أفرزت عملية طوفان الأقصى التي اندلعت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، معطيات جديدة قد تؤدي إلى تغيير خريطة التحالفات الإقليمية في القارة الآسيوية، فواقع العلاقات الروسية مع كل من حماس وإسرائيل، يضع موسكو أمام مجموعة من الخيارات التي تدفعها إلى اتخاذ خطوات مندفعة في التعامل مع المعادلة الجديدة التي فرضتها حماس في صراعها مع إسرائيل، حيث سارع بعض المراقبين إلى اتهام محور موسكو- طهران بالوقوف خلف حماس في تلك المعادلة، وأن روسيا تعمل- عمدًا- على تأجيج الصراع في الأراضي المقدسة لتوسيع ساحة معركتها مع الغرب، روسيا التي لم تصنف حماس على أنها جماعة إرهابية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا؛ بل شكلت علاقات متوازنة تجمعها بحماس على مدى السنوات الماضية، وهو ما يفرض تساؤلًا محوريًّا عن احتمالية دعم روسيا لحماس في مواجهتها الجارية مع إسرائيل من خلال الشراكة مع إيران لتكون ذراعها المنفذة لهذا الدعم.
هذا الانحياز الروسي إلى إيران على حساب إسرائيل- إن تأكدت معطياته- سيمثل ضررًا سيصعب إصلاحه في العلاقة الروسية الإسرائيلية، وسينعكس في سوريا، ما يُعد مكسبًا لإيران، من خلال انحياز أكبر من جانب روسيا باتجاهها، على حساب العلاقة غير المثمرة مع تل أبيب؛ ما يضع روسيا في اختبار صعب لتحقيق التوازن الذي لطالما حاولت الدبلوماسية الروسية في عهد بوتين تحقيقه بين اللاعبين في الشرق الأوسط[1].
اعتمدت روسيا سياسة التفاعل الحذر إزاء الحرب في غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، وسعت إلى استغلالها دبلوماسيًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا؛ للنيل من الدول الغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سعت إلى أداء دور الوسيط لإنهاء الحرب، فانشغل المسؤولون الروس بالاتصال بنظرائهم العرب، كما قدمت روسيا مشروع قرار بشأن الحرب إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لكنه فشل في الحصول على دعم الأغلبية رغم دعم كثير من الدول العربية والغربية. فضلًا عن هذا الدعم، امتنعت روسيا عن الإشارة إلى هجوم حماس على إسرائيل بوصفه عملًا إرهابيًّا، كما تبنت التغطية الإعلامية الروسية للحرب التي كشفت ميلًا واضحًا مؤيدًا لحركة حماس[2].
في هذا السياق، حافظت موسكو- منذ فترة طويلة- على علاقات وثيقة مع حماس التي تسيطر على غزة وتتمتع بدعم إيراني، وتطورت علاقات موسكو مع حماس باطّراد منذ أكثر من عشر سنوات، وفي السنوات الأخيرة زارت قيادة حماس العاصمة الروسية عدة مرات، حيث التقت وزير الخارجية سيرغي لافروف، ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، الذي يتولى ملف الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، وتشاورت روسيا مع الفصائل الفلسطينية في الدوحة، ورام الله في الضفة الغربية، واستضافت محادثات بينهم في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية في موسكو.
وزادت اتصالات روسيا مع حماس منذ عام 2020، حيث استضاف لافروف مسؤولين رفيعي المستوى من حماس في موسكو أكثر من خمس مرات، ومنهم زعيم الحركة إسماعيل هنية، وأرجعت روسيا تلك الاجتماعات إلى أن هدف روسيا الرئيس هو المساعدة على استعادة الوحدة الفلسطينية، ما يشير إلى أن روسيا تعترف بحماس لاعبًا سياسيًّا شرعيًّا، خاصة أن الكرملين لم يعلن قط تصنيفه أيًّا من جناحي حماس جماعة إرهابية كما يصفها الغرب. وعلى مر السنين، شقت بعض الأسلحة الروسية الصنع، مثل الأسلحة المضادة للدبابات، والصواريخ المضادة للطائرات، طريقها إلى غزة عبر إيران، لكن حتى الآن لا يوجد دليل واضح على أن روسيا دعمت حماس في تخطيط أو تنفيذ هجومها المفاجئ على إسرائيل.
غير أن سياسة التفاعل الحذر التي انتهجتها روسيا تغيرت بمرور أكثر من شهر على بدء العدوان، حيث بدأت موسكو من خلال سياسة الانخراط الحذر في تعزيز حالة من الضغط المتصاعد على واشنطن، ومع أن روسيا نفت المعلومات التي أوردتها وسائل إعلام أمريكية عن تخطيط مجموعة المرتزقة “فاغنر” تزويد حزب الله بنظام “بانتسير” للدفاع الجوي الروسي، فإنها لم تنفِ المعلومات المتداولة عن سماحها لإيران بتمرير شحنات أسلحة لميليشياتها في سوريا ولبنان، من خلال مطار حميميم في اللاذقية، إلى جانب تسهيل انتشار الميليشيات المدعومة إيرانيًّا، قرب الجولان المحتل، وهو أمر إذ ثبتت صحته قد يكون نقطة تحول في الموقف الروسي إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة[3].
تتمثل محددات رؤية إيران تجاه القضية الفلسطينية في خمس ركائز؛ هي: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض المحتلة، وحق العودة لجميع الفلسطينيين، وإنشاء حكومة مستقلة في القدس تعبر عن المسلمين والمسيحيين واليهود، ورفض الاعتراف بعملية السلام القائمة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على اعتبار أن منظمة التحرير لا تمثل كل الشعب الفلسطيني، وتأييد المقاومة في كل من فلسطين وجنوبي لبنان باعتبارها تمثل إعادة الحقوق الضائعة[4].
ومنذ بداية العدوان على غزة، اتهمت الدول الغربية- وعلى رأسها إسرائيل والولايات المتحدة- إيران باعتبارها العامل المحرك وراء “طوفان الأقصى”، وهو ما نفاه الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله يوم الجمعة 3 نوفمبر( تشرين الثاني) الجاري، وأنكر مسؤولية إيران المباشرة، مشيرًا إلى أن حزب الله لن يتدخل في الموقف؛ حمايةً لإيران من احتمالات تعرضها لهجوم، مؤكدًا أن إيران تدعم حركات المقاومة، لكنها لا تتدخل في قرارها، وأن المواجهات مع إسرائيل كانت لأسباب تتعلق بفلسطين نفسها، ولا تتصل بأي ملف إقليمي ودولي.
وعلى الرغم من عدم وجود دليل يدعم فكرة دور إيران بشكل وثيق في التخطيط لهجوم حماس، فإن لإيران تاريخًا طويلًا من الدعم اللوجستي والعسكري لحماس، فضلًا عن الجماعات الوكيلة الأخرى في محور المقاومة الذي أصبح يعمل مركزيًّا منذ بداية الحرب؛ ومن ثم ترسم ملامح الدور الإيراني في دعم حركة حماس في غزة من خلال وجود دور حقيقي لإيران في دعم المقاومة الفلسطينية، بصرف النظر عن التصريحات الرسمية للنظام، وينطبق هذا أيضًا على تصريحات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، فيما يخص إيران، بالنظر إلى أن التحالفات والعلاقات السياسية التاريخية تطغى على المشهد المعلن الذي تتداوله التصريحات الإعلامية[5].
فضلًا عن غياب الدور الدبلوماسي الإيراني في إنهاء الحرب، فإيران لا يمكنها أداء دور الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل، ويعود هذا إلى عقيدتها، وطبيعة العلاقات المعلنة السائدة بينها وبين الغرب عمومًا، وإسرائيل على الأخص؛ إذ تعدّها طهران عدوها الأول في المنطقة، فمنذ الثورة الإيرانية عام 1979، اتخذت إيران من قضية فلسطين ذريعة سياسية للنظام الجديد آنذاك في إيران للنفاذ إلى العالم العربي والتأثير في جماهيره، فالعقيدة الإيرانية تتبنى فكرة ثنائية المستضعفين والمستكبرين، وهي تناصر الصنف الأول، وتكافح الصنف الثاني، بالإضافة إلى حسابات الأمن القومي الإيراني، التي تعتبر منطقة الشرق الأوسط إحدى دوائره المهمة؛ ومن ثم أصبحت فلسطين في هذا السياق خط مواجهة أساسيًّا على مستوى التوازنات الإستراتيجية الإقليمية لإيران[6].
تتباين مصالح كل من روسيا وإيران من استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث تتجسد منافع روسيا من حالة الصراع القائمة فيما يلي:
1- تركيز الدبلوماسية الروسية على إحراج الولايات المتحدة والقوى الأوروبية من خلال الترويج لسياسة ازدواجية المعايير فيما يتعلق بدور واشنطن وحلفائها في دعم إسرائيل، واتضح ذلك جليًّا في وصف بوتين للولايات المتحدة بالنفاق، حيث قارن بين الحصار الذي يفرضه جيش الاحتلال على قطاع غزة، وحصار ستالينجراد خلال الحرب العالمية الثانية. بالإضافة إلى أن طرح روسيا مشروع قرار لوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية، واعتراض الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا عليه، وضعهم في موقف حرج أمام المجتمع الدولي باعتبارهم ليسوا دعاة حرب فقط؛ بل مشجعين أيضًا على حروب الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي.
2- استمرار الدعم الأمريكي الأوروبي لإسرائيل عسكريًّا وماديًّا سيؤثر في حجم المساعدات الأمريكية والأوروبية لأوكرانيا؛ مما يصب في مصلحة التقدم العسكري الروسي على أرض الصراع في أوكرانيا، في ظل عدم قدرة الولايات المتحدة والأوروبيين على تحمل نفقات فتح جبهة صراع جديدة إلى جانب أوكرانيا.
3- الوسيط الروسي: تطمح موسكو في تهدئة التصعيد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على غرار ما أحدثته في سوريا، غير أن هذا الدور صعب قبوله في هذا الصراع لعدم القبول بروسيا وسيطًا من جانب الفاعلين الدوليين والإقليميين المعنيين بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خاصةً إيران المرتبطة بالمقاومة الفلسطينية من ناحية، والتعاون الإستراتيجي مع روسيا من ناحية ثانية، ما قد ينقل الصراع من داخل الأراضى الفلسطينية إلى خارجها، وهو أمر من شأنه تحويل الملف إلى حالة صراع إقليمي حاد[7].
أما في طهران، فإن القيادة الإيرانية ترى في الحرب الحالية فرصة لتحقيق عدة أهداف، تتجاوز إضعاف إسرائيل، أو حتى الحصول على سلاح نووي، بل إن الحرب في غزة ستعزز التضامن بين دول الجنوب العالمي، التي ترفض الدعم الأمريكي لإسرائيل، وهو شعور يتشاركه عدد من الدول الغربية؛ ومن ثم تأمل إيران، من خلال وضع نفسها في قلب القضية الفلسطينية، أن تتمكن من ادعاء القيادة العالمية، وتبني القضية الفلسطينية؛ وهو ما قد يقلل الغضب الشعبي الداخلي ضد النظام الإيراني نتيجة الانشغال بالقضية ذات الطابع الديني[8].
عمقت موسكو تعاونها مع إيران بشكل كبير منذ بدء العدوان، وفي مقابل الطائرات الإيرانية دون طيار، وغيرها من المعدات العسكرية، كثفت روسيا دعمها الدفاعي لطهران، ومن ذلك المساعدة في برامجها الصاروخية، والمركبات الفضائية، وكانت هناك سلسلة من اللقاءات العسكرية الإيرانية الروسية، ومنها جولة وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو في معرض أسلحة في طهران الشهر الماضي، فروسيا التي كانت ذات يوم وسيطًا متحمسًا في النزاع بشأن البرنامج النووي الإيراني، فقدت أيضًا حماستها للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وبعد غزوها لأوكرانيا توقفت روسيا عن الدفع نحو تحقيق تقدم ملموس في المحادثات النووية، وهو ما أدى إلى خلق درع فعلية لوضع إيران النووي[9].
أما إيران، فقد حرصت على توثيق علاقاتها مع روسيا، في سياق ما يسمى بسياسة التوجه شرقًا التي تتبناها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي منذ وصولها إلى السلطة، لكن هذا لا ينفي حرصها على عدم وضعها موضع الحليف لروسيا، ويرتبط ذلك بمحددين أساسيين: الأول يتعلق بالاتجاهات الرئيسة للسياسة الخارجية الإيرانية، التي تقوم على أن التحالف مع قوة أخرى يفرض على طهران خيارات محددة ترتبط بالالتزامات التي يتضمنها هذا التحالف، وهو ما يتناقض مع حرص إيران باستمرار على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التطورات التي تطرأ على الصعيدين الإقليمي والدولي، والثاني يتصل مباشرة بالعلاقات مع روسيا، التي تعتبرها إيران أقرب إلى شريك الضرورة الذي تفرضه الظروف التي تمر بها إيران، والضغوط والعقوبات التي تتعرض لها من جانب الدول الغربية، بسبب اتساع نطاق الخلافات بين الطرفين، كالخلاف بشأن البرنامجين النووي والصاروخي، والحضور الإقليمي، والموقف التاريخي من إسرائيل[10].
محصلة القول هي أن العلاقات بين روسيا وإيران سوف تظل محل جدل مستمر، ومع أن التطورات التي تشهدها الساحة الإقليمية والدولية من جرّاء العدوان الإسرائيلي على غزة تفرض على إيران تأسيس علاقات قوية مع روسيا في سياق ما يمكن تسميته بشراكة الضرورة، فإن تلك الحرب لن تبقى قائمة إلى الأبد؛ إذ إنها رهن المستجدات الإقليمية والدولية، وهو ما يفرض- بالضرورة- على روسيا أن تكون حذرة في تحركاتها. ومع أنها قد تستفيد مؤقتًا من التركيز الغربي على الشرق الأوسط، وإفشال التطبيع العربي الإسرائيلي، فإنها لا ترغب في رؤية إيران وإسرائيل تنجرفان إلى حرب واسعة النطاق؛ حيث إن امتداد الصراع لن يشمل لبنان فحسب؛ بل سوريا أيضًا، حيث تدعم القواعد الجوية والبحرية التي تسيطر عليها روسيا بسط قوة موسكو في شرق البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا. ومع تخصيص معظم قواتها العسكرية وأجهزتها العاملة لأوكرانيا، لن يكون لدى روسيا القدرة على التورط في صراع جديد في الشرق الأوسط.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.