تقدير موقف

زيلينسكي في برلين.. السلام والتنازلات في مفاوضات حاسمة


  • 18 ديسمبر 2025

شارك الموضوع

زار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي برلين في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2025؛ لعقد مفاوضات مكثفة تستهدف تسوية سلمية للنزاع مع روسيا. ففي 14 و15 ديسمبر (كانون الأول)  التقى زيلينسكي بمبعوثي الولايات المتحدة (ستيف ويتكوف وصهر الرئيس السابق جاريد كوشنر) وكبار المسؤولين الأوروبيين، بقيادة المستشار الألماني فريدريش ميرتس. وتأتي هذه الاجتماعات في إطار خطة سلام أعدّتها إدارة ترمب الأمريكية، وقُدمت قبل أيام من قمة أوروبية مهمة مخصصة لتمويل كييف. وركز الحوار في برلين على البنود الرئيسة لهذه الخطة: الضمانات الأمنية الأمريكية لأوكرانيا، والتنازلات الإقليمية التي قد يتعين على كييف تقديمها، إلى جانب حزمة دعم عسكري واقتصادي غربي متصاعد في أعقاب الغزو الروسي.

الضمانات الأمنية والدعم الدولي

في مؤتمر صحفي مشترك في مقر المستشارية الألمانية ببرلين، رحّب المستشار ميرتس بعرض واشنطن لضمانات أمنية قوية قائلًا إنها “خطوة مهمة إلى الأمام” نحو السلام. وشرح أن أي اتفاق لوقف إطلاق النار يجب أن يكون مدعومًا بضمانات قانونية ومادية كبرى من الولايات المتحدة وأوروبا. أكد زيلينسكي -من جهته -أن المفاوضات أحرزت “تقدمًا حقيقيًا” في مسودة الضمانات الأمنية، مشيرًا إلى أنه اطلع على التفاصيل المبدئية ووصفها بالواعدة حتى الآن.

الضمانات الأمنية الأمريكية والأوروبية: عرضت واشنطن منح أوكرانيا ضمانات أمنية قوية شبيهة بالمادة الخامسة لحلف الأطلسي، بما يشمل تعهدًا بقوات عسكرية غربية لدعم كييف إذا تعرضت لهجوم. وأكد زيلينسكي أنه يحتاج إلى فهم واضح لطبيعة هذه الضمانات قبل الإقدام على أي تنازلات إقليمية، مشددًا على أنها يجب أن تكون ملزمة قانونيًا، وتضم آليات مراقبة لوقف إطلاق النار. من جهته، أشار ميرتس إلى أن العرض الأمريكي يتضمن ضمانات قانونية ومادية معتبرة، واصفًا إياها بخطوة كبيرة إلى الأمام، وفرصة حقيقية لعملية سلام.

القوة المتعددة الجنسيات بقيادة أوروبية: اتفق قادة أوروبيون مع الولايات المتحدة على تشكيل قوة دولية لدعم أوكرانيا في إعادة بناء جيشها، وتأمين سمائها وبحرها. نص البيان المشترك على أن هذه القوة ستكون بقيادة أوروبية، ومدعومة من الجانب الأمريكي، وأن يبقى تعداد الجيش الأوكراني في حدود 800 ألف مقاتل في مرحلة سلمية؛ لضمان ردع أي اعتداء مستقبلي. ومن المقرر نشر هذه القوة المتعددة الجنسيات داخل الأراضي الأوكرانية كآلية ردع وتدريب ودعم مستمر.

مسألة التخلي عن طموح الناتو: في تنازل بارز، أعلن زيلينسكي استعداد أوكرانيا للتخلي عن طموح الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لقاء ضمانات أمنية غربية صلبة. ويعد هذا التنازل خطوة كبيرة من أوكرانيا، إذ كان الانضمام إلى الناتو أحد أهم أهدافها الدستورية لحمايتها من العدوان الروسي، لكنه ينسجم مع ما طالبت به موسكو منذ سنوات. ورأى زيلينسكي أن هذا التراجع يشكل “تنازلًا” في ذاته، لكنه ضروري لحماية بلاده، بشرط أن يُصاحبه اتفاق واضح يضمن أمن أوكرانيا.

الانسحاب من دونباس والحدود الإقليمية: نقلت مصادر عن مسؤولين أمريكيين أن واشنطن طلبت من كييف خلال المحادثات أن توافق على سحب قواتها من منطقة دونيتسك الشرقية مقابل وقف إطلاق نار مستدام. وأشار مسؤول أمريكي مطلع إلى أن أوكرانيا مطالبة بفرض منطقة منزوعة السلاح في الدونباس كجزء من أي تسوية. وقد وافق زيلينسكي مبدئيًا على إجراء استفتاء شعبي قبل الموافقة على أي تغيير في حدود بلاده، تماشيًا مع الدستور الأوكراني الذي يلزم باستفتاء الشعب لتعديل الخطوط الحدودية. وأكد زيلينسكي أنه لن يقبل بأي تنازل إقليمي قبل تأمين ضمانات حماية قوية وموثوقة. واتفق الزعماء الأوروبيون على أن أي قرار بشأن الأراضي الأوكرانية يجب أن يكون قرار الشعب الأوكراني وحده، وبإجماع تام للأمن قبله.

خطة استخدام الأصول الروسية المجمدة: طرح الاتحاد الأوروبي خطة للاقتراض من أصول الاحتياطي الروسي المجمدة (نحو 210 مليارات يورو) لتلبية احتياجات أوكرانيا التمويلية، بما يوفر نحو 90 مليار يورو للعامين المقبلين. ودعا زيلينسكي إلى استخدام هذه الأموال بالكامل في تمويل الدفاع الأوكراني، واصفًا ذلك بأنه “أمر عادل ومعقول وقابل للتطبيق”. ورحب ميرتس بضرورة إنجاز هذه الخطة سريعًا، محذرًا من أن فشل الاتحاد في ذلك سيضر بمصداقيته وقدرته على العمل فترة طويلة. ولا تزال بلجيكا -من جانبها- تعرقل خطة الاستفادة من هذه الأصول بسبب مخاوف قانونية؛ ما دفع قادة الاتحاد إلى البحث عن ضمانات تشارك الأخطار على جميع الدول الأعضاء.

التوافق على نقاط الخطة المطروحة: أعلن مسؤولون أمريكيون أن المحادثات في برلين حققت توافقًا بشأن نحو 90% من بنود خطة السلام الأمريكية، ومعظمها يتعلق بالضمانات الأمنية، ومساعدات إعادة الإعمار، وأشاروا إلى أن الاقتراحات المتفق عليها تشمل تضمين أوكرانيا في السوق الأوروبية، وهو أمر قالت مصادر إن روسيا أبدت قبولًا ضمنيًا له كجزء من التسوية. لكن الأمر الأهم الذي بقي قيد النقاش هو مستقبل أراضي دونباس، وغيرها من المناطق الخاضعة لسيطرة كييف، حيث تتفق واشنطن ومعظم الحلفاء على ضرورة أن تتخلى أوكرانيا عن أجزاء منها مقابل ضمان الأمن الشامل.

الموقف الروسي وطلباته: أبقت موسكو -من جهتها- موقفها الرافض للتنازل عن مزيد من الأراضي، أو التخلي عن مطالبها السياسية. أكد الكرملين أن رئيسه فلاديمير بوتين منفتح “على السلام والقرارات الجدية”، لكنه يرفض ما وصفه بالمناورات والهدن المؤقتة. ويصر الروس على أن تتخلى أوكرانيا عن طموحها في الانضمام إلى الناتو، وتبقى على حياد أمني، بل يطالبون باستعادة السيطرة على كل دونباس وجنوب أوكرانيا. وفي هذا الإطار، وصف دبلوماسي روسي في حديث تليفزيوني أي اتفاق مع واشنطن بأنه سيكون بمنزلة “استسلام” أوكراني.

التنازلات الأوكرانية وقضايا الأراضي

عرض زيلينسكي التخلّي عن طموح انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو مقابل الحصول على ضمانات أمنية غربية معتبرة، واصفًا ذلك بأنه “حل وسط” تقدّمه بلاده. وفي المقابل، شدد على رفض أي تسوية تتضمن التنازل عن سيادة كييف على أراضيها، مؤكدًا أنه “لن يعترف -لا قانونًا ولا واقعًا- بسيطرة روسيا على أي جزء من دونباس”. وأيّد زيلينسكي كذلك فكرة وقف إطلاق نار مؤقت لعيد الميلاد، وهو المقترح الذي رحّب به ميرتس. كما أوضح أنه إذا رفضت موسكو أي من المقترحات، فإن الولايات المتحدة سترد بفرض عقوبات إضافية على روسيا وتسليح أوكرانيا على نحو أوسع.

خطة تمويل أوكرانيا والأصول الروسية المجمدة

طالب زيلينسكي في منتدى أعمال ألماني- أوكراني بتوظيف الأصول الروسية المجمدة لصالح دفاع أوكرانيا ضد العدوان، واصفًا ذلك بأنه “عادل ومعقول”. يأتي ذلك في وقت يستعد فيه الاتحاد الأوروبي لاعتماد خطة لتمويل أوكرانيا بنحو 90 مليار يورو على مدى عامين، تعتمد في جزء كبير منها على هذه الأصول، بحيث تُسدَّد من عوائد تعويضات روسية مستقبلية، لكن الخطة تواجه عقبة في بلجيكا (حيث تُحتجز معظم هذه الأصول) التي تعارض استخدامها خشية تداعيات قانونية. وحذّر ميرتس من أن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن هذه الخطة سيُضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على العمل المشترك، ويُظهر انقسامات عميقة في خضم هذه اللحظة الحاسمة.

الاستنتاجات

توفر محادثات برلين بارقة أمل دبلوماسي لأوكرانيا؛ فقد انتقلت الضمانات الغربية إلى سقف جديد، ووحدّت أوروبا مواقفها بشأن دعم كييف. وأظهر زيلينسكي براعة في إدارة أوراقه التفاوضية؛ إذ قدّم تنازلات محدودة (كإعلان التنازل المؤقت عن هدف الناتو) في مقابل مكتسبات إستراتيجية مهمة. ومع ذلك، يبقى تحقيق السلام الدائم رهينًا باستجابة روسيا؛ إذ إن نجاح أي اتفاق يتوقف على مدى استعداد موسكو للقبول بالشروط والضمانات الجديدة. وفي ضوء ذلك، تبدو فرص السلام غامضة الحواف رغم التفاؤل الحذر؛ فالمبادرات الدبلوماسية الغربية قد تخلق “فرصة لسلام حقيقي” كما قال ميرتس، لكن ترجمة هذه الفرصة إلى واقع يتطلب التزامًا عمليًا من جميع الأطراف، وعلى رأسها روسيا، بوقف إطلاق النار، والاحترام الكامل لسيادة أوكرانيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع