تمثل زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى الصين في أغسطس (آب) 2025 حدثًا دبلوماسيًّا بارزًا، حيث إنها أول زيارة له إلى هذا البلد منذ أكثر من سبع سنوات. تأتي هذه الزيارة لحضور قمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في مدينة تيانجين، وهي لحظة تاريخية؛ نظرًا للتوترات السابقة بين الهند والصين، لا سيما بعد الاشتباكات الحدودية في وادي غالوان عام 2020. وقد شهدت هذه الزيارة ترحيبًا حارًا من الجالية الهندية في تيانجين، مما يعكس الأهمية الرمزية لهذا الحدث في تعزيز العلاقات الثنائية.
لطالما كانت العلاقات بين الهند والصين معقدة، تتأرجح بين التعاون والتنافس. شهدت العلاقات ذروتها في خمسينيات القرن العشرين مع شعار “هندي- تشيني بهاي بهاي” (الهند والصين إخوان)، لكنها تدهورت بسبب الحرب الحدودية عام 1962. على مر العقود، ظلت قضية الحدود في منطقة لداخ وأروناتشال براديش مصدر توتر. في عام 2020، تصاعدت التوترات تصاعدًا كبيرًا بعد الاشتباكات العنيفة في وادي غالوان، التي أسفرت عن مقتل جنود من الجانبين، وأدت إلى توترات دبلوماسية وعسكرية طويلة الأمد. منذ ذلك الحين، بدأت الجهود لتهدئة التوترات، مع إحراز تقدم ملحوظ في المحادثات الثنائية في السنوات الأخيرة.
تأتي زيارة مودي في أغسطس (آب) 2025 في سياق تحسن تدريجي في العلاقات، مدعومًا بلقاءات رفيعة المستوى، مثل زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى نيودلهي في أغسطس (آب) 2025، التي أسفرت عن اتفاقيات لاستئناف الرحلات الجوية المباشرة، وتسهيل التأشيرات. هذه الزيارة تُعد فرصة لتعزيز هذا الزخم الإيجابي، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية العالمية، والتوترات الجيوسياسية الناشئة عن السياسات التجارية الأمريكية.
التوترات مع الولايات المتحدة
تتزامن زيارة مودي مع تصاعد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، حيث فرضت إدارة الرئيس دونالد ترمب تعريفات جمركية بنسبة 50% على الصادرات الهندية، مع تخصيص 25% عقوبةً على استمرار الهند في شراء النفط الروسي. هذه السياسة أثارت أزمة في العلاقات الهندية- الأمريكية، التي كانت تشهد تعاونًا متزايدًا في العقود الأخيرة كجزء من إستراتيجية مواجهة النفوذ الصيني في آسيا. ومع ذلك، فإن هذه التعريفات دفعت الهند إلى إعادة تقييم سياستها الخارجية، مع التركيز على تنويع الشراكات الاقتصادية والدبلوماسية. في هذا السياق، تُعد زيارة مودي إلى الصين محاولة للاستفادة من تحسن العلاقات مع بكين لتعويض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن التعريفات الأمريكية. الهند تسعى إلى تعزيز التجارة مع الصين، التي تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لتخفيف الضغط على صادراتها.
منظمة شنغهاي للتعاون بوصفها منصة إقليمية
توفر قمة منظمة شنغهاي للتعاون منصة مثالية للهند للتفاعل مع القوى الإقليمية الكبرى، ومنها الصين وروسيا. تُعد المنظمة، التي تضم 10 أعضاء، منهم الهند والصين وروسيا وباكستان، منصة لتعزيز التعاون في مجالات الأمن، والتجارة، والربط الإقليمي. المشاركة في المنظمة تُعد وسيلة للهند إلى تأكيد استقلاليتها الإستراتيجية، خاصة في ظل الضغوط الأمريكية. خلال القمة، من المتوقع أن يعقد مودي محادثات ثنائية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مما يعكس أهمية هذه الزيارة في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية. هذه اللقاءات تأتي في وقت تسعى فيه الهند إلى تحقيق توازن دقيق بين علاقاتها مع الغرب والشرق، مع الحفاظ على سياستها متعددة التوجهات.
الجالية الهندية في تيانجين.. رمز للدبلوماسية الشعبية
كان استقبال الجالية الهندية في تيانجين لرئيس الوزراء مودي مؤشرًا قويًّا على الأهمية الثقافية والرمزية لهذه الزيارة. وفقًا لتقارير إعلامية، تجمّع أفراد الجالية الهندية في تيانجين بحماسة كبيرة لاستقبال مودي، مع عروض ثقافية تعكس الفخر بالهوية الهندية. لاليت شارما، أحد أعضاء الجالية، أعرب عن سعادته بهذه الزيارة، مشيرًا إلى أنها تمثل فرصة لتعزيز العلاقات بين الهند والصين. كما أشاد آخرون، مثل بوران تشاند جايسواني، بإنجازات مودي في رفع مكانة الهند عالميًّا. هذا الاستقبال الحار يعكس دور الجالية الهندية في تعزيز الدبلوماسية الشعبية، حيث تُسهم في بناء جسور بين الثقافتين الهندية والصينية. العروض الثقافية، التي شملت رقصات هندية كلاسيكية، وعزفًا على آلات موسيقية، مثل السيتار والطبلة، تُبرز التفاعل الثقافي بين البلدين؛ مما يعزز الروابط غير الرسمية التي تدعم الدبلوماسية الرسمية.
العجز التجاري مع الصين
على الرغم من التقدم في العلاقات السياسية، يظل العجز التجاري الكبير بين الهند والصين تحديًا رئيسًا. وفقًا للسفارة الهندية في الصين، فإن العجز التجاري مع الصين يتسع باستمرار، حيث تهيمن الصين على الواردات الهندية في قطاعات مثل الإلكترونيات والآلات. تسعى الهند إلى معالجة هذا الخلل من خلال تحسين وصول منتجاتها إلى السوق الصينية، خاصة في مجالات مثل المنسوجات والمنتجات الزراعية. خلال زيارة مودي، من المتوقع أن تُناقش القضايا الاقتصادية مع شي جين بينغ، مع التركيز على تعزيز التعاون في قطاعات مثل السيارات الكهربائية، حيث تعتمد الهند على الصين لتوفير مكونات رئيسة مثل المغناطيسات الأرضية النادرة. هذا التعاون يمكن أن يساعد الهند على تحقيق أهدافها الطموحة لزيادة حصة السيارات الكهربائية في السوق إلى 30% بحلول عام 2030.
فرص الاستثمار الصيني في الهند
تُظهر الزيارة أيضًا إمكانات لجذب استثمارات صينية إلى الهند، خاصة في ظل تباطؤ الاستهلاك المحلي في الصين. شركات صينية مثل BYD تسعى إلى توسيع وجودها في السوق الهندية، التي تُعد واحدة من أسرع الأسواق نموًا في العالم. هذا التعاون يمكن أن يساعد الصين على التعامل مع مشكلات الإنتاج الزائد في بعض الصناعات، في حين يوفر للهند فرصًا لتطوير الصناعات التحويلية. ومع ذلك، فإن العلاقات الاقتصادية تواجه تحديات، منها المخاوف الأمنية الهندية بشأن الاستثمارات الصينية، خاصة بعد قرارات مثل استدعاء مهندسي شركة “فوكسكون” الصينيين من مصنع في الهند. هذه القضايا تتطلب حوارًا مستمرًا لضمان التوازن بين الأمن الوطني والفوائد الاقتصادية.
قضية الحدود
على الرغم من التقدم في تهدئة التوترات الحدودية، لا تزال قضية الحدود بين الهند والصين تشكل تحديًا رئيسًا. الصين تواصل تعزيز البنية التحتية على طول الحدود، بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية؛ مما يثير قلق الهند بشأن الأمن القومي. خلال زيارة مودي، من المتوقع أن تُناقش هذه القضية، مع التركيز على استمرار انسحاب القوات، وضمان الاستقرار على طول خط السيطرة الفعلية.
العلاقات الصينية- الباكستانية
تُعد العلاقة الوثيقة بين الصين وباكستان مصدر قلق آخر للهند. وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن الصين قدمت 63% من صادرات الأسلحة إلى باكستان بين عامي 2020 و2024؛ مما يعزز القدرات العسكرية لباكستان، الخصم التقليدي للهند. هذا الدعم العسكري يُنظر إليه في الهند على أنه عامل يعقد العلاقات مع الصين.
التطلعات المستقبلية
تُمثل زيارة مودي إلى الصين فرصة لإعادة ضبط العلاقات الثنائية في سياق عالمي متغير. الهند تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتعزيز التعاون مع الصين وروسيا. هذه السياسة المتعددة التوجهات تعكس رغبة الهند في تأكيد استقلاليتها الإستراتيجية في عالم منقسم. من وجهة نظر الصين، فإن تحسين العلاقات مع الهند يمكن أن يساعد على مواجهة الجهود الأمريكية لاحتواء صعودها، مع تعزيز نفوذها في العالم الجنوبي. أما الهند، فإن التعاون مع الصين يوفر فرصًا اقتصادية وإقليمية، لكنه يتطلب إدارة دقيقة للتحديات الأمنية والسياسية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.