يشير المسار الذي اتخذته الأزمة الأوكرانية خلال الأيام القليلة الماضية إلى أن موسكو قررت تصعيد خطابها السياسي نحو ثلاث جبهات على التوازي: تحميل زيلينسكي مسؤولية تعطيل التسوية، وإعادة تأكيد مرونتها في الحوار مع واشنطن، وتثبيت صورة نفسها بوصفها طرفًا لا يمكن تجاوزه في صياغة مستقبل الأمن الأوروبي، وليست مسألة أمن أوكرانيا فحسب كما يطالب الأوروبيون.
في مقابلته مع قناة NBC News، التي أذيعت يوم الجمعة ٢٢ أغسطس (آب) ٢٠٢٥، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن بوتين مستعد لعقد لقاء مع نظيره الأوكراني، لكن بشرط وجود “أجندة رئاسية واضحة”.
هذا الكلام معناه لقاءات القمم ليست في نظر الكرملين استعراضات بروتوكولية، ولا مشاهد إعلامية؛ وإنما هي أداة لتحقيق إنجاز تفاوضي ملموس.
ومن هنا، يتجلى الموقف الروسي -حسبما أراه- في صيغة مشروطة، تنص على أنه لا قمة مع زيلينسكي -إن قَبِلنا به أساسًا- بلا جدول أعمال محدد سلفًا، يستجيب -بلا جدل- لشروط الكرملين بشأن جوهر القضايا الخلافية.
والمبادئ التي وضعتها موسكو على الطاولة، ودار النقاش بشأنها خلال قمة ألاسكا بين بوتين وترمب، هي ليست مجرد تفاصيل فنية في نظر موسكو، فرفض انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وفتح النقاش في ملف الأراضي والتنازلات الإقليمية، وإلغاء القوانين التمييزية التي تحد من استخدام اللغة الروسية، تمثل جميعها أركان الرؤية الروسية للأمن القومي، حسب فهمي.
هذه ليست تنازلات يمكن تأجيلها؛ بل هي عين الخطوط الروسية الحمراء، التي لطالما تساءل عنها الناس، والتي تحدد مسار أي تسوية محتملة من وجهة نظر موسكو بالطبع.
اللافت أن لافروف شدد على أن روسيا أبدت مرونة في بعض النقاط التي طرحها ترمب في ألاسكا، وحسب ما لدي من معلومات، وليس مجرد تحليل، عندما أتى ويتكوف إلى موسكو في زيارته الأخيرة حمل معه خطة ترامب للتسوية، فرد عليها بوتين بخطة مقابلة، فاتفق الاثنان على أن يلتقي الرجلان -أي بوتين وترمب- لإيجاد صيغة أو خطة وسط تكون مقبولة، وهذا ما حدث في ألاسكا، حيث تنازل بوتين وخفف بعض شروطه ومطالبه -من وضعية المتقدم في الميدان- غير أن زيلينسكي -بوحي من الأوروبيين- رفض كل بنود الخطة المشتركة.
وهذا الموقف الروسي يبرز -من وجهة نظري- رسالتين متوازيتين: الأولى أن موسكو لا تعارض الحوار مع واشنطن، بل ترى فيه القناة الوحيدة الجادة والواقعية نحو الحل. والثانية أن أوكرانيا ليست شريكًا مستقلًا؛ وإنما طرف تابع، يكتفي بقول “لا” لكل مقترح موضوعي يراعي الواقع.
وهكذا، تُرسم صورة زيلينسكي في الخطاب الروسي، الموجه إلى الداخل، وإلى المجتمع الدولي أيضًا، على أنه ليس زعيمًا شرعيًّا؛ بل “يتظاهر بالقيادة”،والوصف هنا للافروف، وأطلقه بحدة في تصريحاته الأخيرة التي نحن بصدد تقديم قراءة لها في هذا المقال.
من زاوية أخرى، تعكس هذه التصريحات -حسبما أعتقد- انتقال موسكو إلى خطاب أكثر هجومية على صعيد نزع الشرعية عن الرئيس الأوكراني؛ فالتشكيك العلني في وضع زيلينسكي بعد انتهاء ولايته في مايو (أيار) عام ٢٠٢٤، ومن دون إجراء انتخابات جديدة، يندرج ضمن إستراتيجية تهدف إلى تقييد هامش مناورة كييف سياسيًّا، وإلى إظهار أن أي حوار جاد يجب أن يتم بين موسكو وواشنطن أولًا، ثم يُفرض أو يُسقط على أوكرانيا لاحقًا.
وفي هذا السياق، يكتسب خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي صدر مساء الجمعة (بتوقيت موسكو طبعًا)، أهمية خاصة؛ فقد تبنى ترمب علنًا المبادئ التي ذكرها لافروف، لكنه مع ذلك اختار الاكتفاء بعبارات عامة، ومهلة زمنية جديدة وضعت الجميع في حيرة بشأن قراراته المقبلة في هذا الملف، وهذا ما قد يجعل موسكو تعتقد أن واشنطن لا تزال مترددة في حسم خياراتها.
على المستوى العملي، يتواصل التصعيد الميداني الروسي من خلال الغارات الجوية، وضرب البنية التحتية الأوكرانية، وهو ما يعكس مبدأً ثابتًا في الإستراتيجية الروسية: تعزيز الموقف التفاوضي بالقوة على الأرض.
في المقابل، لا تزال كييف تراهن على المساعدات الغربية، وإظهار قدراتها الصناعية من خلال الإعلان عن صاروخ “فلامينغو” الجديد، الذي يصل مداه إلى ٣ آلاف كيلومتر، أي يستطيع ضرب العمق الروسي، بل موسكو نفسها.
وفي الوقت نفسه لم تقدم كييف حتى الآن مبادرة سياسية قابلة للتفاوض بخلاف ما عُرفت بخطة زيلينسكي -المستحيلة التحقيق للسلام- التي فشلت قبل أن تُطرح لنقاش جدّي.
وقصارى القول أن موسكو رسمت معادلة جديدة: مرونة تجاه واشنطن.. تصلب تجاه كييف.. وترقب بحذر لموقف ترمب.
هذه المعادلة تؤكد أن التسوية -إن حصلت- لن تُبنى على طاولة ثنائية بين موسكو وكييف؛ بل على تفاهمات بوتينية- ترمبية أولية، تُفرض لاحقًا على الأطراف الأخرى.
وفي هذا الإطار، تظل قمة بوتين- زيلينسكي مؤجلة إلى أجل غير مسمى، رهنًا بقدرة العواصم الكبرى على بلورة أجندة تعترف صراحة بالمصالح الروسية، وتترجمها إلى ترتيبات أمنية مُلزمة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.