رغم سقوط نظام الأسد، فإن سوريا لا تزال تشهد حالة من عدم الاستقرار؛ حيث يتجاذبها الصراع الداخلي من جهة، والتدخلات الإقليمية والدولية من جهة أخرى. وقد تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة للمصالح الخارجية، التي تتنازع السيطرة على أراضيها، وتوزيع النفوذ فيها. ورغم الجهود الدولية لإعادة الإعمار وإرساء الاستقرار، يبقى المستقبل السوري غامضًا في ظل الواقع السياسي المعقد.
بعد سنوات من الحرب الأهلية والصراع المستمر، لم يتمكن النظام السوري من إعادة بناء مؤسسات الدولة على نحو فعّال. ورغم استعادة السيطرة على معظم الأراضي، فإن الوضع الداخلي لا يزال يعاني الفساد المستشري، حيث فشل النظام في تحقيق أي إصلاحات جوهرية تلبي تطلعات الشعب السوري، وهذا أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية؛ مما دفع القوى الأجنبية إلى تكثيف تدخلاتها.
تدخلت تركيا تدخلًا حاسمًا في النزاع السوري، من خلال دعم الفصائل المعارضة، وإقامة مناطق عازلة على الحدود السورية، حيث كان لها دور كبير في إسقاط النظام. ومع أن تركيا تسعى إلى منع إقامة دولة كردية على حدودها، فإن مصالحها الاقتصادية، خاصةً في مجالات النفط والغاز، تؤدي دورًا كبيرًا في إستراتيجيتها السورية.
أما إسرائيل، فتواصل ضرباتها العسكرية في سوريا تحت ذريعة مواجهة النفوذ العسكري لبعض الجماعات في المنطقة. ومع أن إسرائيل تركز على ضمان أمنها القومي، فإن تدخلاتها العسكرية المستمرة تسهم في استمرار حالة الفوضى، حيث تتحقق أهدافها الإستراتيجية بعيدًا عن أي تدخل سياسي مباشر في الحرب. وقد جاء تصريح وزير المالية الإسرائيلي مؤخرًا بتفكيك سوريا ليعكس الموقف الإسرائيلي الثابت بشأن منع أي تمدد في جنوب سوريا، وهو ما تجسد في الضربات الجوية التي استهدفت مناطق بالقرب من القصر الجمهوري في دمشق. في هذا السياق، صرح مسؤولون إسرائيليون بأنهم على استعداد للدفاع عن الطائفة الدرزية في سوريا في حالة تعرضها لتهديدات، وهو ما يضيف بعدًا جديدًا إلى إستراتيجية إسرائيل في المنطقة، إذ تشير هذه التحذيرات إلى رغبة إسرائيل في الحفاظ على نفوذها، وحماية مصالحها الأمنية في سوريا.
وفي السياق نفسه، ترى إسرائيل أن الفصائل المسلحة السورية التي أسقطت النظام هي مجموعات إرهابية، وهو موقف يتناقض مع الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة، وأوروبا، وتركيا لهذه الفصائل، التي تُصنف على أنها “ثوار”، وتحظى باعتراف دولي بوصفها سلطة شرعية في بعض المناطق. هذه التناقضات تعكس رؤية إسرائيل للأزمة السورية من زاوية أمنية بحتة، حيث تسعى إلى تحقيق مصالحها الإقليمية على حساب الأبعاد السياسية التي يشهدها المشهد الدولي.
منذ بداية الصراع السوري، دعمت الولايات المتحدة المعارضة، مع التركيز على السيطرة على المناطق الغنية بالنفط والغاز، ودعم حلفائها الأكراد. كما فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على سوريا، وسعت -بالتوازي- إلى تشكيل تحالفات إقليمية تهدف إلى إنهاء نظام الأسد. ومع وصول ترمب إلى البيت الأبيض، انشغلت الولايات المتحدة بملفات أخرى، مثل الصين والاتحاد الأوروبي، لكن مصالحها الإستراتيجية في سوريا بقيت واضحة، ولم تتحول عن تعزيز موقفها في المنطقة.
روسيا، الحليف الرئيس للنظام السوري، أدّت دورًا محوريًّا في دعم الأسد وإعادة تثبيت نفوذه. تمتلك موسكو قاعدة بحرية في طرطوس، وأخرى جوية في حميميم؛ مما يمنحها حضورًا إستراتيجيًّا في البحر المتوسط، لكن الوضع المتغير في سوريا دفع روسيا إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع جميع الأطراف، بما في ذلك تركيا وأوروبا؛ للحفاظ على مصالحها العسكرية والاقتصادية. ومع تزايد المؤشرات على قرب سقوط الأسد، بدأت روسيا بتقييم سياستها على نحو أكثر واقعية، حيث فهمت أن بقاء الأسد في السلطة أصبح أمرًا غير مرجح. في حالة سقوط النظام، ستسعى روسيا إلى ضمان مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، خاصةً فيما يتعلق بالقواعد العسكرية، والمصالح الاقتصادية، وقد تفتح بابًا للتفاوض مع الحكومة السورية المستقبلية، أو مع القوى السياسية الأخرى؛ لضمان الحفاظ على نفوذها في سوريا، بعيدًا عن الخيارات العسكرية.
الدول الأوروبية التي تأثرت تأثرًا مباشرًا من تداعيات الأزمة السورية، وخاصة من موجات الهجرة والإرهاب، تسعى الآن إلى الاضطلاع بدور فاعل في استقرار المنطقة. أوروبا لا تسعى فقط إلى تحسين أوضاع اللاجئين السوريين؛ بل إلى ضمان أمنها القومي من خلال معالجة الفوضى المستمرة على الحدود الجنوبية. وبالرغم من تصريحات كثير من الدول الأوروبية بشأن استعادة العلاقات مع دمشق، فإن هذه التحركات تبقى مرتبطة بحسابات مصالح أمنية واقتصادية أكثر منها رغبة في إعادة بناء سوريا. هذه الدول تتبنى نهجًا مرنًا في التعامل مع الوضع السوري، حيث تسعى إلى تحقيق الاستقرار دون التورط في تبني مواقف سياسية صارمة.
من بين الأزمات الداخلية التي تهدد استقرار سوريا بعد سقوط النظام، تبرز التوترات الطائفية التي تتصاعد بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري. في هذا السياق، يواجه العلويون والدروز ضغوطًا كبيرة في ظل النزاع الدائر، حيث يتعرضون لهجمات من فصائل مسلحة تتهمهم بالولاء للنظام السوري. وفي الساحل السوري، حيث يشكل العلويون نسبة كبيرة من السكان، وقع كثير من الحوادث التي تشير إلى تصاعد أعمال العنف ضدهم من جانب فصائل مسلحة معارضة؛ مما يهدد التعايش بين مكونات المجتمع السوري.
وفي حمص، لاحقت بعض الفصائل المسلحة مؤيدي النظام السابق وهجّروهم من مناطقهم تحت وطأة القتال والانتقام. ومع تزايد هذا النوع من الصراعات، يزداد الوضع تعقيدًا داخل المجتمع السوري الذي يواجه ضغوطًا داخلية وخارجية تحاول إعادة رسم هويته الاجتماعية والسياسية.
أما في السويداء، فقد شهدت المنطقة تهديدات مستمرة ضد الدروز من جانب جماعات مسلحة، وهو ما يثير قلقًا كبيرًا بشأن مستقبل هذه الطائفة في سوريا. وقد أدت هذه التهديدات إلى دعوات من بعض الفصائل إلى التدخل الخارجي، بما في ذلك إسرائيل التي تُصور نفسها حاميةً للحقوق الطائفية في المنطقة. على سبيل المثال، في جرمانا وصيدنايا، حدثت هجمات ضد الدروز تحت ذريعة جمع الأسلحة، في وقت حساس لسوريا، حيث كان يُنظر إلى هذه التصرفات على أنها محاولة لإشعال مزيد من الفوضى.
تساؤلات كثيرة تُطرح عن دور إسرائيل في هذه الفوضى؛ إذ يعتقد البعض أنها قد تكون وراء بعض الأحداث التي تؤدي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في سوريا، بهدف تقسيمها ومنع استقرارها، بما يتوافق مع مصالحها الإستراتيجية في المنطقة. كما أن إسرائيل قد تجد في تقلب الأوضاع السورية فرصة لتعزيز نفوذها، خاصة فيما يتعلق بالحدود، ومصادر المياه.
إسرائيل، التي ترى في سوريا تهديدًا أمنيًّا محتملًا بسبب الوجود العسكري لبعض الجماعات في المنطقة، لم تتوقف عن تقديم تهديدات علنية، وتوجيه ضربات عسكرية إلى أهداف سورية. هذه التدخلات تمثل خطرًا حقيقيًّا على استقرار البلاد، وتزيد التوترات الداخلية؛ إذ يستفيد كل طرف من هذه الفوضى لتحقيق أهدافه، في حين يعاني الشعب السوري آثارها المدمرة.
مع تزايد التوترات الطائفية والضغوط الخارجية، تبدو سوريا في مسار غير واضح المعالم، حيث تتداخل الأزمات الداخلية مع التدخلات الخارجية على نحو معقد. ومع أن النظام السوري حاول الحفاظ على وحدة البلاد، فإن التحديات التي تواجهها الطوائف السورية، والصراعات بين القوى الإقليمية والدولية، قد تهدد بتفتيت البلد إلى مناطق نفوذ متنازعة.
وفي الوقت الذي وضعت فيه الدول الأوروبية معايير للتطبيع مع سوريا بعد سقوط النظام، شملت احترام حقوق الإنسان، وتعزيز الأمن والاستقرار، والتعاون مع المجتمع الدولي، ودعم عملية سياسية شاملة، وتحقيق العدالة الانتقالية، وضبط انتشار السلاح، وتوفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين، تبقى هذه المعايير مجرد مقاييس استرشادية لتوجيه العلاقات مع الدولة السورية نحو الاستقرار.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.