مختارات أوراسية

صدى حادث بنسلفانيا على أوروبا


  • 25 يوليو 2024

شارك الموضوع

وفق أسلوب المقالات السياسية السوفيتية، يجب أن يكون العنوان الرئيس لمحاولة اغتيال ترمب: “دوي صدى طلقات الرصاص في ولاية بنسلفانيا يتردد بصوت عالٍ على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي”. إن مدى ملاءمة الأسلوب الذي كان سائدًا قبل خمسة وأربعين عامًا أمر مثير للنقاش، ولكن هذا العنوان يعبر في الواقع عن كثير من الحقيقة، حيث إن أوروبا مصدومة مما يحدث في الولايات المتحدة.

في الأسبوعين الماضيين فقط حدثت عدة أمور مثيرة؛ في البداية كانت هناك ضجة بسبب الحرج الذي تعرض له بايدن في المناظرة، والآن حدث ما هو أسوأ من ذلك؛ محاولة لاغتيال ترمب؛ وهو ما أدى إلى تحول كبير في الحملة الانتخابية بكاملها، ومنح الجمهوريين السبق.

من الإنصاف أن نتحفظ على أن دونالد ترمب لم يفز بالانتخابات بعد، فالمرحلة الأكثر حدة من الصراع تنتظرنا، ومن المستحيل التنبؤ بما قد يحدث. من الجدير أن نتذكر أنه في ربيع عام 2020 لم يشك أحد تقريبًا في فوز ترمب بالولاية الثانية، لكن الوباء دمر كل شيء، وكلفه خسارة البقاء في البيت الأبيض. ويجب الافتراض أن ترمب وإستراتيجييه لم ينسوا هذه التجربة، فهم لا يستطيعون الاسترخاء، لكن من الناحية الموضوعية، أصبحت الظروف الآن مواتية.

الاتحاد الأوروبي في حيرة من أمره؛ فبينما يتعرض ترمب للشيطنة قدر الإمكان في العالم القديم، وباستثناء رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، لا يستطيع أحد في النخبة الأوروبية أن يتباهى بأي اتصالات مثمرة مع الزعيم الأمريكي المحتمل في المستقبل. لقد حاول ماكرون ذات مرة، ولكن دون نجاح يذكر. كما شارك جميع زعماء أوروبا تقريبًا في مرثية للجمهور العام، حيث قالوا: “لا سمح الله أن يعود ترمب مجددًا!”

لماذا ترمب مرعب جدًّا؟ بعد كل شيء، سنوات رئاسته الأربع من 2017 إلى 2021، لم تؤدِّ إلى أي كارثة في العلاقات عبر الأطلسي. بعبارة ملطفة، فإن الأسلوب الفريد للرئيس السابق كان- بلا شك- مثيرًا لاشمئزاز النخبة الأوروبية، ولكن بشكل عام، مطالب ترمب بتعديل العلاقات التجارية والاقتصادية لصالح الولايات المتحدة، فضلًا عن زيادة الإنفاق العسكري، انتقلت- بنجاح- إلى برنامج عدوه اللدود بايدن. اعتُمِد قانون حمائي صريح، ضرب المصالح الأوروبية على وجه التحديد في ظل إدارة ديمقراطية، وبدأ الإنفاق على الحرب في الزيادة فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية. ويبدو أنه لا يوجد سبب لتوقع أي هجمات أخرى إضافية؛ لأن ترمب يركز بشكل خاص على قضايا المال.

في الواقع، ترتبط مخاوف أوروبا بشيء آخر: “حالة عدم اليقين ذات الطبيعة الأكثر عمومية”. على سبيل المثال، في عام 2022، راهنت أوروبا على الولايات المتحدة، متخلية عن خطها المستقل فيما يتعلق بالصراع الأوكراني، ووافق العالم القديم على ذلك، ليس تحت ضغط الشريك الأكبر؛ بل طوعًا؛ لأنه لم يكن له موقفه الخاص، ولم يرغب في ذلك. وقد يكون بوسع المرء أن يناقش لفترة طويلة الخيارات المتاحة أمام أوروبا، وما إذا كانت هناك أي خيارات متاحة، ولكن هذا لم يعد يهم؛ فقد اتُّخِذ القرار، بصرف النظر عن التكاليف الواضحة.

إن الترهيب بأن ترمب قد يغادر حلف شمال الأطلسي، أو يسحب القوات الأمريكية من أوروبا، أو يقطع الأوكسجين فجأة عن أوكرانيا، لا يندرج في سوى فئة الدعاية الانتخابية. لا يستطيع ترمب أن يفعل أيًّا من هذا، حتى فيما يتعلق بتغيير موقفه بسرعة بشأن دعم كييف، حتى لو أراد ذلك (وهذا ليس حقيقة أيضًا)، ولكن من المرجح- إلى حد كبير- أن يحدث تغيير في نظام الأولويات، حيث قد تحصل أوروبا على مكانة أقل حظًا. ومن الناحية العملية، يعني هذا أن أوروبا سوف تعتمد على نفسها على نحو أكبر. وبناء على ذلك، سيتعين عليها أن تتعامل بنفسها مع مختلف المشكلات الأساسية، ومنها تلك المتعلقة بمستقبل القضية الأوكرانية، لكن الاتحاد الأوروبي ودوله الرئيسة ليست مستعدة لهذا الاستقلال الإستراتيجي، ليس فقط فيما يتعلق بالموضوع الأوكراني؛ ولكن أيضًا فيما يتعلق بالمصالح الأمريكية الأخرى، على سبيل المثال، في شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ ككل، ومن هنا كانت الرغبة الشديدة في إعادة توظيف منظمة حلف شمال الأطلسي، وتحويلها إلى بنية ذات امتداد عالمي، وهو ما تأكد- مرة أخرى- في القمة التي عُقدت للتو في العاصمة الأمريكية.

وفي الوقت نفسه، فإن الأوروبيين، وخاصة الألمان والفرنسيين، غير متحمسين للمواجهة الاقتصادية مع الصين، وهي المواجهة التي تدفع الولايات المتحدة نحوها، ومن الواضح أن هذا الخط سوف يتعزز في عهد ترمب. إن قدرة أوروبا على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية، لكونها تنتمي إلى كتلة جيوسياسية وثيقة مع الولايات المتحدة، تبدو الآن محدودة جدًّا. ولكن حتى في ذروة الحرب الباردة في القرن الماضي، تمكنت قوى أوروبا الغربية من الإصرار في الدفاع عن مصالحها إذا رأت أن بعض احتياجاتها الاقتصادية ضرورية.

لقد بدأت عملية إعادة توجيه الولايات المتحدة منذ ما يقرب من ربع قرن، وكان آخر رئيس أطلسي لا لبس فيه هو بيل كلينتون، ومن الواضح أن جميع الرؤساء الآخرين تحولوا- بشكل أو بآخر- إلى مهام أخرى، ولكن أوروبا لم تستغل الوقت الفاصل لإعادة هيكلة نفسها في اتجاه “الاستقلال الإستراتيجي”، أيًّا كان معنى ذلك. أما فيما يتعلق بوصول رئيس أمريكي قادر على الخروج على نحو حاسم عن الإجماع الليبرالي الأطلسي المعلن حتى الآن، فإن العالم القديم ليس جاهزًا ليعتمد على نفسه، لا في الشكل، ولا في المضمون، ولكن يبدو أنه سيتعين عليه التعامل مع هذا الرئيس على أي حال.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع