مع أن الحديث عن نشوء “عالم متعدد الأقطاب” وتطوره بدأ منذ نحو 10 سنوات، فإن ما جرى هذا الشهر عندما استضافت العاصمة الصينية بكين “المنتدى الرابع” بين الصين ودول أمريكا اللاتينية والكاريبي “سيلاك” (CELAC)، يؤكد أن هناك قفزة كبيرة نحو “عالم متعدد الأقطاب” بعد أن شهد العالم هيمنة أحادية، وقطبًا أمريكيًا واحدًا منذ نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في ديسمبر (كانون الأول) 1990.
ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل التي تحدث للمرة الأولى، فمع أن منتدى “سيلاك” والصين يعقد عادةً على المستوى الوزاري، فإنه شهد في هذه الدورة حضورًا وكلمات وتفاعلًا من 4 رؤساء دول، هم: الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، ورئيس بيرو غابرييل بوريك، والرئيس الكولومبي غوستافو بيترو. كما أن مخرجات المنتدى الذي يضم 33 دولة (تجمع مع الصين كل دول النصف الغربي من الكرة الأرضية ما عدا الولايات المتحدة وكندا)، جاءت كلها ضد الإجراءات الأمريكية الأخيرة بحق الدول اللاتينية والكاريبي، خاصةً فرض واشنطن رسومًا جمركية بنحو 10% على الواردات القادمة من كل دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، والتحرش الأمريكي ببنما، وإجبارها على الخروج من “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، واستحواذ واشنطن على المواني المشرفة على حركة الملاحة من الشرق إلى الغرب في “قناة بنما”، وفرض البيت الأبيض قيودًا غير مسبوقة على المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، بل إجبار كثير من هذه الدول على استعادة المهاجرين الذين ترحلهم الطائرات الأمريكية إلى هذه الدول، ومن يرفض يتعرض لتهديدات بعقوبات اقتصادية قاسية من جانب واشنطن، كما حدث مع حكومات كولومبيا وفنزويلا.
وكشفت جميع الكلمات تعاطفًا واضحًا من دول “سيلاك” مع الصين ضد الرسوم الجمركية الأمريكية التي كانت تستهدف -على نحو خاص- الصادرات الصينية للأسواق الأمريكية، التي تصل إلى نحو 450 مليار دولار سنويًّا، وخرج المنتدى بصوت واحد يدعم موقف الصين والدول اللاتينية والكاريبي في أي مفاوضات قادمة مع واشنطن بشأن فرض البيت الأبيض الرسوم الجمركية على “سيلاك”. فما قيمة تجمع “سيلاك” وأهميته؟ وإلى أي مدى ستشكل مواقف “سيلاك” خطوة نوعية نحو تشكيل عالم متعدد الأقطاب؟
تأسس تجمع “سيلاك” في فبراير (شباط) 2010، وبعد ذلك بنحو 5 سنوات انعقد الاجتماع الأول بين الصين ومنتدى “سيلاك” في يناير (كانون الثاني) 2015، بهدف اكتشاف الفرص الاستثمارية والتجارية بين الجانبين، والتعاون في مجالات مثل البنية التحتية، والابتكار، والتكنولوجيا الجديدة، والذكاء الصناعي، بما يسهم في تحقيق معدلات نمو وتنمية مستدامة لدى الطرفين. وحقق منتدى “سيلاك” مع الصين خلال الدورات الثلاث الماضية طفرات كبيرة جعلت الصين الشريك التجاري الأول لقارة أمريكا الجنوبية، كما أن الصين باتت أكبر مستثمر وأكبر مستورد للمواد الخام والصادرات من أمريكا اللاتينية والكاريبي، حيث وصلت التبادلات التجارية عام 2024 إلى نحو 500 مليار دولار، إذ تمتلك دول “سيلاك” موارد طبيعية ضخمة، منها -على سبيل المثال- أن دول “سيلاك” توفر الغذاء لنحو 850 مليون مستهلك؛ لأن بها أراضي زراعية خصبة تنتج 15% من إجمالي محاصيل العالم، لكن ما يعطي دول “سيلاك” قيمة مضافة وسط الصراع العالمي على المواد النادرة أن لدى دول “سيلاك” احتياطيات ضخمة من الليثيوم، خاصةً في سفوح جبال الأنديز في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، تشكل نحو 50% من الاحتياطي العالمي لليثيوم الذي بات اليوم عصب صناعات الهواتف، والأقمار الصناعية، والسيارات الكهربائية.
وسط عدم اليقين السياسي والاقتصادي والغموض الذي يلف السياسات الدولية، ترى دول “سيلاك” في الصين “الخيار الآمن” في توفير الاستثمارات، والتكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الصناعي، والرقائق الإلكترونية، والمساهمة في تحقيق نهضة ونقلة نوعية في البنية التحتية، كل ذلك في مواجهة موجات من “عدم اليقين السياسي والاقتصادي” التي تسود العالم منذ عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي. ويقوم التعاون بين الصين وتجمع “سيلاك” على مجموعة من المحفزات، أبرزها:
أولًا- الاستقرار مقابل الفوضى
ترى دول “سيلاك” أن السياسات الأمريكية باتت مصدر اضطراب وعدم يقين على المستوى العالمي، سواء ما يتعلق بالمسارات السياسية والأمنية، أو التجارية والاستثمارية، لا سيما في ظل الرسوم الجمركية الأمريكية على مختلف دول العالم، ومنها دول “سيلاك”، لكن على الجانب الآخر، ترى دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية في الشراكة مع الصين نوعًا من “الاستقرار المفقود” في العلاقة مع واشنطن؛ ولهذا كانت هناك تعهدات ضخمة من دول مثل البرازيل والمكسيك بتوسيع حجم ومساحة التعاون الاقتصادي والاستثماري مع الصين. وفي الوقت الذي يهدد فيه البيت الأبيض دول الكاريبي وأمريكا الجنوبية بإجراءات عقابية لوقف المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وفي ظل التوتر الشديد بين المكسيك والولايات المتحدة، تقدم الصين نفسها لدول “سيلاك” بوصفها الشريك الموثوق به الذي لا يدعم دول “سيلاك” في التجارة والاستثمار فقط؛ بل باستقبال آلاف الشخصيات السياسية من الكاريبي وأمريكا اللاتينية للتدريب في الأكاديميات السياسية الصينية، وهو ما يخلق شراكة بين النخبة السياسية في الكاريبي وأمريكا اللاتينية مع الشعب الصيني، فضلًا عن سعي الصين إلى توطين النماذج الصينية في الذكاء الصناعي والتكنولوجيا المقدمة، خاصة تكنولوجيا الجيل الخامس في دول “سيلاك”. وهو ما يؤكد أن الانفتاح وتبادل المنافع هو العنوان الكبير للتعاون بين الصين و”سيلاك” في مقابل وضع واشنطن القيود الصارمة على تصدير التكنولوجيا الأمريكية لدول أمريكا اللاتينية والكاريبي، ناهيك بالتوتر الحاد الذي يحكم العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة من ناحية، ودول مثل كوبا وفنزويلا وغيرها من دول “سيلاك” على الجانب الآخر. وتعتزم دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية الدفاع عن حق كولومبيا في الانضمام إلى “مبادرة الحزام والطريق” الصينية في ظل التوقعات بفرض واشنطن سلسلة من الإجراءات العقابية ضد بوغوتا.
ثانيًا: البديل الجيوستراتيجي
تحليل مضمون الخطابات والكلمات التي جاءت في الدورة الرابعة لاجتماعات الصين مع “سيلاك” كشف حاجة دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية إلى “البديل الإستراتيجي”، حيث شددت جميع الدول -بلا استثناء- على رفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لتجمع “سيلاك”، وعدم قبولها فرض نمط تنموي أو سياسي على دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية؛ ولهذا تنظر دول “سيلاك” إلى الصين وروسيا بوصفهما “البديل الجيوستراتيجي” لما يسميه البعض “التنمر السياسي” الغربي، خاصةً في ظل تبني الصين وروسيا مقاربات تقوم على “العدالة الدولية”، وتبني قضايا الجنوب بضرورة أن يكون للجنوب صوت واضح في رسم معالم الحقبة القادمة بالقواعد الجديدة، وأبرزها بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب يراعي مصالح الجميع، دون هيمنة طرف أو دولة على مقدرات العالم.
ثالثًا- تسليح الدولار
تجمع “سيلاك” مثل غيره من التجمعات الاقتصادية والسياسية الأخرى، سواء أكانت تجمعات قارية أم عابرة للحدود والقارات مثل “بريكس”، كلها ترفض “عسكرة الدولار وتسليحه”، والحماية الاقتصادية والتعريفات الجمركية، وتعمل على حماية “حرية التجارة”، والتوسع في استخدام “العملات الوطنية” في التبادلات التجارية؛ ولهذا أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال منتدى الصين مع “سيلاك” تقديم خط ائتماني باليوان الصيني يساوي نحو 9.5 مليار دولار. وفي شهر مايو (أيار) الجاري، وقع بنك الشعب الصيني مع البنك المركزي البرازيلي اتفاق مبادلة للعملات الوطنية بين البلدين بنحو 28 مليار دولار (أي 157 مليار ريال برازيلي).
الواضح أن الطريق بات ممهدًا لبناء عالم جديد يقوم على “التعددية القطبية”، وهذا ليس فقط للانسحاب والتراجع الأمريكي الواضح في كثير من أقاليم العالم؛ بل لظهور إرادة سياسية قوية لدى كثير من الدول والتكتلات للبدء بمرحلة جديدة عنوانها العدالة والإنصاف، ومراعاة حقوق الجميع على الساحة الدولية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.