزيز العلاقات الاقتصادية والترانزيت عبر أفغانستان، مقابل قلق بالمنسوب نفسه من أن يقود الاعتراف الروسي بطالبان إلى تصاعد نفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة؛ ما يهدد الأمن القومي لتلك الدول. ويزداد هذا القلق نتيجة الاعتقاد بأن طالبان من غير المستبعد أن تسعى إلى استبعاد المكونات غير البشتونية، معتمدة على الشرعية الدولية الناتجة عن الاعتراف الروسي، وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية “الهوية” في المنطقة.
كما يُظهر استعراض المشاورات السياسية والأمنية الأخيرة بين جيران أفغانستان أنهم أدركوا أنه بعد فترة وجيزة من محاولة أداء دور إقليمي، قد تظل أفغانستان في المستقبل القريب “موضوعًا وموقعًا” للتنافس العابر للحدود بين القوى العظمى، بوصفها “قضية تاريخية” في جوهرها. إذا كان هذا التقييم الجماعي للجيران صحيحًا، فمن الطبيعي ألا يُبشر ما سيحدث بالضرورة بمزيد من الاستقرار. وبموجب هذا الرأي فإن التحالف مع قوة ما والصداقة مع أخرى، في المواقف التي تتعرض فيها كلتا القوتين للتحدي، ينبغي وصفه بأنه “شجاع أو جريء”.
حتى لو افترضنا أن هاتين القوتين العالميتين قد اتفقتا على تحديد مناطق نفوذهما، فإن الجغرافيا الأفغانية لا تتطابق مع تلك الخطط. يكفي إلقاء نظرة على وضع أفغانستان على مدار مئتي عام تقريبًا من استقلالها لفهم هذا المعنى.
لقد أرست تجارب الحكم غير المكتملة في هذه البلاد أسس تاريخ “الحكم الفاشل”. على مدى العقدين الماضيين تقريبًا، كان هناك أمل أن تتوقف هذه العملية في الوقت المناسب، وأن تتمكن حكومة “قادرة، وبناءة للهوية، وناجحة” من تغيير مجرى التاريخ من خلال فهم الخصائص الطبيعية والبشرية والسياسية لجغرافية أفغانستان. يمثل اليوم نقطة تحول مهمة للمستقبل، والشجاعة المستخدمة للتغلب على عقبة طويلة دامت أربع سنوات تتطلب -ولا تزال- دراسة جميع جوانب القضية بفطنة.
ومن الطبيعي أن تستحق دراسة ردود الفعل الداخلية في أفغانستان على ما حدث هذه الأيام فيما يتعلق بالعلاقة بين كابل وموسكو قدرًا كبيرًا من الاهتمام. فعلى سبيل المثال، فإن حزب التحرير (وهو حركة اجتماعية ونخبوية -إلى حد ما- قائمة على الخلافة يرى نفسه بديلًا للإمارة، واستطاع أن يؤسس لنفسه قاعدة كبيرة لنفسه بين جيل الشباب الحضري، على الرغم من القيود والمحاذير خلال السنوات الأربع الماضية) اعتبر -في بيانٍ شديد اللهجة- هذا الاعتراف “خيانة لمبادئ الخلافة”، ووصف -على نحو غريب وغير سعيد- هذه الخطوة القائمة بالأعمال التي يمكن أن تقرّب كابل من الشرعية الدولية بالخطوة التي “تغاير أسس النظام الإسلامي”.
وبالنظر -من كثب- إلى الأوضاع داخل أفغانستان، يمكن التوقع أن العبارة التي استخدمها هذا التيار، أي القبول بـ”نظام عالمي علماني بعيد عن الشريعة والأمّة الإسلامية”، تمثل -حسب بيان الحزب- تحذيرًا جديدًا موجهًا إلى قندهار.
طوال السنوات الأربع الماضية، حرص زعيم طالبان على توخي الحذر في التعامل مع روسيا، البلد الذي لا تحمل ذاكرة الشعب الأفغاني كثيرًا من الذكريات الطيبة تجاهه. ومع ذلك، سمح لكوادر طالبان بزيارة موسكو قبل سقوط كابل، وأشادوا بموقف روسيا “الحيادي” آنذاك تجاه أفغانستان التي تودع الجمهورية في صيف 2021. كما أكَّد بعد تأسيس الإمارة الثانية ردًا على مخاوف روسيا تجاه الجماعات الإسلامية من آسيا الوسطى، التي كانت موجودة على الأراضي الأفغانية، أنه “لا يوجد أي نيَّة أن تستخدم أراضي أفغانستان ضد روسيا أو حلفائها”، ولكن على النقيض من سياسة حكومة عمران خان -التي سعت إلى التعامل الشامل مع طالبان- فقد اتخذت موقفًا مختلفًا ومعقولًا تجاه الحرب مع أوكرانيا.
من الواضح أن قادة طالبان يدركون جيدًا المشاعر المشتركة لأنصارهم تجاه كل من الولايات المتحدة وروسيا، وكان يتخذون حتى الآن قراراتهم وفقًا للتصوّر العام لهذا التوجه تجاه أي شرعية من قوى أجنبية. اتبع مسؤولو حكومة تسيير الأعمال -بجرأة- مسار موسكو لأنهم يدركون جيدًا أن أي “مطالبة غير معقولة بالشرعية من الخارج سوف تؤدي إلى انقسام داخلي”، وأن منافسين مثل حزب التحرير، الذي يتبنى منظورًا سياسيًّا، أو داعش خراسان، الذي تبنى نهجًا مسلحًا، إلى جانب فروع أخرى من الجماعات المتنوعة والمتناثرة في أفغانستان، سوف يستغلون هذا الانقسام.
ويتعاظم هذا القلق عندما تلتزم الجماعات المتحالفة مع طالبان ـمثل حركة طالبان باكستان، والقاعدة، وحركة تنفيذ الشريعة المحمدية، وحركة الجهاد الإسلامي، ولشكر طيبة، أو حتى شخصيات مثل مولانا فضل الرحمن ـبالصمت تجاه ما حدث؛ لذلك يبدو من الضروري لمسؤولي حكومة تصريف الأعمال توفير تغطية إعلامية مناسبة، وبناء رأي عام بشأن هذه القضية، بدلًا من السماح للتحليلات الداخلية للمهتمين بتحليل الوضع بأنفسهم باختلاف وجهات النظر. وفيما يجري العمل عليه، تجدر الإشارة إلى أنه إذا نجح توجيه دعاية معارضي طالبان داخل أفغانستان في تصوير حكومة تصريف الأعمال كدمية وشريك للكفار، فسيكون لهذا النجاح تأثير غير متكافئ في ضمان الاستقرار الداخلي، والأمن الإقليمي.
يتعين -كذلك- متابعة التداعيات الأخرى لهذا الحدث بين تيارات مثل تحالف حامد كرزاي وعبد الله عبد الله التي التزمت داخل أفغانستان بالمقاومة المدنية بمساعدة المخططات الأجنبية. وترى هذه التيارات أن قرار روسيا يؤدي إلى “تقويض خطاب ضرورة قيام موسعة وشاملة من منظور دولي”، بل ربما يعتقدون -مثلهم مثل بعض دبلوماسي غرب أوروبا- أن هذا كان “طعنة روسية” في خاصرة المبادرات الأوروبية في أفغانستان.
وكشف استطلاع رأي أُجري في كابل مؤخرًا تفاوتًا في التقييم العام بين احتمالين: “الأمل في زيادة التفاعلات الاقتصادية” من جهة، و”عودة النفوذ الأجنبي واستمرار الأزمة الإنسانية” من جهة أخرى. كما وصف ناشطون اجتماعيون مستقلون أو شبه مستقلين، يعملون في مجال أنشطة المجتمع المدني وحقوق النساء والفتيات الأفغانيات، في مواقعهم المتفرقة، تأثير هذا الإجراء بأنه “انهيار للضغط الدولي، وبداية موجة واسعة النطاق من التمييز الجندري الشديد”.
ويلقي التدقيق في هذه السلسلة من ردود الفعل والتقييمات بظلاله على سبب تعمد روسيا تأخير نشر الخبر وبيانها الرسمي على موقع وزارة الخارجية. ويشير هذا الغموض -من وجهة نظر فنية- إلى أن موسكو تنتظر أن تعرض في علاقاتها الخارجية النص الذي جاء عنوانه الرئيس بالسماح برفع علم الإمارة الإسلامية فوق مبنى السفارة الأفغانية في روسيا، بعد دراسة ردود الفعل الاجتماعية، والسياسية، والإقليمية، والدولية.
وبناءً على ما تقدّم، يمكن القول إننا نعيش لحظة مفصلية، تتزامن مع أزمات كبرى في أوكرانيا، وغزة،و لبنان، والهند، وباكستان، وإيران، حيث تتجه المنطقة والعالم نحو مرحلة جديدة من التوترات العسكرية والأمنية. وفي هذا السياق، يأتي قرار الكرملين بشأن أفغانستان بداية لسياسة روسية جريئة على المسرحَين الإقليمي والدولي.
المصدر: وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.