مقالات المركز

سوريا في مفترق طرق بين الأمل في التغيير وتحديات الواقع


  • 29 ديسمبر 2024

شارك الموضوع

تشهد سوريا اليوم لحظة تاريخية غير مسبوقة؛ إذ يتنفس الشعب أولى نسائم الحرية بعد سنوات طويلة من القمع والمعاناة. الاحتفالات التي عمّت دمشق وحلب وحمص ومدنًا أخرى ليست مجرد مشاهد عابرة؛ بل تعكس تحولات جذرية في المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. ومع ذلك، فإن هذه اللحظة الفارقة تطرح أسئلة عميقة عن مستقبل سوريا، وتضع القيادة الانتقالية والشعب أمام تحديات كبيرة، لا يمكن تجاهلها.

الوضع في سوريا يختلف تمامًا عن التجارب الثورية الأخرى في المنطقة؛ فبينما كانت ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا تسير وفق أنماط معينة، جاءت الثورة السورية في سياق أكثر تعقيدًا. الأرض السورية ارتوت بدماء لا حصر لها، والمدن تحولت إلى أنقاض، والبنية التحتية دُمرت تدميرًا شبه كامل. أضف إلى ذلك أن الأبعاد الإقليمية والدولية للصراع جعلت سوريا ساحة لتصفية الحسابات بين قوى كبرى وصغرى؛ ما زاد تعقيد المشهد.

اليوم، ومع انتقال السلطة إلى قيادة جديدة، تظهر معضلة كبرى: كيف يمكن لسوريا أن تتعافى من جراحها العميقة، وتعيد بناء مؤسساتها على نحو يعكس تطلعات الشعب الذي عانى عقودًا من الطغيان والقمع؟

التحديات الداخلية والخارجية

على المستوى الداخلي، تواجه القيادة الانتقالية مسؤولية تاريخية في إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري. العدالة الانتقالية ستكون مفتاحًا لهذه المرحلة، حيث يتعين محاكمة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت خلال السنوات الماضية، ولكن دون السقوط في فخ الانتقام. في الوقت نفسه، يجب البدء في عملية إصلاح سياسي واقتصادي شامل يعيد إلى المواطن السوري كرامته، ويوفر له أساسيات الحياة الكريمة.

أما على الصعيد الخارجي، فإن التحديات لا تقل خطورة؛ فالاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، الذي استغل ضعف النظام السابق لتوسيع نفوذه، يمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة سوريا وسيادتها. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية، بما يضمن دعم جهود إعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات الاقتصادية التي أثرت تأثيرًا كارثيًّا في حياة السوريين.

الدور الروسي: شريك أم مراقب؟

على مدار السنوات الماضية، اضطلعت روسيا بدور محوري في الأزمة السورية. ومع انسحاب النظام السابق من المشهد، تثار تساؤلات عن مستقبل الوجود الروسي في سوريا. من الواضح أن موسكو سعت إلى تجنب انهيار الدولة السورية، ونجحت -إلى حد كبير- في منع اندلاع حرب أهلية شاملة. ومع ذلك، فإن استمرار الدور الروسي في سوريا سيعتمد على طبيعة العلاقة مع القيادة الانتقالية الجديدة، ومدى توافقها مع المصالح الروسية.

روسيا أمام خيارين: إما أن تستمر بوصفها شريكًا فاعلًا في إعادة بناء سوريا من خلال دعم جهود الاستقرار السياسي والاقتصادي، وإما أن تتحول إلى مراقب خارجي يكتفي بمتابعة الأحداث دون تدخل مباشر. الخيار الأول يتطلب رؤية إستراتيجية طويلة الأمد، في حين قد يؤدي الخيار الثاني إلى تراجع النفوذ الروسي في المنطقة.

آفاق المستقبل

رغم كل التحديات، هناك فرصة حقيقية لسوريا كي تنهض من جديد. المطلوب هو تحقيق توازن دقيق بين المصالحة الوطنية والعدالة، وإعادة الإعمار والانفتاح على العالم. الدور الإقليمي والدولي سيكون حاسمًا في هذا السياق، سواء من خلال رفع العقوبات، أو تقديم الدعم المادي والمعنوي لإعادة بناء الدولة السورية.

في النهاية، مستقبل سوريا يعتمد على قدرتها على تحويل هذه اللحظة التاريخية إلى نقطة انطلاق نحو بناء دولة حديثة قائمة على العدالة والمساواة. الشعب السوري أثبت أنه قادر على الصمود أمام أصعب الظروف، ويبقى السؤال: هل ستنجح القيادة الانتقالية في استثمار هذا الصمود لبناء مستقبل أفضل؟

نجاح القيادة الانتقالية في سوريا يعتمد اعتمادًا رئيسًا على مدى قدرتها على الاستفادة من دروس التاريخ، وتطبيق مبادئ التحول السياسي والاجتماعي كما تُدرس في العلوم السياسية. التحولات الجذرية في الدول التي خرجت من أنظمة قمعية غالبًا ما تكون محفوفة بالتحديات، لكنها ليست مستحيلة. يمكن الاستفادة من نماذج تاريخية ودراسات سياسية لفهم ما ينتظر سوريا، وكيف يمكن تفادي الأخطاء.

دروس من روسيا: 1917 و1991

في عام 1917، شهدت روسيا ثورة أطاحت بالنظام القيصري، وفتحت الباب لتحولات سياسية واجتماعية عميقة، لكن الانتقال لم يكن سهلًا؛ فالصراع الداخلي بين الفصائل الثورية وغياب خطة واضحة لإدارة البلاد أدى إلى اندلاع حرب أهلية مدمرة استمرت سنوات. هذه التجربة تبرز أهمية التوافق بين الأطراف المختلفة في مرحلة ما بعد التغيير، وإذا لم تتمكن القيادة السورية من خلق توافق داخلي، فقد تواجه البلاد مصيرًا مشابهًا.

أما في عام 1991، فقد شهدت روسيا انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو تحول سياسي آخر ترك أثره العميق في الشعب والنظام. في تلك المرحلة، كان غياب التوازن بين الإصلاحات السياسية والاقتصادية سببًا رئيسًا في الفوضى الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد خلال التسعينيات، وهذا يشير إلى أهمية البدء بإصلاحات تدريجية ومدروسة، تراعي التحديات الاقتصادية والاجتماعية للسوريين اليوم.

أمثلة من العلوم السياسية

يرى العالم السياسي صموئيل هنتنغتون، في كتابه “النظام السياسي في مجتمعات متغيرة”، أن التحولات السياسية الناجحة تعتمد على قدرة القيادة على خلق مؤسسات قوية تحافظ على النظام والاستقرار خلال مرحلة التغيير، وهذا يعني لسوريا ضرورة بناء مؤسسات سياسية واقتصادية قوية وقادرة على الصمود في وجه الأزمات.

من جهة أخرى، يُبرز فرانسيس فوكوياما، في كتابه “أصول النظام السياسي”، أهمية وجود عقد اجتماعي جديد يربط بين القيادة والشعب. العقد الاجتماعي هو ما يضمن الثقة المتبادلة، وهو ما تحتاج إليه القيادة السورية الجديدة لتعويض سنوات القمع والاستبداد.

مقارنات تاريخية أخرى

يمكن النظر أيضًا إلى تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث نجحت القيادة الألمانية بالتعاون مع المجتمع الدولي في إعادة بناء البلاد من خلال خطة مارشال، التي قدمت مساعدات مالية ضخمة، لكنها اشترطت في المقابل إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة. سوريا اليوم بحاجة إلى “خطة مارشال” خاصة بها، تتضمن رفع العقوبات، وتقديم المساعدات الدولية، والبدء بإعادة بناء البنية التحتية.

التحديات التي يجب معالجتها

التوفيق بين المصالح المتضاربة

 كما في الثورة البلشفية عام 1917، فإن الانقسامات الداخلية بين القوى السياسية والمجتمعية يمكن أن تؤدي إلى صراع طويل، والقيادة السورية بحاجة إلى آليات حوار شاملة تمنع انفجار الخلافات.

التعامل مع الأزمات الاقتصادية

 كما حدث في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن الاقتصاد المنهار يمكن أن يكون حجر عثرة أمام أي تحول سياسي، وهنا يجب أن تركز القيادة السورية على توفير الاحتياجات الأساسية للسكان، واستقطاب الاستثمارات الخارجية.

التعامل مع التدخلات الخارجية

 سوريا، مثل روسيا في مراحل تاريخية كثيرة، تُعد ساحة لصراعات القوى العالمية. نجاح القيادة الانتقالية يعتمد على قدرتها على حماية السيادة الوطنية، وتحديد علاقاتها الإقليمية والدولية بما يخدم مصلحة الشعب.

الاستنتاجات

من التجارب ، يمكن استخلاص أن نجاح القيادة الانتقالية في سوريا مرهون بتوازن دقيق بين العدالة والمصالحة، بين الإصلاحات الداخلية والانفتاح على الدعم الخارجي، وبين توحيد القوى الوطنية ومواجهة التدخلات الإقليمية والدولية.
إن بناء مؤسسات قوية ومستقلة، واستعادة ثقة الشعب، والتعامل بواقعية مع التحديات الاقتصادية، هي الأسس التي ستحدد مستقبل سوريا، وتاريخ التحولات السياسية يُظهر أن النجاح ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إلى قيادة ذات رؤية، وشعب واعٍ ومستعد للتضحية والعمل من أجل المستقبل.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع