بدأت الهند بإزالة الترابط في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، كما هي الحال مع كثير من آليات التوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط (وخاصة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني)، وقد جاءت زيارة رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى أوكرانيا لتوفر طريقًا للمضي قدمًا للهند للانخراط دبلوماسيًّا مع منطقة أوروبا الشرقية بكاملها على نحو أكثر راحة، كما فتحت الزيارة اللاحقة التي قام بها مودي إلى بولندا (الأولى منذ 45 عامًا) قنوات لمشاركة أعمق مع أوروبا ككل. ويذكر البيان المشترك، الذي أصدرته وزارة الشؤون الخارجية الهندية، خطة عمل موجزة مدتها خمس سنوات لتنفيذ “شراكة إستراتيجية” تتكون من التعاون في صناعة الدفاع، والتدريبات المشتركة، والضمان الاجتماعي، والتبادل الأكاديمي، والتعاون الاقتصادي، لتُعد زيارة بولندا هي محاولة من جانب الهند لتجاوز الدول الكبرى في أوروبا الغربية، والانخراط مع المنطقة ككل.
تُعد زيارة مودي إلى كييف خطوة إستراتيجية لمعالجة تداعيات زيارته السابقة إلى روسيا، والاستقبال الكبير من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحصوله على أعلى جائزة مدنية روسية؛ وسام القديس أندرو الرسول، وهي خطوة غير مسبوقة ترمز إلى الاحترام المتبادل، والعلاقات الإستراتيجية بين البلدين. وفي تصريحات متلفزة في الكرملين، دعا مودي إلى حل سلمي للحرب الدائرة في أوكرانيا، قائلًا: “في خضم القنابل والبنادق والرصاص، تفشل الحلول ومحادثات السلام، وسيتعين علينا اتباع طريق السلام من خلال المحادثات فقط”.
وقد أثارت تصريحات مودي انتقادات من بعض الأوساط، وخاصة من واشنطن وكييف؛ لعدم اتخاذ موقف أكثر حزمًا ضد الإجراءات العسكرية الروسية؛ ففي عام 2022، لم تدن الهند الحرب، ولم تنضم إلى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، محافظة بذلك على “التناقض الإستراتيجي”، فالتحالف مع روسيا مهم للسياسة الخارجية والإستراتيجية للهند. ومع ذلك، فإن السياسة الخارجية للهند لا تتعلق بالانحياز إلى روسيا، بل بالأحرى الحفاظ على نهج تحوطي، حيث يمكنها موازنة تقاربها واختلافها مع موسكو اعتمادًا على مصالحها الوطنية.
وقد أثارت الولايات المتحدة مخاوف بشأن علاقة الهند بروسيا؛ لأنها تنظر إلى سياسة نيودلهي تجاه روسيا على أنها مؤشر على عدم انسجام نيودلهي تمامًا مع سياسة واشنطن لمواجهة الصين. كما أثار اعتماد الهند على الأجهزة الروسية مخاوف بشأن التوافق مع أنظمة الأسلحة الأمريكية، التي تحرص الهند على الحصول عليها، مع تعزيز الجانب الدفاعي للعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والهند. وأخيرًا، ساعدت التجارة بين الهند وروسيا روسيا اقتصاديًّا؛ وهو ما أزعج القوى الغربية مع استمرارها في فرض العقوبات على بوتين وحلفائه المقربين.
كما أن توقيت القمة الهندية- الروسية، الذي يتزامن مع قمة حلف شمال الأطلسي، يحمل أيضًا تداعيات جيوسياسية أوسع نطاقًا؛ لأنه يوضح نهج السياسة الخارجية المستقلة للهند، واستعدادها للتعامل مع روسيا بشروطها. ومنذ بداية حرب أوكرانيا، تمكنت الهند من شراء كميات كبيرة من النفط الروسي الرخيص بالروبية، وبيعه في أسواق أخرى مقابل الدولار. وقد سمح هذا للهند بالحفاظ على التضخم المحلي منخفضًا، وزيادة احتياطياتها من النقد الأجنبي، وقد دفع هذا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، خلال قمة حلف شمال الأطلسي، أن يعرب عن خيبة أمله ليس فقط من لقاء مودي ببوتين؛ بل احتضانه بحرارة في اليوم نفسه الذي قصفت فيه روسيا مستشفى للأطفال في كييف، ووصف الرحلة بأنها “ضربة مدمرة لجهود السلام”.
ومع ذلك، فإن الظهور المشترك اللاحق لمودي وزيلينسكي في أوكرانيا أشار إلى جهد متضافر لنزع فتيل التوترات، ورسم مسار أكثر بناءً للمضي قدمًا. وخلال زيارته لكييف، كرر مودي موقف الهند من الصراع، مؤكدا ضرورة الحوار والدبلوماسية، واحترام سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها. والجدير بالذكر أن توقيت زيارة مودي تزامن مع التوغل الأوكراني غير المتوقع في الأراضي الروسية، الذي على الرغم من عدم إدراجه رسميًّا على جدول الأعمال، فإنه أكد اعتراف الهند بحق أوكرانيا في الدفاع عن النفس. وبالإضافة إلى ذلك، عملت الزيارة على توضيح موقف الهند الدقيق بشأن الصراع، ونقل أن الهند ليست متحالفة مع روسيا، ولا محايدة في هذا الموقف. والسياسة التي تبنتها نيودلهي في هذا الصدد هي “إزالة الترابط- فك الإرتباط”، وهي إستراتيجية لإدارة سياسة خارجية مستقلة مع دولتين متعارضتين.
كان أحد الجوانب الحاسمة الأخرى لزيارة مودي إلى أوكرانيا هو الاشارة إلى أن مشتريات الهند من النفط الروسي تستند -في المقام الأول- إلى اعتبارات اقتصادية، مثل الأسعار المخفضة للنفط، ولا تعني تحالفًا جيوسياسيًّا أو عسكريًّا. وقد لاقت هذه الرسالة صدى إيجابيًّا لدى السلطات الأوكرانية، حيث قدمت شعورًا بالتفاؤل بشأن القرارات الاقتصادية الهندية. وقال الرئيس الأوكراني إنه ومودي كرّما “ذكرى الأطفال الذين أودى العدوان الروسي بحياتهم”.
كما ألقت الزيارة الضوء على التعقيدات والتحديات في العلاقات الهندية- الروسية، وخاصة في ضوء تأخر تسليم نظام صواريخ (S-400)، والأرباح المتأخرة من الاستثمارات الهندية في قطاع الطاقة الروسي، حيث تمتلك الهند حصة (20) في المئة في حقل سخالين-1 النفطي، لا سيما بعد عزل شركات الطاقة الروسية عن أنظمة الدفع العالمية، فقد عجزت عن الدفع إلى الهند؛ مما أدى إلى أرباح غير مدفوعة تبلغ نحو 900 مليون دولار أمريكي، وسعت نيودلهي إلى الحصول على أسهم نفطية، لكن موسكو رفضت، واقترحت تقديم تعويضات. بالإضافة إلى ذلك، هناك قلق مستمر بشأن المواطنين الهنود الذين يخدمون في الجيش الروسي. ومن وجهة نظر هندية، أدى رفض روسيا توريد قطع الغيار إلى تعطيل سلاسل التوريد، وأعاق هذا ترقية المعدات الدفاعية الهندية؛ مما دفع البلاد إلى البحث عن خيارات تعاون دفاعي بديلة.
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد زيارة مودي النهج الاستباقي للهند في الاستجابة للتطورات الجيوسياسية العالمية. ومع تعزيز العلاقات بين روسيا والصين، والآثار المحتملة على علاقات الهند بكلا البلدين، فإن التعامل مع أوكرانيا يمثل خطوة إستراتيجية لتأكيد نفوذ الهند، ومراقبة تصرفات روسيا، وإعادة تأكيد التزامها بقرارات السياسة الخارجية المستقلة. وأخيرًا، أظهرت زيارة مودي لأوكرانيا موقف الهند من الصراعات العالمية، وإدارتها للعلاقات الثنائية المعقدة وسط ديناميكيات جيوسياسية متطورة، والتزامها بالمشاركة الدبلوماسية الاستباقية في أوقات الأزمات. وأكد وزير الشؤون الخارجية الهندي جايشانكار أن الهند “لم تكن محايدة قط” في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. ومن المحتمل أنه كان يرد على الانتقادات الغربية للاستقلال الإستراتيجي للهند. ومع ذلك، فإن بيانه قد يشير أيضًا إلى عدم وجود مجال “للحياد” في هذا الصراع. ومع تزايد الضغوط على روسيا وأوكرانيا للقدوم إلى طاولة المفاوضات، وإنهاء الحرب التي أدت فقط إلى تفاقم التحديات الاقتصادية العالمية، تضع الهند نفسها صانعة سلام، وإن كان بدور بسيط، مع الإبقاء دائمًا على مصالحها في الحسبان.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.