أبحاث ودراساتتاريخ

سقوط رهان أتاتورك وصعود الإسلام السياسي


  • 9 فبراير 2025

شارك الموضوع

أدى سقوط الدولة العثمانية، نتيجة للأسباب التي سبق ذكرها في المقال السابق، إلى قيام الجمهورية التركية الأولى عام 1923، التي أعقبها بعامٍ واحد إلغاء منصب الخلافة، وترحيل ما تبقى من آل عثمان إلى خارج تركيا، وتجريدهم من جنسيتهم، وتحول تركيا إلى دولة قومية علمانية بناء على دستور عام 1924، واتجاه أتاتورك إلى تحديث تركيا متأثرًا بأفكار الثورة الفرنسية، وإصلاحات بطرس الأكبر؛ أول أباطرة روسيا.

شملت عملية التغيير جميع مناحي الحياة دفعة واحدة بلا تدرج، وعلى نحو قسري عنيف، إذ أُلغيت المدارس الدينية، وحُظرت الملابس الدينية لكل رجال الدين أيًّا ما كانت ديانتهم ومذاهبهم، وتمت مساواة الرجل بالمرأة في القوانين، وحُظر لبس الحجاب، وأُلغيت الأبجدية العربية المستخدمة لكتابة اللغة التركية، وحلت محلها الأبجدية اللاتينية، حتى الأذان في الثلاثينيات من القرن الماضي أُلغي رفعه باللغة العربية، وأُمر بترجمته ورفعه باللغة التركية. كما حُظِر الحديث عن أي قومية أو أقلية في تركيا، أو التحدث بأي لغة خلافًا للتركية، وصيغ نص دستوري فريد من نوعه لتعريف هوية التركي على أنه المسلم الذي يسكن داخل الجمهورية التركية، والأقليات هم فقط غير المسلمين كما ورد في البند الـ(60) من الدستور.

كان أتاتورك يأمل من خلال هذه السياسات حل أزمة الجمهورية التركية الوليدة، فإذا نظرنا إلى الخريطة التركية سنجد أن كل جوارها مختلف عنها ثقافيًّا وعرقيًّا أو دينيًّا ولغويًّا، مع تقلص مساحتها لتصبح 783.562 كم² فقط، ورغم موقعها الإستراتيجي المهم ما بين آسيا وأوروبا، وإطلالتها عبر البحر المتوسط نحو إفريقيا، فإنها أصبحت دولة معزولة بلا أي عمق إستراتيجي تستطيع من خلاله التواصل وتأمين مصالحها. وللتعامل مع هذه الإشكالية، رأى أتاتورك الحل في التوجه باتجاه الغرب، والتنكر من الماضي العثماني، واعتباره ماضيًا بغيضًا لا يمثل تركيا وشعبها، وأن تركيا الحديثة دولة قومية للأتراك أصحاب الثقافة والحضارة الأكثر قدمًا من الإسلام بقرون طويلة، وفك ارتباطها بالإسلام وحضارة الشرق، وربطها بالحضارة الغربية.

مصدر الصورة aljazeera

مصدر الصورة aljazeera

من المهم هنا تأكيد أن النموذج الأتاتوركي لم يكن نموذجًا علمانيًّا؛ بل نموذجًا شموليًّا استبداديًّا متطرفًا استخدمت فيه الدولة كل ما تمتلكه من أدوات قمع وعنف وقوة، لتفرض على المجتمع قيمها رغمًا عنه، في حين أن العلمانية، بعيدًا عن الجدل والتفسيرات والتأويلات المتداولة بشلأنها، لا هي عقيدة، ولا أيديولوجية، بل منطق للدولة الحديثة تفكر عبره في حل مشكلات شعبها وبناء مستقبله وفق قوانين هذا العالم الذي تعيش بداخله، ولا تعني أنها معادية للدين أو ضده، أو لها الحق في التدخل بمعتقدات المجتمع ورؤيته للحياة؛ بل هي -كما سلف- منطق تفكير للكيان الاعتباري المسمى الدولة لا أكثر.

جمهورية الجيش

الجيش التركي كان القاعدة التي بُنيت عليها الجمهورية التركية الحديثة، وهو جيش وطني تحرري رفض أوامر السلطان العثماني الأخير بالتخلي عن أراضٍ تركية، وشن بقيادة أتاتورك حربًا شاملة ضد التحالف الغربي المعادي للشعب التركي، وتمكن من تأسيس هذه الجمهورية التي أصبح أتاتورك أول زعمائها، ومن ورائه الجيش المحافظ على نظامها الدستوري؛ ولذلك لا يمكن فصل الجيش عن الجمهورية الأولى، أو الحديث عن فصل الجيش عن السياسة، لكن الحالة التركية لديها سمات مختلفة؛ لأن الجيش هو من أقام الدولة، ولم يكن الجيش أحد روافد الدولة ونتاجًا لها مثل غالبية الحالات الأخرى. كذلك كان للجيش دور مهم في حفظ النظام، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمها عدم قبول الشعب التركي بغالبيته عملية التحول القسري نحو العلمانية بصيغتها الأتاتوركية المتطرفة، واحتواء تركيا على فسيفساء عرقية ومذهبية متنوعة، وعدم اعتراف الدستور بهذا التنوع، فضلًا عن منح الأقليات حقوقها، بالإضافة إلى وجود تركيا في موقع إستراتيجي مهم يتطلع إليه الشرق ممثلًا في القوة العظمى في ذلك الوقت الاتحاد السوفيتي، والغرب ممثلا في أوروبا وأمريكا، ووجود عدة أطراف سياسية منحازة إلى كلا المعسكرين بالداخل، وتريد الوصول إلى السلطة.

اعتقد أتاتورك أن الجمهورية التي قامت بين ليلة وضحاها غير قادرة على الصمود، وتشكيل هوية وطنية جامعة بعد أكثر من ستة قرون من الحكم الإمبراطوري الذي كان يمثله الحاكم المطلق في صورة السلطان، وهوية روحية مستمدة من الدين الإسلامي، وكان يظن أن الجيش هو العمود الفقري القادر على ضمان هذه الوحدة الوطنية، وصيانة القومية التركية الوليدة.

ظل الجيش التركي على هذه الحالة منذ اللحظة الأولى لتأسيس الجمهورية، وقام بأربعة انقلابات عسكرية ناجحة لـ”حماية” هذه القيم -وفق ادعائه- بجانب محاولة فاشلة عام 2016، انتهت بدحره وإنهاء دوره في العملية السياسية نتيجة لسلسلة طويلة من الأحداث التي أدت إلى ضعفه تدريجيًّا وصولًا إلى هذه المحاولة التي ولى معها زمن الانقلابات العسكرية، وترسخ مركزية القرار السياسي بموقع رئاسة الجمهورية بعد دستور 2017، الذي أسس للجمهورية التركية الثانية بقيادة رجب طيب أردوغان.

تركيا والنادي المسيحي

اعتمدت فكرة أتاتورك ورفاقه في الجمهورية التركية الأولى على فشل الحضارة الإسلامية في مجاراة الغرب، وعدم قدرة هذه الحضارة -من خلال قيادتها العثمانية- على التحديث، مع الحفاظ على الإمبراطورية واستقلالها. ولأن وضعية تركيا وموقعها لا يسمحان لها بالانعزال، وبحاجة إلى التوجه نحو الخارج، فقد وقع الاختيار الأتاتوركي على الغرب “المتقدم”، والسعي إلى تتبع خطاه.

لم يحقق هذا المسار النجاح المأمول منه، والمكاسب التي تحققت مقارنة بالخسائر كانت أكبر، وعانت تركيا بسببه صراعات داخلية سياسية وعرقية مع الكرد تحديدًا، وانقلابات عسكرية متتالية، ووضعًا اقتصاديًّا مترديًا، حيث فات على مؤسسي الجمهورية أن طبيعة فرنسا الكاثوليكية، وروسيا الأرثوذكسية تختلف جذريًّا عن الإسلام وطبيعة الحكم فيه، وتفاصيل أحكامه وتشريعاته، وعلاقة المسلم بالدين، ونظرته إلى الهوية والدولة والشكل الذي ينبغي أن تكون عليه، كما أن هذه التحديث القسري أدى إلى مسخ حضاري في تركيا، حيث كانت النخبة المنتمية إلى الغرب التركي “منطقة الرومالي” تحاول محاكاة الغرب في المظهر دون الجوهر، والشرق “الأناضولي” حافظ على عاداته وتقاليده الإسلامية التركية في حالة من العزلة عن الغرب والمركز، وعاشت البلد في ظل تعدد هوياتي مسخ الشخصية التركية، وجعلها غير متوازنة، وفاقدة لبوصلتها.

فعلت تركيا كل شيء لتندمج مع الغرب، ولم تتردد في إهالة التراب على تاريخها، والتنكر لهويتها لتصبح جزءًا من أوروبا، وراعت عدم إثارة مسألة الهوية الإسلامية حتى لا تثير حساسيته، وكانت تأمل أن تنال -بحكم موقعها وعدد سكانها- الدعم الغربي الكفيل بتحديثها ورفاهية شعبها.

من خلال التجارب، تأكد الأتراك -منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي- أن توجهم الغربي لن يحقق لهم ما كانوا يطمحون إليه، وأن كل ما يريده الغرب من تركيا أن تصبح عازلًا جغرافيًّا بينه وبين الاتحاد السوفيتي، وروسيا فيما بعد، والعالم العربي ومشكلاته، وتأمين حرية الملاحة والتجارة الدولية في منطقة المضايق، والقيام بدور وظيفي لخدمة المصالح الغربية من خلال استغلال موقعها الجغرافي المهم، ومقابل ذلك تنال بعض المنح والمعونات، وربما استثمارات اقتصادية جيدة، دون أن تطمح إلى أكثر من ذلك.

أدرك السياسيون الأتراك حقيقة رفض الغرب لهم عبر التجارب والممارسة، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وإصرار تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أصبح الرد الغربي بالرفض علنيًّا، ومن الأمور اللافتة التي أعتقد أنها أحد الدروس المهمة لشعوب المنطقة هو أن تركيا التي تنكرت لتاريخها، وتبرأت منه، ظل الغرب يراها دولة مسلمة، وأنها الامتداد الطبيعي للدولة العثمانية، وذات ثقافة شرقية، ووصل الأمر إلى الفاتيكان؛ الممثل الأعلى للكاثوليك في العالم، إذ صرح بابا الفاتيكان الأسبق بندكت السادس عشر، في برقية سرية لوزارة الخارجية الأمريكية، سربها موقع ويكيليكس الشهير، برفضه المطلق بشخصه والفاتيكان من خلفه لوجود دولة مسلمة في الاتحاد الأوروبي، وطلب من المسؤولين الأمريكيين نصيحة تركيا بالبحث عن تجمع إسلامي تنضم إليه. كذلك صرح رئيس الأساقفة جيوفاني لاجولو، سكرتير الكرسي الرسولي للعلاقات الخارجية، بتصريح قال فيه “إن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيضعها والاتحاد في مأزق سياسي ومجتمعي وثقافي صعب جدًّا، فهذا الاتحاد نادٍ مسيحي بالأساس”. ونظرًا إلى عاصفة الانتقادات التي وجهت إلى هذا التصريح؛ أنكره الكاردينال لاجولو فيما بعد، وادعى أن “الكرسي الرسولي لا علاقة له بهذا الأمر”.

لم يتوقف الرفض عند الفاتيكان؛ بل شمل رفضًا قاطعًا من النمسا، إذ من شروط انضمام عضو جديد إلى الاتحاد الأوروبي موافقة جميع الأعضاء الحاليين، وبررت النمسا رفضها بحصار العثمانيين فيينا مرتين عام 1529م، و1683م. ورغم مرور خمسة قرون على هذه الحروب، وتنكر تركيا من تاريخها وماضيها، فإن الغرب ظل يذكرها دومًا بهذا الماضي الذي أرادت نسيانه؛ ولذلك صرحت المستشارة الألمانية ميركل –بوضوح- في الانتخابات البرلمانية الألمانية عام 2017، برفضها انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك كان موقف فرنسا، سواء في عهد ساركوزي، أو ماكرون، الذي عرض على تركيا شراكة اقتصادية دون انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.

تركيا.. القبلة باتجاه الشرق قليلًا

يعتقد البعض أن توجه تركيا نحو الشرق، وتحديدًا العالم العربي والإسلامي وإفريقيا، بدأ مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في عام 2002، لكن هذا التصور غير صحيح، وقد سبق العلمانيون الأتراك حزب العدالة والتنمية بهذا التوجه، وذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، من خلال مراجعة علاقاتهم مع إسرائيل، والانفتاح على البلدان العربية، وقد ترسخ هذا التوجه مع تولي توركوت أوزال رئاسة مجلس الوزراء عام 1983، ورفعه شعار “لا نريد المنح والهبات؛ بل نريد التجارة والاستثمارات”، وإدراكه ألا أمل في اندماج تركيا في الغرب، وضرورة تحسين العلاقة مع الشرق، إلى جانب العلاقة التجارية مع الغرب لتتمكن تركيا من النهضة والتصالح مع ماضيها وحاضرها.

حاولت تركيا التصالح مع العالم العربي، وعندما أتيحت لها الفرصة أكدت صدق نيّاتها، وذلك عندما ساعدت مصر بدعمها في قضية التحكيم الدولي لاستعادة طابا، ومبادرة رئيس الوزراء التركي آنذاك سليمان ديميريل بتقديم أهم وثيقة حسمت النزاع بشأن ملكية طابا لصالح مصر، من الأرشيف العثماني لاتفاقية ترسيم الحدود المصرية- العثمانية لعام 1906.

لم تكتفِ تركيا بالتقارب مع العرب؛ بل سعت أيضًا إلى استغلال مرحلة الانفتاح بالثمانينيات في الاتحاد السوفيتي، التي سميت “البيريسترويكا”، من خلال التقارب مع بلدان آسيا الوسطى التركية (أوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وقرغيزستان) بالإضافة إلى أذربيجان وإيران، كما شهد الاقتصاد التركي مرحلة تحولات كبرى أكثر ليبرالية وتصالحًا مع القيم الإسلامية، وتقاربًا جمع أوزال مع عبد الله كولن مؤسس (حركة الخدمة الإسلامية – Hizmet hareketi).

الإسلام الفكري التركي

يعتقد البعض أن ظاهرة الإسلام السياسي، سواء من خلال جماعات سرية “سلمية” تسعى إلى الوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها، أو من خلال استخدام السلاح والقوة، ظاهرة جديدة نشأت بعد سقوط “الخلافة العثمانية”، لكن النظر إلى أحداث التاريخ السياسي للمسلمين، يوضح أن هذا الاعتقاد غير دقيق، فقد بدأ الصراع منذ اليوم الأول لوفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في اجتماع السقيفة الشهير عام 832م، الذي خلق انقسامًا عموديًّا في الإسلام منذ ذلك الوقت؛ إذ توفي الرسول الكريم ولم يحدد للمسلمين شكل الدولة، ولم يوصِ أصلًا بدولة، ولم يتخذ لنفسه لقبًا من ألقاب الحكم والسياسة، ولا وجود لنص واحد في القرآن يتحدث عن “الدولة الإسلامية”، ولا حديث عن خصائصها؛ ولذلك رأى البعض أنها مجرد إمارة تنظم الشؤون الدينية للمسلمين؛ ولذا قال الأنصار: “منا أمير ومنكم (أي المهاجرين) أمير”، ورأى باقي العرب أن السيادة الدينية انتهت بتمام الرسالة، وكل مجموعة بشرية معتنقة للإسلام تدير شؤونها وفقًا لما تراه مناسبًا لها، وهؤلاء كانوا أغلب من سُموا بأهل “الردة”، ورأى آخرون أن الإسلام لم يأتِ لصنع دولة؛ بل دين ونبوة، وهذا الدين وضع الرسول الكريم أسسه، وتفاصيله الخاصة يتولاها أئمة معصومون من بعده، وهؤلاء الأئمة هم أهل بيته، وأولى الناس بتفسير رسالته وشرحها، وهذا التصور كان لدى الشيعة في طورهم الأول، ولم يكن التشيع في أول أمره يتحدث عن إمامة سياسية بجانب الدينية، وفعليًّا لم يحكم من أهل البيت سوى علي بن أبي طالب لسنوات معدودات كانت كلها صراع واضطرابات، وخرجت جماعات شتى لا يسعنا ذكرها، ولعل أبرزها الخوارج الذين سموا أنفسهم “أهل الإيمان”، ورفعوا شعار “إن الحكم إلا لله”، بجانب الجماعات الشيعية المختلفة، والدعوة السرية العباسية، وغيرها من الحركات المختلفة.

كانت الدولة العثمانية منذ نشأتها الأولى دولة التنظيمات السرية بامتياز، وتتعدد فيها هذه التنظيمات مما لا يسعنا ذكره إلا في كتاب لو أردنا حصرها والحديث عنها، وقبل سقوطها بعدة سنوات نشأت داخلها تنظيمات سرية دينية، أو ما يمكن تسميته بجماعات الإسلام السياسي وفق المصطلح الحديث، وكانت هذه الجماعات داخل عاصمة الدولة إسطنبول، أو في المدن الكبرى التابعة لها، وأبرز هذه الأحزاب كان “الحزب الوطني الحر”، الذي أسسه جمال الدين الأفغاني، ورفيق دربه محمد عبده، في القاهرة عام 1875، وقد تأثر أحمد عرابي ورفاقه بهذه الأفكار، وكانت الثورة العرابية في جوهرها “ثورة إسلام سياسي”، تسعى إلى حكم إسلامي حديث، وفي اعتقادي الشخصي أن جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر عام 1928، ما كانت إلا تراكمًا لهذه الأفكار، وبدفع من النخب العثمانية التي هاجرت إلى مصر بعد سيطرة أتاتورك على تركيا، ووجدت في القاهرة -بسبب مركزها الإسلامي الكبير، واحتضانها الخلافة الفاطمية والعباسية، ووجود الأزهر الشريف، واستعداد ملوكها لتبني فكرة الخلافة- مكانًا مناسبًا لتأسيس هذا التنظيم، وقد بحثت هذه النخبة عن شخصية شابة، ولديها بلاغة وفصاحة، وقدرة على الحركة والنشاط لتولي أمر الدعوة، وكان حسن البنا ذلك الشخص، ودوره لم يكن سوى واجهة لهذا المشروع العثماني الجديد الذي كانت مصر البلد الأكثر مناسبة من غيرها في بلدان الشرق لتبنيه، وهذا الاعتقاد لي عليه دلائل عدة، ربما سنفرد لها مقالًا خاصًا لعرضها.

كانت أولى جماعات الإسلام السياسي ثم الفكري في تركيا تلك الجماعة التي سعى إلى تأسيسها بديع الزمان النورسي، الذي ولد عام 1876، لعائلة من أصول كردية- تركية، وطلب العلم الشرعي وتفقه فيه، وكانت له اهتمامات سياسية سعى من خلالها إلى إعادة بث روح جديدة في جسد الدولة العثمانية الميتة، وفي عام 1911، خطب في المسجد الأموي في دمشق خطبة طويلة، قدم فيها خلاصة أفكاره السياسية، والاجتماعية، والدينية، تحت عنوان (الخطبة الشامية)، وشكل فرقة من الفدائيين للحرب ضد الروس في منطقة القوقاز في الحرب العالمية الأولى، وسعى إلى تأسيس جامعة إسلامية في تركيا، إذ لم يكن لديها أي جامعة إسلامية كبرى. ورغم حكم العثمانيين الممتدة إلى أكثر من ستة قرون، لم توجد في تركيا جامعة إسلامية على غرار الأزهر الشريف في القاهرة، أو الزيتونة في تونس، أو القرويين في فاس، أو المدرسة النظامية والمستنصرية في بغداد، لكن مشروعه لم يكتب له النجاح لقيام الجمهورية التركية، وحظر التعليم الديني بالكامل، ومع هذه الصدمة حدث تحول كبير في أفكار النورسي، وسمى نفسه “النورسي الجديد” الذي ودع القديم، ورفع شعار “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”، ورأى أن حل أزمة الأمة الإسلامية لا يمكن أن يتحقق من خلال العمل السياسي والوصول إلى السلطة؛ لأن أزمة السياسة نتيجة وليست سببًا لأزمات الإسلام المعاصر والمسلمين، وحلها يكمن في البدء بإعادة بث الروح في هذا الجسد الميت عبر التعليم الديني القائم على التجديد والبعد عن التقليد الموروث المتجمد. تفرغ النورسي لكتابة أفكاره التجديدية في الإسلام، التي حملت اسم “رسائل النور“، التي قدّم خلالها مشروعًا فكريًّا شاملًا سماه “إنقاذ الإيمان وخدمة القرآن“. توفى النورسي عام 1960، وترك خلفه تراثًا فكريًّا دينيًّا تبنته عدة حركات صوفية تربوية غير مشتغلة بالسياسة.

كانت “حركة الخدمة الإسلامية” بقيادة فتح الله كولن، المولود عام 1941 في منطقة أرضروم التركية، حتى وقت قريب، ثاني أكبر جماعات الإسلام الحركي في تركيا، وقد تأثر كثيرًا بأفكار النورسي، وجدد في أفكاره من خلال العمل على الأرض، واعتمدت فلسفته على نظرية “الإسلام الاجتماعي”؛ إذ استمد من النورسي أفكاره الدينية في مشروع “رسائل النور”، وتأكيده ضرورة تثقيف المجتمع روحيًّا، وأخذ من الحركة اليسوعية الكاثوليكية منهج العمل الاجتماعي، وإقامة المشروعات الصحية، والتعليمية التي تشمل تعليمًا دينيًّا وعلمانيًّا، بجانب خدمة الفقراء والمحتاجين، وأخذ من الحركة البيوريتانية البروتستانتية بناء مجتمع اقتصادي قوي داخل جماعة مغلقة منضبطة، وتوغل أفرادها في جميع مؤسسات الدولة، والأعمال التجارية، والأحزاب السياسية، وعدم التحول إلى حزب؛ بل تحويل الجماعة إلى فكرة تغزو كل مكان في الدولة والمجتمع. أما توجهاته الخارجية فكانت منصبة على الاهتمام بالمسلمين من العرقية التركية حصرًا، وتأسيس قومية تركية- إسلامية، وأن تكون الدولة التركية مركزًا للقومية التركية في العالم، وربط بلدان آسيا الوسطى، ومسلمي حوض الفولغا وشبه جزيرة القرم من التتر الترك في روسيا، ومسلمي تركستان الشرقية بالصين بالحركة، وتنمية قيمهم الإسلامية، ومشاعرهم القومية المرتبطة بالوطن الأمن تركيا؛ ومن ثم تحقق تركيا تمددًا خارجيًّا ينهي أزمة عزلتها، ويعوضها عن فشل مشروع أتاتورك بالاندماج في المنظومة الغربية، وتنال دعمًا غربيًّا قويًّا على تمددها في هذه المناطق التي تشكل قيمة إستراتيجية للغرب. ومن خلال الحركة ومجهوداتها والدولة التركية من خلفها، تحقق الحركة وتركيا هدفها بالتوسع دون استفزاز الغرب، بل على العكس ستقدم للغرب ما تراه “خدمة” جليلة بضرب عدويها الكبيرين روسيا والصين، وتهديد وحدة كلا البلدين الداخلية؛ وعليه تحقق تركيا مبتغاها بالتفاهم دون التصارع مع الغرب. جمعت هذه الحركة خليطًا عجيبًا من الأفكار، وكانت وما زالت ترى ضرورة ترك العالم العربي في حاله، وعدم السعي إلى خلق نفوذ تركي فيه؛ لاختلاف خصائص الإسلام التركي عن نظيره العربي، وكون المنطقة العربية ذات أهمية إستراتيجية كبرى للغرب، وفي قلبها إسرائيل، والسعي إلى النفوذ فيها سيخلق مشكلات لا تنتهي لتركيا، ومصيره الحتمي الفشل، في حين أن مشروع الحركة يجمع أمريكا، وأوروبا، والغرب كله على دعم تركيا وتحقيق مرادها، وهنا أيضًا إشارة مهمة توضح سبب دعم روسيا والصين لأردوغان، وسعادتهما بانتصاره على حركة الخدمة وسحقها، وذلك لمعرفتهم بنيّاتها، وإدراكهم خطرها على أمنهم، وفي المقابل، يمكن أن نفهم أيضًا سر احتضان الولايات المتحدة لكولن، وعدم تفريطها فيه حتى وفاته في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، رغم إلحاح أردوغان على تسليمه؛ وذلك لما تراه المؤسسات الأمنية والسياسية الأمريكية من فائدة يمكن تحقيقها من خلال هذه الجماعة.

جماعة الإسلام السياسي الرئيسة هي تلك التي أسسها ودخل بها معترك السياسة أول مرة نجم الدين أربكان، المولود عام 1926 في محافظة سينوب في أقصى شمال تركيا، ويعد أربكان أول من دخل معترك السياسة وعبّر عن توجهاته الإسلامية، وذلك عندما تحالف مع أتباع الحركة النورسية عام 1970، وأسس حزب النظام الوطني، وبعد ذلك بعامين أسس حزب السلامة الوطنية على إثر حل حزبه الأول، وحصل في الانتخابات البرلمانية لعام 1974 على خمسين مقعدًا؛ مما مكنه من المشاركة بحكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري، وهو الحزب الذي أسسه أتاتورك ويتبنى العلمانية، وأصبح نائبًا لرئيس مجلس الوزراء بولنت أجاويد. ونتيجة الملاحقات القانونية للحزب، وتهديده “للقيم العلمانية” -وفق تصور المؤسسة العسكرية التركية- حُظر مرة أخرى، وأسس فيما بعد حزب الرفاه عام 1993، ووصل إلى رئاسة الحكومة عام 1996، ثم قدم استقالته في العام التالي بعد انقلاب عسكري أبيض سُمي “انقلاب المذكرة“، وهي المذكرة التي تقدم بها قادة الجيش لرئيس الجمهورية ومجلس الأمن القومي، والتي صادق عليها البرلمان باعتبار الحزب وما يمثله من أفكار يشكل تهديدًا لعلمانية الدولة، وأسس بعد ذلك حزب الفضيلة عام 1998، وتم حله أيضًا بحكم قضائي، ثم أخيرًا حزب السعادة عام 2001، وما زال قائمًا حتى اليوم ويرأسه “تمل قره ملا أوغلي”، وانشق من الحزب أردوغان، وغل، وداود أغلو، وأسسوا حزب العدالة والتنمية عام 2001، وهو الحزب الحاكم منذ 2002 حتى الآن.

الخلاصة

  • الجمهورية التركية التي تأسست عام 1923، تخيل مؤسسها -وقادتها من بعده- أن حل أزمة تركيا يكمن في تخليها عن الخلافة، والقيم الإسلامية، والتبرؤ من تاريخها، وتبني هوية غربية؛ ومن ثم سيقبل بها الغرب عضوًا كامل العضوية في ناديه، مع تفسير غريب للعلمانية، مبني على اللائكية الفرنسية المتطرفة، بل بشكل أكثر تطرفًا منها، تهدف إلى القطيعة النهائية مع إرث الماضي. أدركت القيادات التركية في النهاية سذاجة هذه الأفكار، وإن متأخرًا، وبعدما خسرت تركيا كثيرًا من الوقت والجهد، ودخلت في صراعات داخلية، وانقلابات عسكرية عطلت مسيرتها نحو التقدم.
  • منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي بدأت تركيا تتصالح تدريجيًّا مع ماضيها، وتعود إلى هويتها وذاتها، وتعرضت هذه المحاولات لعثرات وفشل في كثير من الأحيان، ومع فشل المشروع الغربي، وعدم قبول المجتمع العودة إلى نمط حكم ديني، أو نظام الخلافة البائد، وعدم قدرة أي طرف على حسم الصراع لصالحه، توافق الطرفان المتصارعان على صيغة جديدة للعلمانية، وهذه الصيغة هي الأقرب إلى فهمها الصحيح البعيد عن ذلك المفهوم القسري المتطرف في صورته الأولى. في المقابل، أيقن التيار الإسلامي أن الإسلام دين وليس أيديولوجية سياسية، وتطبيقه مسؤولية فردية تقع على كل مسلم ما دامت لديه حرية الاعتقاد الكاملة، وأن الزمن قد تجاوز مرحلة التطبيقات القسرية، وأصبح للتيار الإسلامي التركي خصائصه الفريدة، وقد تجلت في دعوة أردوغان للمصريين في أثناء زيارته لمصر عام 2011 إلى تبني العلمانية بعد ثورة 25 يناير، واعتبارها منطقًا للدولة الحديثة لا غنى عنه، وأنها تزيد حرية الفرد في التدين عكس ما يتخيل البعض، ثم نصح جماعة الإخوان المسلمين في مصر بالعلمانية بعدما وصل محمد مرسي إلى السلطة، ونفى في لقائه مع قناة العربية عام 2017 أي تعارض بين الإسلام والعلمانية، وأكد مرة أخرى أن العلمانية هي نهج حزب العدالة والتنمية، وأنه حاول أن يشرح للإخوان معناها، وأنها لا تعني عدم التدين.

الإسلام الفكري في تركيا يمكن تقسيمه إلى جهات أربعة رئيسة:

  1. الحركة الصوفية، التي يقدر أتباعها بالملايين، وأبرزها وأكبرها الحركة النقشبندية، وهذه الحركات لا تمتلك حزبًا سياسيًّا، ولا يترشح قادتها أو أتباعها الرئيسون في الانتخابات، وليس لديها طموح سياسي، وتكتفي بدورها بوصفها كتلة تصويتية كبرى، وتدعم الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية منذ السبعينيات؛ بهدف حصولها على حريتها الدينية، وتؤمن بالنظام العلماني، وتؤيد تركيا علمانية وفق المفهوم التقليدي للعلمانية، حيث عانت إغلاق تكاياها، وحرمانها من ممارسة طقوسها، ونفي غالبية قياداتها إلى الخارج؛ تحديدًا ألمانيا، وهولندا، وقبرص الشمالية، وبعض البلدان العربية. كان هذا الوضع مستغربًا وشاذًا أن يجد رجال دين مسالمون حريتهم في بلدان غير إسلامية، في حين يحرمون منها في وطنهم تركيا؛ لذا، كان لهذه الحركات دور كبير في التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية.
  2. الإسلام الاجتماعي، الذي كانت تمثله حركة الخدمة الإسلامية بقيادة فتح الله كولن، وكانت حليفة لأردوغان حتى بدأ الصراع فيما بينهما بعد ما سُمِّي “الربيع العربي”؛ نتيجة للخلاف في التوجهات الخارجية كما سلف، وهذه الحركة، بما تمتلكه من مؤسسات تجارية، واقتصادية، وطبية، وخدمية، وأتباع بكل مكان في تركيا، وموظفين في جميع أجهزة الدولة، شكلت كتلة تصويتية كبرى، وشعبية عريضة داخل المجتمع التركي.
  3. الإسلام التربوي، تمثله الحركة النورسية التي أسسها بديع الزمان النورسي. وغالبية رجال الدين، والمفتين، والوعاظ الدينيين، وأئمة المساجد في تركيا ينتمون إلى هذه الحركة، ولا نشاط سياسي لديهم، ويهتمون بالجانب التربوي، والتثقيف الديني الإسلامي، وأولويتهم الحفاظ على الحرية الدينية بعدما عاشوا أيامًا صعبة من الاضطهاد زمن تولي العسكريين السلطة؛ ولذلك تذهب أصواتهم تقليديًّا إلى الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية.
  4. الإسلام السياسي، يمثله حزب العدالة والتنمية، والسعادة، والمستقبل، والدعوة الحرة. تمارس جميع هذه الأحزاب العمل السياسي، وتعلن إيمانها بالعلمانية منطقًا لإدارة الدولة التركية، ومسألة العلمانية ليست محل نقاش لديها. يعد نجم الدين أربكان مؤسس هذه الظاهرة السياسية، التي تعتمد على أن يكون للحزب أيديولوجية ثقافية إسلامية، وهوية أخلاقية مستمدة من قيم الإسلام، واحترام لتاريخ الدول التركية الإسلامية، وعلى رأسها الدولة العثمانية، والتوجه بالسياسة الخارجية نحو تعاون أكثر مع البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وتبني قضايا المسلمين في أجندة الدولة التركية.
  5. الإسلام السياسي القومي، تشترك جميع أحزاب الإسلام السياسي في تركيا في إعلاء شأن القومية التركية داخل تركيا والعالم، والقومية تأتي أولًا ثم الإسلام، والأخير هدفه خدمة القومية التركية ورفعتها لا العكس، لكنَّ هناك أحزابًا خطابها يميل نحو الفاشية في النظر إلى القومية التركية، وتروج لخطاب عرقي قائم على “تفوق” العرق التركي وسيادته على جميع الشعوب الإسلامية، ومن هؤلاء: الاتحاد الكبير، والرفاه الجديد، والطريق الوطني.

الخاتمة

قد توجد روابط فكرية وأيديولوجية طبيعية بين جماعات وأحزاب الإسلام السياسي التركية والإخوان المسلمين، لكن هذا لا يعني أنهم كيان واحد، أو أن الأتراك جزء من التنظيم، فلا وجود لأي علاقة بين الإخوان المسلمين والإسلاميين الأتراك في التجربة، والسياق، ومراحل التطور. كما أن الدولة التركية لا تماثل -بأي شكل من الأشكال- الدولة العربية، ولا تجربة الإخوان المسلمين في مصر وباقي العالم العربي؛ لذا، فإن الحديث عن كون أردوغان إخوانيًّا، أو أن حزب العدالة والتنمية ممثل الإخوان في تركيا، يأتي في إطار حروب الدعاية في ظل الصراع الأيديولوجي والسياسي في الفترة من منتصف عام 2013 إلى عام 2022.

قد نكون بحاجة إلى دراسة فكرة قيام حركة الإخوان في مصر، وهل كانت فكرة مصرية عربية، أم فكرة تركية عثمانية قام ممثل مصري بالتعبير عنها وهو حسن البنا، ثم سعى الإخوان إلى استغلال نجاحات حزب العدالة والتنمية لتسويق أنفسهم على أنه أحد امتداداتهم، وأن ما حققه من نجاحات في تركيا هو ما ينتظر البلدان العربية إذا اختارت الشعوب الإخوان ليتولوا السطلة، وفي المقابل، استغلهم أردوغان للتسويق للمنتجات التركية، وتحويل المنطقة العربية إلى سوق استهلاكية كبيرة للمنتج التركي، وتحقيق مكاسب اقتصادية، في حين أن كل ما يربط بين الطرفين هو علاقة مصلحة وتخادم، بجانب العلاقة العاطفة تمامًا، كالتي تنشأ بين الأحزاب الشيوعية أو اليمينية المتطرفة في الغرب؟

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع