أبحاث ودراسات

سياسات القومية العرقية في بلدان آسيا الوسطى ما بعد الاتحاد السوفيتي


  • 23 نوفمبر 2023

شارك الموضوع

سياسات القومية العرقية ف اسيا الوسطي ما بعد الاتحاد السوفيتي

افتتح الرئيس الكازاخستاني قاسم دجومارت توكاييف خطابه باللغة الكازاخية بدلًا من الروسية، خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كازاخستان، في سابقة تُظهر أن السياسات اللغوية في بلدان آسيا الوسطى (أوزبكستان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، تركمانستان، وطاجيكستان) المستقلة لا تزال مسيسة إلى حد كبير، وتتنامى الحجج الأيديولوجية المتعلقة بدور اللغات المحلية في فرض الهوية العرقية. وعادة ما تنقسم النخب السياسية بين أولئك الذين ينظرون إلى تجانس اللغة باعتباره أمرًا بالغ الأهمية لبناء الأمة، وأولئك الذين يعتقدون أنه من الأفضل الحفاظ على عدم تجانس اللغة، سواء أكان ذلك يشمل اللغة الروسية أم إحدى لغات الأقليات العرقية في كل من الدول الخمس، وأن الوحدة الوطنية يمكن تحقيقها أيضًا في مجتمع متعدد الأعراق واللغات، بشرط أن تكون مبنية على مفهوم مقبول للمواطنة داخل حدود الدولة.

لذا فالأسئلة الرئيسة التي تتناولها هذه الدراسة هي: لماذا تعد القومية مهمة جدًّا في سياق في آسيا الوسطى؟ ما أسباب تنامي القومية في آسيا الوسطى ما بعد الشيوعية؟ وكيف يمكن للقومية أن تقدم حلًا لمسألة الدولة؟

كانت سياسة القوميات التي يتبعتها الاتحاد السوفيتي بمنزلة تصور للأيديولوجيا الماركسية اللينينية. ووفقًا لهذه المبادئ، فإن جميع الأمم سوف تختفي مع مرور الوقت. وفي الواقع، كانت القومية نفسها تعد أيديولوجيا برجوازية. ومع ذلك، رأى القادة البلاشفة أن الإمكانات الثورية الكامنة في القومية مفيدة لتقدم الثورة، ومن ثم أيدوا فكرة تقرير المصير الوطني. ومع ذلك، فإن فكرة تقرير المصير كانت في ذاتها متناقضة مع ما شجعت عليه الأيديولوجيا الماركسية اللينينية؛ ولذلك كانت القومية من المفاهيم الأكثر إثارة للجدل التي قدمتها الحكومة البلشفية. على الأرجح أنه بسبب هذا الجدل لم ينظر القادة السوفيت، ولا علماء السوفيت، إلى القومية باعتبارها تهديدًا محتملًا لوجود الاتحاد السوفيتي نفسه، لكن تحت قيادة ميخائيل غورباتشوف في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بدأت كثير من الجمهوريات الوطنية والمجموعات العرقية في تحدي شرعية الدولة السوفيتية.

كانت مسألة القومية وتأثيرها في بلدان ما بعد الاتحاد السوفيتي واضحة جدًّا عندما شرعت الجمهوريات الوطنية في إحياء هوياتها الوطنية وإعادة اختراعها. وكانت هذه هي الحال بشكل خاص في آسيا الوسطى في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، حيث حول الزعماء الشيوعيون السابقون ولاءهم من الشيوعية إلى القومية، وبرزوا الآن كبناة للأمة والدولة، من خلال توظيف القومية كأيديولوجيا في بلدانهم؛ وبذلك يكتسبون شرعيتهم، التي تقوم على ضرورة الحفاظ على وحدة أراضيهم؛ لذا أصبحت بلدان آسيا الوسطى- باعتبارها نتاجًا مصطنعًا لبناء الدولة بقيادة السوفيت- تنظر إلى نفسها من خلال منظور الأصول العرقية والقومية؛ ولذلك تعد القومية مفهومًا أساسيًّا لفهم التطور السياسي في دول ما بعد الاتحاد السوفيتي.

وقد أُنشئت الجمهوريات الوطنية في الاتحاد السوفيتي على أساس أربعة أهداف:

  1. تلبية التطلعات الوطنية للمجموعات في المناطق الحدودية للدولة السوفيتية.
  2. إكساب الولاء بين شعوب آسيا الوسطى، وإظهار أن الناس في المستعمرات الروسية في حال أفضل بكثير مِن الاستعمار الغربي.
  3. تحقيق التجانس العرقي لشعوب السوفيتيات.
  4. كان هذا التجانس العرقي يعني ضمنًا الحق الوطني في تقرير المصير، وهو شعار ذو قيمة عالية في السياسة العالمية في ذلك الوقت.

ومع ذلك، فمن الواضح الآن أن إنشاء الجمهوريات الوطنية داخل الدولة السوفيتية كان يهدف إلى ضمان سيطرة روسيا السوفيتية على أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة؛ لذا فإن إنشاء الجمهوريات الوطنية في آسيا الوسطى لم يبرر الحكم البلشفي الدائم على غير الروس فحسب؛ بل سمح للقادة السوفييت بالادعاء أن الشعوب غير الروسية اختارت طوعًا أن تصبح جزءًا من الاتحاد السوفيتي؛ لذا قللت الحكومة البلشفية من أهمية قضية الدولة، لأنها اعتقدت أنه من خلال ترسيم الحدود بين سكان آسيا الوسطى يمكنها إرضاء المجموعات العرقية، بالإضافة إلى إعطاء الشرعية للحكم الشيوعي على الجمهوريات الوطنية. لكن بقيت القضية الحقيقية هي: ما الحدود الإقليمية؟ ومن له حق المواطنة في تلك الدول؟ وأصبحت هذه هي القضية التي ركز عليها في فترة ما بعد الشيوعية، حيث كانت الدول تواجه فجأة انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم ينظر القادة السوفيت بجدية إلى سياسة ترسيم الحدود الإقليمية الوطنية، لتصبح مسألة الجنسية، التي ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بمسألة الدولة، بلا حل.

أهمية القومية في بلدان آسيا الوسطى

في البداية، هناك مفهومان للقومية لفهم السياق في آسيا الوسطى:

القومية العرقية، وهي تعني مجتمعًا متحدًا بتشابهه العرقي القومي الذي ينبع من الأصل المشترك لأعضائه،

والقومية المدنية، التي تقوم على المواطنة المشتركة، بغض النظر عن العرق، أو اللون، أو الدين، أو الجنس، أو اللغة.

وقد تبنت بلدان آسيا الوسطى  ما بعد الاتحاد السوفيتي أشكالًا اسمية من القومية كوسيلة لتطوير هوية وطنية أقوى. وتهدف هذه القومية أيضًا إلى توفير الشرعية للنخبة الحاكمة الحالية. فالقومية العرقية عند الأوزبك، على سبيل المثال، هي التي تحدد جغرافية أوزبكستان المعاصرة في سياقها الإقليمي، في حين قرر الطاجيك أن القومية العرقية تحدد الحقبة الجغرافية لطاجيكستان في سياقها التاريخي، ولكنها لا تتوافق مع الأراضي الحالية في طاجيكستان المعاصرة.

وتقوم القومية العرقية على الإيمان بالثقافة المشتركة، والأصول العرقية. وتعتمد العرقية على الأساطير، والذكريات، والقيم، والرموز، التي تميز التكوينات التاريخية للسكان. كما تؤكد القومية المدنية صورة المنزل، والتعاقدية الزوجية، في حين يؤكد النوع العرقي للقومية صورة الأسرة البيولوجية[1]؛ لذا تُعد القومية المدنية أضعف في جوهرها من القومية العرقية، وعندما تتنافس القومية العرقية على ولاء الفرد، تثبت القومية العرقية أنها الأقوى؛ لأن القومية العرقية هي نوع معين من روابط القرابة، بناءً على “الإحساس بقرابة الدم”، في حين أن القومية المدنية هي الولاء للدولة، وعادة ما تروّج النخب الحاكمة للقومية العرقية، خصوصًا عندما يكون هدفهم الرئيس هو التلاعب بالآخرين من أجل الاحتفاظ بالسلطة السياسية.

ولذلك، فإن القومية الحديثة تنحدر بطريقة خطية من المجتمع العرقي الذي له أصله المميز، وتُسيّس المطالبة بالأصل المشترك من جانب النخبة السياسية والمثقفين الذين يسعون إلى حشد الدعم. وفي الواقع، أصبح التطور السياسي في آسيا الوسطى منذ استقلالها خاضعًا لمجموعات حاولت تعزيز مصالحها الخاصة. ووفقًا لوجهة نظر “أحقية النخبة”، فإن القومية هي عقيدة الحكم باسم الشعب، ولكن ليس بالضرورة بواسطة الشعب، وهي تمنح النخبة الفرصة لتكون شعبية دون أن تكون ديمقراطية كاملة. وفي الأيام الأولى للاستقلال ألزم زعماء آسيا الوسطى أنفسهم بالديمقراطية وسيادة القانون. ومع ذلك، فور حصولهم على السلطة السياسية، تبنوا الحكم الاستبدادي بدلًا من ذلك، من خلال تصوير أنفسهم على أنهم بناة الأمة والدولة، وإعادة اختراع الماضي؛ من أجل إضفاء الشرعية على حكمهم.

شرعت قيادة الدول المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى في إحياء، أو إعادة كتابة، أو حتى إعادة إنشاء تاريخ “وطني” من الأساطير والرموز، فضلًا عن الترويج للانتماء العرقي لثقافة المجموعة ولغتها. وتعتمد القومية الحديثة على ماضيها العرقي البدائي؛ لأنها تؤمن بأن الهوية الوطنية تعتمد- اعتمادًا طبيعيًّا- على سمات عميقة الجذور، مثل العرق، واللغة، والدين، والظواهر الثقافية الأخرى. ومع ذلك، فإن حالة آسيا الوسطى تكشف عن ضعف في النهج البدائي؛ لأن بناء الأمة بدأ من قبل الزعماء الشيوعيين السابقين. وهذا الشكل من القومية يدور حصريًّا حول المجموعة العرقية الاسمية، ويستبعد المجموعات العرقية الأخرى من تأكيد انتمائها إلى جنسية معينة، علمًا بأن هذا يؤدي إلى اضطرابات مستمرة، حيث تحاول مجموعات الأقليات العرقية الحصول على مزيد من الاستقلال، أو في بعض الأحيان الاستقلال الكامل عن الدولة.

ولذلك، فإن كل حكومة، من أجل اكتساب الشرعية، والحفاظ على وحدة بلدها وشعبها، تستخدم الرموز التاريخية والتأريخ لتشجيع الوطنية، وشرح السياسات وتبريرها، وضمان امتثال الشعب وتعاونه في أوقات الأزمات. ويعد استخدام الرموز والأساطير، وإحياء الثقافة من خلال المراجع التاريخية أمرًا بالغ الأهمية، وبخاصةٍ للدول الناشئة؛ فالاحتفال بتاريخ السلالة السامانية في طاجيكستان، أو الاحتفال بذكرى تيمور لينك في أوزبكستان، هما مثالان جيدان على خلق الرموز من جانب هذه الدول المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى. وقد قال الرئيس الأوزبكي الراحل إسلام كريموف (1938-2016): “إن الذاكرة التاريخية، واستعادة التاريخ الموضوعي والصادق للأمة وأراضيها، تُعطيان مكانًا بالغ الأهمية في إحياء ونمو الوعي الذاتي الوطني والوعي القومي”[2]، مع أن تفسير السجلات التاريخية فيما يتعلق بـ “الحقيقة الموضوعية والتاريخية” قد تم تحت رقابة وإشراف صارمين من الدولة، وخاصة رؤساء آسيا الوسطى.

ديناميكيات تنامي القومية في آسيا الوسطى ما بعد الشيوعية

هناك عدة أسباب لتنامي القومية العرقية في آسيا الوسطى؛ أولًا: كانت نشأة ما يسمى بدول آسيا الوسطى نتيجة لحدث تاريخي غريب على يد البلاشفة، دون أي أساس تاريخي، أو اجتماعي، أو عرقي، أو سياسي ذي معنى، وكانت هذه الدول القومية الوليدة تفتقر إلى العناصر الأساسية لفن الحكم قبل الحكم السوفيتي. ثانيًا: كان الحكم السوفيتي في آسيا الوسطى مختلفًا عن ممارسات القوى الاستعمارية الأوروبية الغربية في الأراضي المستعمرة. ثالثًا: كانت دول آسيا الوسطى دولًا ضمن تحالف أكبر من الدول، وقد تم تشكيل وتكوين مفهوم هويتها من خلال هذا النوع من العلاقة، أي عضو في الدولة السوفيتية الأكبر؛ ومن ثم، بوصفها مجموعة من الدول الزائفة الجيوسياسية التابعة، حُرمت من فرصة تراكم الخبرات المرتبطة بالسياق الثقافي، والتجارب التاريخية لكيان سياسي سيادي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التعرض المستمر للنخب الاجتماعية والسياسية للثقافة السوفيتية أو الروسية، خاصة في المراكز الحضرية، أدى إلى عزلهم عن تراثهم الأدبي واللغوي، حيث فضلوا الثقافة السوفيتية “الحديثة” على تقاليدهم الخاصة؛ لذلك ترددوا في الشروع في الانفصال عن الاتحاد، بل على العكس من ذلك، فقد حاولوا عبثًا التشبث بالدولة السوفيتية المنكوبة بالفعل حتى اللحظة الأخيرة. وعندما فشلت هذه المحاولة، وأُسقِطَ الاتحاد، أعادت النخب تسمية الأحزاب الشيوعية، واستمرت كأحزاب قومية في دولها القومية. وهكذا، تصبح تلك النخب الحاكمة القديمة سادة الدول الجديدة، ويدّعون على الفور أنهم مؤسِّسو أو آباء الدولة المستقلة الجديدة[3].

وبالمقارنة مع تجارب بناء الأمة لدول أخرى، مثل مصر وسوريا وتركيا وأذربيجان، أو حتى روسيا، مع أن بعض هذه الدول كانت لديها تجربة استعمارية أو سوفيتية، فإن هذه الدول كان لها تاريخ طويل من الدولة، يسبق تاريخها؛ ومن ثم فإن المواجهة الاستعمارية تقدم سيناريو مختلفًا عن السيناريوهات الموجودة في آسيا الوسطى. وكانت هذه العوامل مؤثرة في التوجه المتردد نحو الاستقلال من جانب العلمانيين والنخبة على حد سواء؛ لأنه لم يكن لديهم مرجع تاريخي يستفيدون منه. وفي وقت تفكك الاتحاد السوفيتي، كان الحكام من الأجيال التي نشأت في ظل الحكم السوفيتي، وكانوا يعانون ضعفًا خطيرًا في الرؤية والثقة بشأن المستقبل بعد سقوط السوفيت. وليس من المستغرب، بعد فترة طويلة من زوال الاتحاد السوفيتي، أن يستمر الناس في النضال من أجل التصالح مع هذا الواقع، والتعايش مع حقيقة مفادها أن الدولة السوفيتية لم تعد موجودة. كل هذه العوامل كانت حاسمة في تشكيل الشكل المميز لقومية آسيا الوسطى، وهي نتيجة طبيعية لتجارب تاريخية مختلفة، ولهذا السبب طورت النخب في بلدان آسيا الوسطى بعد الاستقلال شكلًا جديدًا من القومية، سمِّي هنا باسم القومية العرقية، التي لم تكن مصممة لتحقيق الاستقلال عن قوة استعمارية، أو لإعادة أمة تاريخية، ولكن تم الترويج لها، وتهدف إلى معالجة قضايا الدولة التي واجهتها هذه البلدان عند الاستقلال.

وقد كان الافتقار إلى الشرعية إحدى القضايا التي واجهتها الدول المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى، وكان يُنظر إليها على أنها تهديد وجودي لتلك البلدان، حيث لم تعد الدولة والأيديولوجيا التي زودتها بالشرعية موجودة. والحقيقة التي قوضت شرعيتها هي أن هؤلاء القادة لم يرغبوا في الاستقلال؛ ومن ثم لم يُدفَعوا من أجل الاستقلال عن طريق التعبئة الجماهيرية، كما أنهم لم يجسدوا أي شعور قوي بالهوية الوطنية.

من الممكن اعتبار الأنظمة غير الديمقراطية شرعية إذا حقققت ثلاثة أشكال مشروعة من الهيمنة- أي أشكال الهيمنة التي يعتبرها الأتباع أو المرؤوسون سلطة شرعية: الكاريزمية، والتقليدية، والقانونية أو العقلانية. ومع ذلك، فإن هذه الأشكال الثلاثة لا تشكل النطاق الكامل للهيمنة، بل تظهر كيف تُمارس السلطة على الآخرين. وقد حاول رؤساء آسيا الوسطى إضفاء الشرعية على حكمهم من خلال استخدام كل هذه الوسائل، أو بعضها، بدرجات متفاوتة، وفي أوقات مختلفة. لقد كانت الكاريزما إحدى الوسائل التي حاول رؤساء آسيا الوسطى تصوير أنفسهم من خلالها. ومع ذلك، فإن الشرعية تُكتسب من قائد آسر، أو ملهم بشكل خاص، لكن السلطة الكاريزمية هي الشكل الأكثر عدم استقرارًا للشرعية، حيث تموت أفكار هؤلاء القادة ودعمهم عندما يموتون، في حين أن السلطة القانونية العقلانية متجذرة في الاعتقاد بشرعية القواعد، وبحق أولئك الذين يشغلون مناصب بموجب تلك القواعد في إصدار الأوامر. وقد حاول رؤساء آسيا الوسطى الإشارة إلى القواعد من أجل تبرير تصرفاتهم، حتى لو كانت تلك الإجراءات غير قانونية. وترتكز السلطة التقليدية على اعتقاد راسخ بقدسية التقاليد السحيقة؛ لذا كان على جميع زعماء آسيا الوسطى أن يكونوا بناة أمة، وكذلك بناة دولة، وأن يعيدوا اختراع الماضي، إلى جانب ربط أسمائهم بأبطال تاريخيين ووطنيين لإضفاء الشرعية.

القومية والدولة في آسيا الوسطى

يعد بناء الدولة مهمة عظيمة، وقد اختارت الجمهوريات المستقلة في آسيا الوسطى أن تبنيها على الأمة الاسمية واللغة الاسمية، متجاهلة (في الممارسة العملية، على الأقل) العرقيات الأخرى. استثمرت جميع الدول مواردها بدرجات متفاوتة نحو تشكيل أنماط جديدة لاستخدام اللغة، وإعادة كتابة التاريخ، وتغيير التوازنات الديموغرافية، وتعزيز الكوادر العرقية. وكان يُنظر إلى التراث الثقافي والتوحيد الثقافي على أنهما مكونان أساسيان للدولة، حيث احتلت اللغة موقعًا حاسمًا في إنشاء أمة قائمة على اللغة، وأصبح يُنظر إلى اللغة على أنها رمز مهم للهوية الوطنية، المرتبطة بجعل اللغة والدولة متطابقتين مكانيًّا: اختيار اللغة هو اختيار الهوية.

ويرى القوميون أن التبعية اللغوية- فترات طويلة- تؤثر في الهوية اللغوية الفردية والجماعية؛ من خلال إضعاف سيطرة الناس على لغتهم الأم، وتقليل حساسيتهم تجاه الاستخدام الصحيح لها. وقد أدى هذا إلى انسحاب مخطط له من اللغة الروسية، وهي اللغة التي روج لها السوفيت ليس فقط باعتبارها لغة مشتركة لتسهيل التواصل؛ ولكن أيضًا باعتبارها “تكاملًا ثقافيًّا” أساسيًّا. وفي كثير من النواحي، تتكرر الأنماط السوفيتية الآن في كل من الجمهوريات المستقلة التي تحاول تحويل لغتها العرقية إلى لغة وطنية.

قرر كثير من القادة في الدول المستقلة حديثًا إطلاق عملية تؤدي إلى بناء الأمة، وتشكيل الدولة، وهذا يعني إنشاء مؤسسات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وتطوير هويات جديدة، ووضع بدائل للغة الروسية وأيديولوجيا تعوض الشيوعية، وهذه بالضرورة عملية طويلة الأمد، وتتطلب إستراتيجيات مختلفة، ومنها إصلاح اللغة، الذي كان يُنظر إليه في هذه الحالة على أنه يؤدي دورًا سياسيًّا في تأمين تكوين الدولة وبناء الأمة. ويرتبط هذا- بشكل خاص- بآسيا الوسطى، حيث طُبِّقَ الفهم المؤسسي “للأمة” على “مجتمع اللغة”. بعبارة أخرى، تولى القادة السياسيون السلطة عبر ما أسموه “إدارة اللغة”، أي تغيير السياسات والممارسات اللغوية[4].

بشكل عام، القومية تخلق الأمم، لكن الدولة في حال بلدان آسيا الوسطى هي التي تروج للقومية. وكانت عمليات تشكيل الدولة الوحدوية القابلة للحياة وبناء الأمة متزامنة، وفي كل الحالات تقريبًا، كانت على الطراز السوفيتي. ولقد كانت أنظمة الحُكم تعتمد- في كثير من الأحيان- على شبكات تستخدم الأبوية وعبادة الفرد عاملًا حاسمًا للاستقرار، كما ظلت السياسة العشائرية عنصرًا اجتماعيًّا مهمًّا في تلك المنطقة، وإحدى السمات المُميزة لبلدانها.

وتشير “العشائرية” في دول آسيا الوسطى إلى الشبكات غير الرسمية داخل المجالين الاقتصادي والسياسي. ويعكس هذا الاستخدام الافتراض بأن أعضاءها يتصرفون بعضهم تجاه بعض بطريقة قائمة على التضامن بين الأقارب، حيث أصبح مبدأ العشائر والهويات قويًّا جدًّا إلى درجة أنه نتيجة لهذا أصبحت سلطة الزعيم مقيدة. فعضوية العشيرة هي الهوية الأكثر أهمية من الناحية السياسية في آسيا الوسطى، فعندما تملك عشيرة قاعدة دعم، يمكنها إحداث تعبئة زبائنية للدفاع عن نفسها ضد التحدي من الأعلى، سواء من الحاكم، أو الدولة نفسها، إنهم يستخدمون مواردهم المالية والاجتماعية لتجنيد المؤيدين للاحتجاج، مع التنسيق مع النخب المتعاطفة أو الانتهازية التي يمكنها إثارة التعبئة في مناطق أخرى؛ ولهذا ركزت النخب القيادية في جميع الدول المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى على مسائل مثل الحقوق السيادية للجنسية العرقية في تقرير مصيرها السياسي، بدلًا من الاندماج الفوري مع الأقليات العرقية الأخرى. وفي كل حالة، عرّفت النخب الحاكمة دولتها الجديدة على أساس عرقي، مما يعني ضمنًا وجود مكانة مهيمنة للأغلبية. أما النخب السياسية التي نجت من تفكك الاتحاد السوفيتي، فإن الطريقة الرئيسة لديها للبقاء في السلطة كانت تتلخص في النأي بنفسها عن النظام السابق. وأدركت النخب جيدًا تحفظات كثير من المجموعات العرقية وغيرها تجاه الاتحاد السوفيتي، وأيضًا تجاه مواطنيهم من ذوي العرق الروسي.

ومع أن الحكم الروسي كان عبارة عن حقيبة متفاوتة في آثارها السلبية والإيجابية، فإن تفكك الاتحاد السوفيتي- بشكل عام- كان مرتبطًا في كثير من الأحيان بعدم الثقة بالآخر، الذي تم التعبير عنه ليس فقط في تحول معين بعيدًا عن الاعتماد على روسيا في الاتصالات، والنقل، والتعاون العسكري، ولكن أيضًا في تغيير أساسيات الثقافة واللغة. وفي هذا السياق، كان التاريخ (الحقيقي أو المتخيل) للأغلبية العرقية، الذي يؤثر في الخطاب العام والتعليم المدرسي، حاسمًا في تحديد هوية المجموعة، وإضفاء الشرعية عليها، في حين جاءت الوظيفة الرمزية للغة- في كثير من الأحيان- إلى صدارة النقاش العام في دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وخاصة فيما يتعلق بقضية إعادة تحديد الهوية الوطنية من خلال اللغة (على الأقل من خلال الأرض والتاريخ الذي يبحث عن الجذور، والذي يرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالقومية في طور التشكل). ولهذا السبب، أصبح خطاب القومية العرقية مفهومًا وظيفيًّا لقيادة ما بعد الاستقلال في بلدان آسيا الوسطى، حيث إن القومية لا توفر الشرعية للساسة فحسب؛ ولكنها تضمن الحفاظ على الأمة والدولة موحدة.

خاتمة

اكتسبت القومية بوصفها أيديولوجيا أهمية عندما أطلق غورباتشوف إصلاحاته في الاتحاد السوفيتي، حيث تبين أن القومية تشكل تحديًّا لسياساته، وكان ذلك أيضًا هو ما أظهر عدم الفهم الصحيح لمفهوم القومية من جانب السلطات السوفيتية، وهو ما كان يتناقض أيضًا مع الأيديولوجيا الماركسية اللينينية. وأدى ظهور القومية العرقية في نهاية المطاف إلى تحدي شرعية الدولة السوفيتية نفسها، وأدى إلى ظهور قضية الدولة؛ ولهذا السبب فإن زعماء ما بعد الاتحاد السوفيتي في بلدان آسيا الوسطى- مثلهم كثل كثيرين غيرهم في الدول الشيوعية السابقة- استشعروا أهمية القومية كرد فعل على المخاوف بشأن الاستقرار وأمن الدولة.

وقد استُخدِمَت القومية العرقية أداةً للحفاظ على حدود البلدان الحديثة النشأة، واستغل القادة القوميون النمط العشائري لتقديم أنفسهم باعتبارهم رمزًا لوحدة الأمة، وأبطالًا وطنيين ارتبطوا بشخصيات تاريخية ليس فقط لاكتساب الشرعية؛ ولكن أيضًا لجعلهم الرجال الوحيدين الذين يفهمون ويتصرفون لصالح الوطن، وأن الإجراءات التي يتخذونها هي من أجل وحدة الأمة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع