مثّل وصول المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف إلى موسكو في السادس من أغسطس (آب) 2025 ذروة مرحلةٍ سياسية محتدمة يصعب فهمها بمعزلٍ عن السياقات العميقة التي تراكمت منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية قبل أكثر من ثلاثة أعوام. فالزيارة، التي وُصفت في الخطاب الإعلامي الأمريكي بأنها “فرصة اللحظة الأخيرة” لانتزاع وقفٍ لإطلاق النار، تندرج -في واقع الأمر- ضمن مسعى أشمل لإعادة ضبط قواعد اللعبة الدولية بعد سنواتٍ من الانزياح التدريجي عن التفوّق الأمريكي الأحادي، وعودة المنافسة بين القوى العظمى. جاءت المبادرة في لحظة يختلط فيها الضغط الانتخابي الداخلي على الرئيس دونالد ترمب بالحاجة إلى ترميم إستراتيجية الردع الأمريكية التي بدت متآكلة بفعل استنزافٍ مالي وعسكري طويل في أوكرانيا، في حين تقف موسكو مدفوعةً بحساباتٍ جيوسياسية تُلاقي في الداخل خطابًا قوميًّا يرى الحرب بوابةً لاستعادة المكانة الإمبراطورية، وإعادة ترسيم المجال الحيوي الروسي. بين هذين المسارين، اتخذت العواصم الأوروبية وضعية القلِق الممزّق بين الانحياز إلى شريكها الأمني الأمريكي والخشية من موجة تضخّم طاقي قد تعصف بتعافٍ اقتصادي هشّ، في حين تراقب بكين وتنتظر، مدركةً أن أي هزّة في أسواق الطاقة، أو أي تشققٍ بين واشنطن وحلفائها الغربيين قد يعجّل بتكوّن بنية مالية وتجارية تُضعِف سطوة الدولار، وتعزّز صعود اليوان.
في هذا الإطار، بدا الهدف الأمريكي المعلن، وهو انتزاع هدنةٍ شاملة، أو على الأقل تجميد الضربات الجوية الروسية، مجرد طبقة أولى من طبقات المشروع الحقيقي الذي يُراد إنفاذه، فواشنطن تعرف أن وقف إطلاق النار -إن تحقق- لن يطوي صفحة النزاع، لكنه يمنح الرئيس ترمب مكسبًا انتخابيًّا ثمينًا يبيّن أنه قادر على وضع حدٍّ لحربٍ مُكلفة من دون نشر جندي أمريكي واحد جديد على الأرض. كذلك، فإن إنعاش صورة “صانع الصفقات الأكبر” يتيح للرئيس تبرير إعادة توجيه موارد عسكرية ولوجستية صوب المحيط الهادئ حيث يتصاعد الاحتكاك مع الصين حول مضيق تايوان. أضف إلى ذلك أن تلويح وزارة الخزانة بالعقوبات الثانوية ضد مستوردي النفط الروسي يحمل وظيفة إستراتيجية مزدوجة؛ أولًا: كبح العائدات التي تموّل المجهود الحربي الروسي، وثانيًا: الدفاع بوجهٍ غير معلَن عن هيمنة الدولار عبر ردع القوى الآسيوية الصاعدة عن تصميم آليات دفع بديلة قد تُهمّش المنظومة المالية الأمريكية برمّتها.
في المقابل، دخل الكرملين المفاوضات من موقعٍ يخلط الصلابة العسكرية بالحذر المالي. لقد أثبت الاقتصاد الروسي قدرةً على التكيّف مع سلاسل التوريد الآسيوية، لكنّ القادة الروس يدركون أن أي عقوبات ثانوية واسعة قد تمنح بكين -الشريك التجاري الأكبر- فرصةً لفرض خصوماتٍ أعلى على النفط الروسي؛ ما يعني نزيفًا خفيًّا على المدى المتوسط؛ لذلك حرص بوتين على صياغة ورقة تفاوضية تُبقي الباب مواربًا: وقف تدريجي للعمليات البرّية مقابل اعترافٍ غربي بسيادة موسكو على نقاط إستراتيجية في بحر آزوف، وجزيرة الأفعى، وضمان قانوني بتجميد ملف انضمام أوكرانيا إلى الناتو. جوهر الطرح أن روسيا مستعدة لتعليق آلة الحرب بشرط تكريس مكاسب جغرافية تُسوَّق داخليًّا بوصفها برهانًا على جدوى “الحرب الوقائية”؛ ومن هنا نفهم رفض موسكو القاطع لأي صيغة تنصّ على انسحابٍ فوري وشامل من خاركيف، إذ سيُترجم ذلك داخل روسيا على أنه هزيمة لا صفقة، ويقوّض سردية “إعادة أمجاد القوة العظمى” التي يستند إليها النظام لتثبيت شرعيته.
لكن التعقيد لا يقف عند حدود واشنطن وموسكو؛ فأوروبا تجد نفسها عالقةً بين المطرقة والسندان؛ فهي -من جهة- تحتاج إلى إنهاء الحرب كي تتفادى شتاءً اقتصاديًّا آخر تضخ فيه الحكومات عشرات المليارات لدعم فواتير الطاقة، ومن جهة ثانية تخشى أن يؤدي أي اتفاق يمنح روسيا مكاسب ترابية إلى تشجيع أطراف أخرى في العالم على اختبار صلابة الضمانات الأمنية الأوروبية- الأطلسية. تنعكس هذه المعضلة في التردد الفرنسي- الألماني: باريس وبرلين تضغطان على البيت الأبيض لتأجيل العقوبات الثانوية على أمل انتزاع وقفٍ -ولو جزئيًّا- لإطلاق النار، لكنهما في الوقت نفسه تدعمان خطًا أحمر يمنع تنفيذ أي صيغة تُقرأ على أنها اعتراف غربي بنصر ميداني روسي. ويعمّق هذا التوازن الهش الانقسام الداخلي في الاتحاد الأوروبي بين دولٍ معتمِدة على الطاقة الروسية، مثل المجر والنمسا، وأخرى تراهن على الغاز المسال الأمريكي، وعلى الشراكات الخليجية لتعويض الفجوة، مثل بولندا ودول البلطيق.
وسط هذا المشهد المزدحم بالخطوط الحمراء المتعارضة، تظهر ثلاثة سيناريوهات رئيسة؛ أولها: هدنة تكتيكية تتضمن وقف الضربات الجوية الروسية مقابل تجميد مؤقت للعقوبات الثانوية، فتمنح الأسواق تنفّسًا قصيرًا، وتسمح لترمب بالظهور بمظهر المنتصر، لكنها تترك خرائط السيطرة غامضة؛ ما يجعل العودة إلى التصعيد احتمالًا دائمًا. ثانيها: فشل كامل للمباحثات يتبعه تفعيلُ حزمة عقوبات شديدة تُفجّر أسعار النفط فوق مئة وعشرين دولارًا للبرميل، فتردّ موسكو بخفض صادرات الغاز بنسبة كبيرة، وتنقل الضغط الحقيقي إلى العواصم الأوروبية، في حين تتقدّم بكين لتملأ فراغ التسييل المالي بتوسيع استخدام اليوان في عقود الطاقة. أما السيناريو الثالث، وهو الأقل ترجيحًا لكنه الأكثر تأثيرًا، فيتمثّل في صفقة شاملة تؤجل حسم الحدود السياسية، وتربط رفع العقوبات بتسلسل انسحاباتٍ روسية تراقبها الأمم المتحدة، في مقابل إطلاق صندوق إعمارٍ ضخم تتقاسم تمويله مؤسسات غربية وخليجية وآسيوية، بما يعيد إدماج روسيا جزئيًّا في اقتصادٍ عالمي مشروط، ويمنح أوكرانيا مكاسب إعادة إعمار عاجلة.
بين هذه السيناريوهات يستقر المؤكد الوحيد؛ فالنظام الدولي يقف على أعتاب إعادة هندسة شاملة تتجاوز حدود أوكرانيا إلى جوهر توزيع الثقل المالي والتقني والطاقي بين الشرق والغرب، فالولايات المتحدة، وهي تحاول الحفاظ على تفوّقها بالضغط الاقتصادي، تخاطر بدفع خصومها -وربما بعض حلفائها- إلى ابتكار منظومات بديلة تُقزّم تأثير أدواتها المالية التقليدية. وروسيا، التي تقاتل لتثبيت واقع إستراتيجي جديد على حدودها، تدرك أن الزمن لا يعمل لمصلحتها إذا تراكمت النفقات، وتباطأ الاقتصاد بفعل الخصومات النفطية والصعوبات التقنية. وأوروبا في المنتصف، قد تجد نفسها مُكرَهةً على تسريع بناء ركيزة دفاعية مستقلة وإستراتيجية طاقة مغايرة، أو مواجهة خطر التشظي الإستراتيجي تحت هول صدمة أسعارٍ لا قدرة لاقتصاداتها على امتصاصها. وفي الخلفية تتابع الصين المشهد، واضعةً حسابًا باردًا: فكل تراجعٍ للدولار، وكل انقسامٍ أطلسي، هو نقطة إضافية في رصيد مشروعها لقيادة الدورة المقبلة من العولمة بعملةٍ وأسواقٍ وممرات تجارة تتكئ على موارد روسيا الضخمة، وشهية آسيا التي لا تشبع.
هكذا، ليست زيارة ويتكوف مجرد محاولة لانتزاع وقف نار؛ وإنما هي اختبار معلن لما إذا كان العالم لا يزال قادرًا على إنتاج “صفقات كبرى” تُنهي الحروب عن طريق التوازن لا عن طريق الحسم العسكري الكامل، فإذا نجحت فستؤسس لنمط تفاوضي يتكرر في ساحات نزاعٍ أخرى من غزة إلى مضيق تايوان، وإذا فشلت فستدفع القوى الكبرى إلى تعميق خنادقها، وبناء جدرانٍ مالية وتقنية جديدة تفصل الكتل الجيو- اقتصادية المتنافسة. وفي الحالتين، سيبقى السؤال الأثقل معلقًا: هل يملك النظام الدولي الناشئ أدواتٍ تضمن استقرارًا طويل الأمد، أم أننا مقبلون على حقبة “الهدن المؤقتة” التي لا تكاد تهدأ حتى تنفجر من جديد مع كل دورة أسعار طاقة، أو كل تغيير في الموازنة الانتخابية داخل دولةٍ عظمى؟ الإجابة ستكتبها حتمًا نتائج تلك الساعات الطويلة التي قضاها ويتكوف خلف جدران الكرملين، وبقدر ما تكشفه الأيام المقبلة من قدرة واشنطن وموسكو على موازنة المكاسب والخسائر قبل أن تدقّ طبول مواجهةٍ أشد كلفة على الجميع.
لم يكن الهمّ الأمريكي المباشر في الزيارة وقف إطلاق النار فقط؛ بل إعادة ضبط معادلة الكلفة-الفائدة التي صارت تميل ضدّ مصالح واشنطن الإستراتيجية، فالبيت الأبيض يواجه ضغطًا انتخابيًّا داخليًّا يدعوه إلى خفض الإنفاق الأجنبي، وتركيز الموارد على مواجهة الصين في المسرح الهندي- الهادئ، ويجد نفسه في الوقت نفسه مضطرًّا إلى حماية مكانة الدولار إزاء محاولات بكين وموسكو بناءَ منظومات دفعٍ بديلة. بناءً على ذلك، حمل ويتكوف في حقيبته خطّة مزدوجة: تعهّد بتعليق العقوبات الثانوية إذا وافقت روسيا على وقف للضربات الجوية، وانسحاب مدروس من خطوط التماس الأكثر التهابًا، مقابل إبقاء سيف العقوبات مُصلتًا لضمان تحجيم عائدات الطاقة الروسيّة، ومنع بكين ودلهي من الانضمام إلى نظام ماليّ موازٍ. بهذه الصيغة تسعى واشنطن إلى انتزاع “هدوءٍ قابلٍ للتسويق” داخليًّا وخارجيًّا من دون تقديم تنازلٍ جوهريّ بشأن استقلال كييف أو حدود نفوذ الناتو.
في الكرملين، تبدو المعادلة معكوسة؛ فموسكو لا ترى في وقف النار قيمةً ما لم يكرّس مكاسبها الجغرافيّة، ويمنحها اعترافًا ضمنيًّا بدورها كقوّة إقليمية مقرِّرة في فضائها القريب؛ لذلك طُرحت خلال اللقاء ورقة تتضمّن تثبيت النفوذ في بحر آزوف وجزيرة الأفعى، وضمانةً مكتوبةً بتعليق مسار أوكرانيا نحو عضوية الناتو عقدًا ونصف العقد على الأقل، في مقابل قبول وقفٍ تدريجيّ للعمليات البرية، وخفضٍ للضربات البعيدة المدى. يدرك بوتين أن التنازل عن خاركيف، أو التراجع الكامل إلى خطوط ما قبل 2022 سيُفضي إلى أزمة شرعية داخلية ويُضعف هيبة روسيا لدى حلفائها الآسيويين؛ لذا يقايض “التطبيع الاقتصادي” بأثمان سياسية ملموسة، مراهنًا على أن الغرب في نهاية المطاف يفتقر إلى الشهية اللازمة لخوض حرب أسعار طاقة طويلة عشية تعافٍ اقتصادي هش.
تجد أوروبا نفسها في موقفٍ بالغ الحساسية؛ فهي أول مَن يدفع ثمن أيّ تصعيدٍ في أسعار النفط والغاز، وأول مَن يواجه اختبار مصداقية ردعٍ إذا حصدت روسيا اعترافًا فعليًّا بمكاسبها. تحاول برلين وباريس لذلك دفع واشنطن نحو “هدنةٍ مشروطة” تحفظ ماء الوجه للجميع، وتؤجّل الانفجار المالي، لكنَّ انقسامًا داخليًّا ينهش بنية القرار الأوروبي؛ فدول البلطيق وبولندا ترى أن أي تنازل يُشجع موسكو على تكرار السيناريو في ملعب آخر، في حين تميل دولٌ تعتمد على الطاقة الروسية (المجر والنمسا) إلى الواقعية المالية على حساب الصرامة الأمنية. هكذا يصبح الاتحاد الأوروبي حلبةَ تجاذبٍ إضافية تراقبها موسكو وواشنطن معًا، وتستغلّانها لترجيح كفّة أوراقهما.
بكّرت الصين والهند في استغلال الفراغ الغربي بشراء النفط الروسي بخصومات حادة؛ ما منح موسكو شريانًا ماليًّا، وأتاح لبكين ونيودلهي خدمة أهدافٍ إستراتيجيّة أعمق: تقييد قدرة الغرب على استخدام الطاقة سلاحًا، وتوسيع شبكات الدفع باليوان والروبية. ترى بكين في أيّ عقوبات ثانوية فرصةً لتعجيل بناء كتلة نقدية منفصلة عن الدولار، فيما تنظر موسكو إلى الارتباط بسوق آسيوية واسعة بوصفه بوليصة تأمين ضد الحصار الغربي الطويل. من هنا يصبح نجاح الهدنة أو فشلها مؤشرًا حادًّا لتحديد سرعة تشكّل محورٍ طاقي- مالي آسيوي قد يُقزّم دور المنظومة المالية الأطلسية خلال العقد المقبل.
على ضوء هذه التفاعلات تشكّلت ثلاثة مساراتٍ محتملة؛ أوّلها: هدنة تكتيكية تجمِّد العمليات الجوية الروسيّة مقابل تعليق العقوبات الثانوية، وتسمح باستئنافٍ محدودٍ لصادرات الطاقة من دون مساسٍ بخرائط السيطرة الحاليّة؛ ما يمنح واشنطن نصرًا دعائيًّا، ويمنح موسكو استراحةً لالتقاط الأنفاس. ثانيها: تصعيد مالي- طاقيّ يتمثّل في فشل المحادثات، وتفعيل الولايات المتحدة الحزمة العقابيّة بكاملها، فتقفز أسعار النفط إلى ما فوق مئةٍ وعشرين دولارًا للبرميل، وتخفض موسكو صادرات الغاز إلى أوروبا، فتقع الأخيرة في فخ تضخمي خانق وتُفتَح نافذة صينية لتوسيع رقعة اليوان في تجارة الطاقة. أما ثالثها فهو صفقة تدريجية موسَّعة تقايض انسحابًا روسيًّا مدروسًا بضمانات تمويلية لإعادة إعمار أوكرانيا، تُموَّل عن طريق صندوق دولي، وتتيح رفعَ العقوبات على مراحل، وهو سيناريو صعب التحقّق، لكنه الوحيد القادر على تقديم مخرج مستدام من النزاع.
يظهر بجلاء أنّ زيارة ويتكوف ليست سوى واجهة لمواجهة أعمق على قواعد النظام الدولي المقبل: الولايات المتحدة تقاتل بالمال والعقوبات كي تحافظ على تفوقها المالي، وعلى حرية تركيز قوتها ضد الصين، وروسيا تناور بالخرائط، وبورقة الطاقة لتحصين دورها القاريّ، وتفكيك الإجماع الغربي، في حين تتخبّط أوروبا بين مخاوف الأمن وتكاليف الاقتصاد، وتنتظر آسيا لترى إن كان هذا الصدام سيُعجِّل بولادة كتلة نقدية- طاقيّة تدفع العالم نحو تعدُّد أقطاب فعلي. أيًّا ما يكن مآل الهدنة المرتقبة، فإنّ توازنات القوة العالمية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل فبراير (شباط) 2022: لقد انتقل الصراع من ساحات دونباس إلى قاعات تسعير النفط، ومختبرات العملات الرقميّة السيادية، وما زيارة ويتكوف إلا علامةٌ على أن الحروب الحديثة تُخاض بالحدّ الأدنى من الرصاص، وبالحدّ الأقصى من الجداول المالية، وشبكات النفوذ السياسي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.