وصلتُ إلى سيبيريا الغربية في نهاية عام 2015 قادمًا من موسكو في طائرة حديثة حطت في مطار مدينة أومسك. حين راجعت الخرائط وجدتني أقف دَهِشًا أمام صورة جوية لنهر “أوب” الذي يتوسط الإقليم. بين معالم الصورة سمعت “أوب” يقول:
“لا تخجل من منعطفاتك وانحناء مسارات حياتك، أعلم مثلك أنها مرهقة، وتخلق دوارًا منهكًا. هوّن عليك، أنت مثلي، سيأتي يوم تصنع فيه مسارًا واضحًا، تجمع فيه كل مياهك، وتنظم فيه عدتك ومواهبك… صحيح أنه سيبقى على ضفتيك علامات وآثار تلك المنعطفات والانحناءات التي تنطق بتاريخك المتعب؛ مرحى بها.. إنها دليل كفاحك وخبرتك الثرية”.
نمت مطمئنًا بعد حواري مع “أوب”، وفي الصباح أخذت جولة صباحية على ضفاف ذلك النهر العجيب.
يجري “أوب” في بلاد لا تعرف العطش، ولا يفهم أهلها عبارة “حروب المياه”، يبدو للناظر على عجل أن “أوب” يهدر مياهه بلا فائدة، فبدلًا من أن يهب مياهه لأهل الجنوب ذوي الأراضي الجافة في وسط آسيا وأفغانستان يتدفق شمالًا إلى القطب المتجمد مسلمًا ثروته المائية لمن لا يستحق! فينتهي في محيط جليدي لا يعيش فيه بشر، وكي يزداد استبداد الجغرافيا يؤلف “أوب” مصبًا في القطب الشمالي يُعد أكبر مصب نهري على سطح الكرة الأرضية.
من مفارقات “أوب” أيضًا أنه يستمد مياهه من قمم جبلية ثلجية في جبال ألطاي في وسط آسيا، وينتهي بالمثل في قطب جليدي في شمال الكرة الأرضية؛ ومن ثم فإن أغلب مساره يتم في صحراء بيضاء (صندوق سيبيريا الجليدي).
وبينما أفكر في معنى كلمة “أوب” تذكرت رحلتي إلى منابع النيل في تنزانيا وإثيوبيا قبل ثلاثة أعوام. ففي إثيوبيا يعرفون النيل الأزرق باسم “أباي”، بمعنى نهر له “مياه وفيرة”، أو “نهر كبير”. هنا في سيبيريا يرجح بعض الباحثين أيضًا أن “أوب” مشتق من “أب”، التي تعني في أصول اللغات الهندو- أوروبية “مياه” أو “نهر”.
التفسير الأكثر أهمية لدى نفر آخر من الدارسين أن الاسم مشتق من اللغة الفارسية (التي وصل تأثيرها إلى سيبيريا عبر شعوب آسيا الوسطى)، وكلمة “آب” تعني في الفارسية “مياه” أو “نهر”. ويبدو قريبًا منه في اللغة العربية كلمة “عبَّ” (عبَّ النهر أو البحر بمعنى ارتفع ماؤه وكثر).
إذا قارناه بنهر النيل، فإن “أوب” هو “النيل الأزرق”، وحين يتدفق شمالًا يلتحم بنهر إرتيش الذي يناظر “النيل الأبيض” في نموذج نهر النيل.
يعادل نهر “أوب” 80 % من طول نهر النيل (يمتد أوب إلى نحو 5500 كم مقارنة بأطول أنهار العالم: نهر النيل 6850 كم تقريبًا).
تبلغ مساحة نهر “أوب” ثلاثة أمثال مساحة مصر، إذ يبلغ إجمالي مساحة حوض النهر 2.99 مليون كم2.
لا ينتظر الناس في سيبيريا مطرًا ولا سيلًا، بل ثلجًا وصقيعًا، ودرجة حرارة دون التجمد.
ولأن البقاء للأقوى، والأكثر بنية، وأصح بدنًا، فإن الإنسان في حوض “أوب” يجعل من “الأزمة” “فرصة”، ويصنع فنًا مبهرًا من الثلج المتراكم على ضفتي النهر، فالأنهار كالبشر تتشابه في الملامح.. وتختلف في درجة الحرارة.
يقولون في “أومسك” إن الشتاء تأخر جدًّا هذا العام، ودرجة الحرارة (- 10) فقط. يتطلع سكان سيبيريا إلى شتاء “حقيقي”، تصل فيه الحرارة إلى (- 30)؛ حينئذ فقط يمكنهم التجوال، واللعب، والصيد، والمغامرة على صفحة النهر المتجمدة.
وقد أخذت الصورة المرفقة من تشكيلات قام بها الفنانون في ثلوج “أوب” في مدينة أومسك.
في مطلع عام 2016، وصلت إلى مدينة نوفوسيبيرسك، التي تعني ترجمتها الحرفية سيبيريا الجديدة (نوفيسيبيرسك). وكانت المناسبة مشاركة علمية في مؤتمر لدعم التعليم المستنير بوصفه خيارًا إستراتيجيًّا في الثقافة العربية والإسلامية في سيبيريا.
سؤال: هل توجد ثقافة عربية وإسلامية في سيبيريا؟
الإجابة: نعم.. يبلغ عدد المرتبطين بهذه الثقافة نحو 4 ملايين نسمة.
سؤال آخر: كيف وصل ذلك التأثير إلى سيبيريا؟
الإجابة: الأرض كروية وليست مسطحة.. انظر إلى الخريطة المرفقة، وابحث عن مدينة نوفيسيبيرسك Novosibirsk، وستعرف الرابط. سيبيريا ليست صندوقًا ثلجيًّا في معزل عن العالم كما تعلمنا في المدارس؛ إنها في المرمى المباشر للأفكار الواردة من آسيا الوسطى، وتتصل آسيا الوسطى بدورها بأفغانستان وإيران وتركيا ومن وراء ذلك كله عالمنا العربي.
الحكايات كثيرة في سيبيريا، والمفاجآت أكبر مما يظنه الناظر إلى الخريطة الصامتة.
قبل أن أصل إلى نوفوسيبيرسك حضرت في موسكو معرض الجمعية الجغرافية الروسية. ضم المعرض صورًا من شتى أرجاء البلاد الروسية، ومن بينها صور فريدة من كمتشتكا التقطها “فلاديمير فويتشوك”، الذي نقل إلينا بعدسته الماهرة لحظة نادرة حين تكونت سُحب حلقية فوق بركانين في سبتمبر (أيلول) 2015 في شبه جزيرة كمتشتكا في أقصى شرق روسيا؛ ولذا اختيرت واحدة من أفضل صور العالم عن الأراضي الروسية. تعرض الصورة لظاهرة تسمى “السحب الحلقية”.
والسحب الحلقية Лентикулярное облако هي سحب شبه ساكنة، تتكون في الطبقة السفلى من الغلاف الجوي على نحو عمودي باتجاه الرياح السائدة. وتحت تأثير أفلام الخيال العلمي التي تناولت الكائنات الفضائية، اعتقد بعض الناس أن هذه السحب- النادرة الظهور- هي مركبات فضائية تحاول النزول إلى الأرض.
في نوفوسيبيرسك شاركت في مؤتمر عن تجديد الخطاب الديني الإسلامي. جاءت مداخلتي عن تأثير الحركة التجديدية في الإسلام التتري داخل الأراضي الروسية.
الطريف أنني هنا في سيبيريا كنت أستشهد بتجربة من شبه جزيرة القرم التي جاء منها المجدد الديني إسماعيل جسبرينسكي (1851- 1914). أشرت في ورقتي إلى ثلاثة جوانب من تجربة جسبرينسكي:
وقد صدر العدد الأول من صحيفة “بيريفوتشيك” في أبريل (نيسان) 1883. بعد يومين فقط من مرور 100 عام على ضم روسيا شبه جزيرة القرم. وقد تناولت الصحيفة موضوعات تحديثية في الخطاب الديني، في مقدمتها أخبار البلاد الروسية، وأخبار العالم الإسلامي، ومقتطفات من الصحف الروسية، والإسلامية، وتطوير التعليم الديني، وتعليم الفتاة وإخراج المرأة من دائرة الظل، وعروض الكتب. وقد فرقت الصحيفة بين “النقل والعقل”، وميزت بين “الابتداع” في الدين و”الإبداع” البشري الحديث.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.